أستطيع أن أكون ذكيًا وقت الضرورة
لسببٍ غير معروف، يقرر عُمر الطفل ذو الإثني عشرة أعوام الانضمام إلى والده في يوم عمله الاعتيادي في أحد المستشفيات في جدة، لم يمانع والده هذا الأمر لعدم ارتباطه بمهام وظيفية مرتبطة مع المرضى بشكلٍ مباشر، مما لا يسهم في تعطيل أو إضرار وتيرة العمل.
تربط والديه قرابة ومعزة كبيرة مع أسرتي، وهو الطفل الثاني بين أربعة أشقّاء، يملك شخصية مميزة قد يستغربها البعض، فهو قليل الكلام، هادئ جدًا، لدرجة إننا أحيانًا ننتظر كيف سيفاجئنا عندما يتحدّث أو يسأل أسئلته غير الاعتيادية.
عندما زارنا مع أسرته في إسطنبول قبل عامين، كان يستوقفني أخذه فسحة من الوقت بالذهاب والجلوس وحده في سكينة واطمئنانًا في طاولة بعيدة، بعد انتهاء كل وجبة نتناولها في المطعم، يتأمل تفاصيل المطعم والصحون والأدوات، والذاهبين والقادمين من العاملين، دون أن ينسى طلب فنجانٍ من الشاي يشاركه الجلوس في صومعته المؤقتة.
يملك داخل عقله موسوعة تاريخية في كل ما يتعلّق بشخصيات وأحداث سلسلة أفلام «حرب النجوم» Star Wars. يحب أغاني الراب التنافسية على غرار «ترامب ضد بايدن» و«فورد ضد ماركس»، يعشق السيارات، ويفهم الكثير عنها رغم سنّه الصغير. اعتقدنا جميعًا أنه يعاني خطبٍ ما، إلا أنه دون شك -حسبما أرى- يملك بذرة لعبقرية مستقبلية. يعاني قليلًا في دراسته، ليس لكسله، بل لإلمامه التام باللغة الإنجليزية أكثر من العربية وتفضيله عليها. صداقاته لا بأس بها، وعلاقته بالمدرسين جيدة.
عندما بدأ بالتعرّف على زملاء والده في القسم، أبدى الجميع إعجابهم بشخصيته وروحه التهكّمية غير المقصودة نظرًا لسنه وبراءته. بدأ وهو يقف أمام موظفة من دولة جنوب إفريقيا ليسألها:
-«منذ متى، وأنتِ تعملين في المستشفى مع والدي؟»
– لترد عليه: «انضممنا أنا ووالدك للعمل في العام نفسه تقريبًا».
-«لكن شكلك أكبر بكثير منه! ».
– لترد: «في الحقيقة نعم، أبلغ من العمر اثنان وخمسون عامًا، في حين أن والدك في منتصف الأربعينيات».
– ينهي النقاش بقوله: «لا. لا. أقصد أن شكلك يبدو في الستين على أقل تقدير! ».
يقوم والده بسحبه من وسط النقاش، ويطلب منه أن «يروق». يصرف بعض الوقت، لينظر إلى زميلتهم الأخرى السعودية اللطيفة (التي تحب الأطفال)، يجدها غير منشغلة بأي مهام عملية ضرورية، ودون مقدمات يطلب منها: «ما رأيك أن تأخذيني إلى البقالة؟» في إشارة منه على فضاوتها التي يجب أن تُستغل. لترحب دون مقاومة؛ «يلا».
بعد أن صرف بعض الوقت معها في البقالة، وعادوا إلى المستشفى، طلب منها دون مقدّمات أيضًا أن يرى هاتفها، لتعطيه إياه. وجد أن شاشة الهاتف كانت مهشّمة تمامًا، لأنه كان قد وقع منها على الأرض في وقتٍ قريب. يسألها: ماذا حدث للجوال الذي يبدو جديدًا؟ لترد عليه أنه وقع منها! ويعلّق على هذا الأمر: «لماذا لم تشترٍ بيتًا للهاتف حينما اشتريتِ الجوال؟». بررت الآنسة بأنها إنسان Minimilist، ولا تحب كثرة الأشياء والأدوات. رد عليها مباشرةً: ولكنك تركبين مرسيدس! أخذتيني بها إلى البقالة، كيف تملكين هذه السيارة الغالية، ولا تشترين بيتًا يحمي جوالك!
لا أحد يعلم مع أن الموقف كان مضحكًا للحاضرين، إن كان يقصد التهكّم عليها لاهتمامها بامتلاكها سيارة فخمة (تُظهِر مكانتها أمام الآخرين، دون الاكتراث لحماية ما تستخدمه يوميًا مثل الجوال) أم عتبه المباشرة لتعارض أولوياتها في الصرف. بالتأكيد لم تشعر الآنسة بأي انزعاج من براءته في السؤال. وقد تجاوز الجميع الموقف، دون تسويغ واضح له.
جزءٌ كبير داخلنا نحن الراشدين يلتقي مع ما يُفكِّر به هذا الطفل، إلا أن الفرق لا يخرج عن كونه قدرته المباشرة على التعبير، مع احتفاظنا بنفس الأفكار دون تعبير.
يقوم في مناسبة أخرى عُمر بسؤال إحدى خالاته (على الواتساب) عن سبب الضجة التي أحدثتها العائلة نحوها من تهليل وفرح، لتخبره أن السبب هو إعلانها خبر «حملها»، ليسألها: «ولكن كيف حدث هذا الأمر؟». تكتفي السيدة بإعادة توجيه السؤال لوالدته منعًا للإحراج. ليرد عليها نصيًا: «لا بد أنكِ قمت بعمل 18+ مع زوجك، وإلا لما حدث حمل، الأمر لا يحتاج إلى تفكير».
يسأل الأطفال أحيانًا أسئلة – مثل الكِبار – يعرفون إجابتها، إلا أنهم يفضلون سماعها بأنفسهم. قد تكون بدافع التوضيح، وقد تكون بدافع الاستفهام، وقد تكون ربما – كما في حالة بطلنا – استفهاما بطعم التهكّم.
يعلم المقربون منه جيدًا أنه أذكى من الكثيرين من أقرانه، ولكن يحتاج هذا الطفل أحيانًا أن يكون مثل النساء الحسناوات. يُبدي بعضًا من انطباع «قلة الفِهم» لكيلا لا يُشعر الرِّجَال حوله بالنقص.
أو كما تقول مارلين مونرو: «أستطيع أن أكون ذكية وقتما يتطلّب الأمر، ولكن معظم الرجال لا يفضّلون ذلك».
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.