• في النادي: هل لاحظتم أن الشباب أصبحوا خلوقين؟

    قررت الاشتراك في نادي «وقت اللياقة» مستغلًا العروض الحالية، ومستثمرًا زخم برنامج المدرّب الشخصي الذي التزمت به في نادٍ وأنا في الخارج لمدة تزيد قليلًا عن الشهر، وطبعًا محاولة لتجنب الحر الذي بدأ ينطفئ هذه الأيام باستبدال المشي بآلة الدراجة.

    أول ملاحظاتي كانت أن النادي أصبح شديد الازدحام فعلًا. أخبروني أن هناك فرعًا قريبًا كان قد تم إغلاقه، ليتحول معظم عملائه إلى الفرع الذي أزوره، كل يوم أصرف قرابة العشر دقائق بحثًا عن موقفٍ لسيارتي، في مختلف الأوقات، ظهرًا، عصرًا، مساءًا، وبالكاد أجد واحدًا في الحارة المجاورة.

    بعيدًا عن التنظير؛ أجد أن هذا الأمر إيجابيًا في الحقيقة..

    شعور جيد أن تجد جميع طبقات ونوعيات المجتمع تتمرن حولك، المُسن والمراهق وصاحب الشياكة والآخرين مثلي الذين يرتدون أول شيء يروه في الدولاب. كلما أتقدم سنة واحدة في العمر، تزداد مساحات تفكيري تجاه مستقبل بناتي، أحاول أن أُحِل هذه المعضلة بتأمل سلوك المراهقين والشباب الأكبر قليلًا، وبلا شك أعتقد إن نسبة كبيرة من المجتمع تحاول تربية نفسها على الانضباط، على الأقل في النادي الذي يعطي مفعول الإعصار كما يقول «تيت»؛ إن التزمت في التمرين، ستجد إنك مرهق بعد فترة، وستنام بشكلٍ أعمق بطبيعة الحال، ثم سيقودك هذا النمط إلى التحسّف على الوجبات السريعة التي ستُضيّع تعبك في النادي، لتبدأ التفكير في الأكل الصحي، وبعدها سوف ينعدل مزاجك وجسدك بسبب طرد التوتر من خلال التريُض بالتدريج لتُنتج أكثر في عملك اليومي، وبعدها ستجد أنك بسبب الرياضة أصبحت منتظمًا في أمور أخرى كثيرة جانبية في حياتك.

    كلما أخبرت أحدًا إنني مشترك في هذا النادي، يكون أول تعليق سلبي تجاهه «أنه مزدحم» وأصبحت أقول: أن تكون مع هذا النوع من الازدحام خيرٌ من أي نوع آخر، وفي الحقيقة يجعلك الازدحام متحمسًا إن نظرت له بشيءٍ من الإيجابية.

    ملاحظتي الثانية (دون مزايدة أو مجاملة) أن الشباب السعوديين عمومًا ومرتادي النادي خصوصًا أصبحوا غاية في الأدب والذوق، أجد دون مبالغة أننا أصبحنا شعبًا مؤدب أصيلًا، تجد في كل زاوية محاولات مستمرة مساعدة الشباب بعضهم البعض، المحترفين يساعدون المحترفين الآخرين في الأوزان الثقيلة جدًا، والمتوسطين لا يمانعون أبدًا تعليم المبتدئين في أفضل وضعية حمل أثقال. تجد لحظات كثيرة شخصًا بالكاد يُسقِط أثقاله لتُفاجئ بصراخ من حوله «شد حيلك يا بطل» أو «إيوة! إنت قدّها» متبوعة ببعض التصفيق. لاحظت أن معظم الشباب أصبحوا يستخدمون كلمات لطيفة ونبرات صوت متزنة، يسارعون للاستجابة على أي اعتراض أو ملاحظة من أحد الزملاء.

    أحد الصِغار طلب مني بأدب أن أساعده بالرفع على جهاز السكوات، انتظرت أن يقول يا عم، لأتركه وأتحول أنا إلى قليلٍ للأدب، لكنه من حسن الحظ اكتفى بـ «لو سمحت»، بعد أن ساعدته اكتشفت أنه في العمر السادسة عشر، أصغر مني بعشرين سنة.. هو ومجموعة كبيرة ممن في عمره منتظمين جدًا علي ارتياد النادي، أراهم كل يوم؛ هذا الأمر أصابني بفرح غير مبرر.

    قد يقول القارئ الكريم إنني أُبالغ قليلًا، لكنني في الواقع لم أرى هذا التفاعل الاجتماعي اللطيف في الخارج لسنوات وأنا أتمرّن.

    وأُعلّق أيضًا: أن نفسية الابتعاد والإجازة ومحاولتي المستميتة للتنبؤ بمستقبل مشرق هي ما جعلت الأمر السلبي، إيجابي.. ربما.

  • عند مقابلة إنسانًا مهم

    لا أعرف من سيحتاج لمثل هذا الكلام، إلا إنني سأذكره من باب الكفاءة الحياتية، وشخصيًا أحاول تطبيقه بالحذافير، ودائمًا ما ينجح الأمر.

    عندما تريد مقابلة إنسان مهم أو مشغول أو مشهور وتريد منه أمرًا ما حاول أن تلتزم بالآتي:

    أولًا: عند الاتصال، اسأل عن الوقت إن كان مناسبًا أم لا (أقوم بهذا الأمر مع جميع اتصالاتي بكل الناس دون استثناء).

    إن لم يرد على الاتصال، قم بإرسال رسالة نصية (وليس واتساب) تتضمن بدقة الموضوع الذي تريد لقاءه من أجله وطبعًا لا تنسى أن تُعرّف بنفسك. قد تتفاجئ بأنه سيكون أكثر كفاءة منك وسيرسلك لشخص سيُفيدك أكثر منه.

    اقترِح عليه التواصل مع مساعده للمزيد من التنسيق من أجل الموعد (إن كنت تريد اجتماعًا) في نفس المكالمة الأولى.

    ثانيًا: عندما تلتقي به، حاول ألا يتجاوز الاجتماع عشرون دقيقة بالضبط (أقترح أن تضع منبهًا هزازًا في جوالك أو ساعتك الذكية) لماذا؟ لكيلا تكون ضيفًا ثقيلًا على أية حال، ولكي يستسهل لقاءك في المرة القادمة، وغالبًا مثل هؤلاء الأشخاص مزحومي الجدول، وستشعرهم بنوع من التأنيب لأنك أخذت مكان شيء آخر في قائمة المهام.

    ثالثًا: وقت اللقاء تكلم لمدة خمس دقائق في البداية عن جوانب شخصية تخصّه، رياضته المفضلة، إجازته الماضية، شيء يخص أبناءه. الناس تحب أن تتحدث عن جوانبها الشخصية أكثر من العملية، ومثل هؤلاء ربما يكونوا قد ملّوا من كمية الناس اللذين يريدون منهم مصلحة دون اكتراث لأمور أخرى.

    رابعًا: قبل أن تودعه، اسأله عن أفضل وسيلة تواصل يفضّلها، والتزم بها.

    إن رفض لقاءك بحجة الانشغال، اقترح وقتين متباعدين (هل تسمح بالاجتماع: الأحد القادم الساعة الثانية، أم الثلاثاء الساعة العاشرة؟) إما سيوافق، وإما سيضطر لاقتراح وقت ثالث.

    شخصيًا.. أحب أن أهدي كُتبًا في مثل هذه اللقاءات، لا أعرف إن كان هذا الأمر مفيدًا أم فعالًا، لكنني أفعله على كل حال.

  • ما يتوقّعه المدون من القارئ

    دون مقدمات.. هناك أمرٌ يشغل بالي منذ فترة، وربما أجد الحل مع القارئ الكريم.

    تزداد صعوبة الكتابة أكثر فأكثر، ليس لأنها تقنيًا أمرٌ صعب، بل لإحساسي برهبة القارئ الذي أتخيّله وهو يقف أمامي يقرأ ما أكتبه. الصعوبة تستدعي الاستحضار الدائم له، وهنا يولد نوع من التناقض، فالغزارة (في الكتابة) هي أم الجودة، ودائمًا ما كُنت أستغرب أن الكثير من الكتابات البسيطة تُصبح بشكلٍ غير متوقع ذات تأثير أكبر من الكتابات العميقة على مزاج وردة فعل القارئ، النقيض من الطرف الآخر هو المحاولة المستميتة لعدم جعل القارئ لكل ما أكتب يعتقد إنني أستخف به أو بعقله معاذ الله، ولهذا لا أعاني من نقص المواضيع التي أُفضّل الكتابة عنها (أو ما يُسمّيه النخبويون حبسة الكاتب  Writer’s Block) بل لاعتقادي أن القارى يجب أن تُستعرض أمامه أفكارًا واضحة وصلبة وعميقة، وهذا بطبيعة الحال يتعارض مع فكرة الانضباط والاستمرارية عند الكاتب، فهو يجب أن يكتب. احم.. أي شيء يخطر على باله وإحساسه!

    خذ مثلًا مدونة أحد أشهر اقتصادي العالم «تيلر كوين»؛ يكتب عن المطاعم، والسياسية، وأمور بسيطة، وأخرى شديدة العمق، وأحيانًا أخرى يكتب اقتباسًا واحد يرى أنه يستحق أن تُخصص له صفحة كاملة فارغة حولها ليركز القارئ فيه.

    أنا من أشد المعجبين به، سلاسة قلمه قدوة يحتذى بها بالنسبة لي، وهذا ما يتعارض مع اعتقاد آخر أيضًا حمّلت نفسي مسؤوليته بشكلٍ ليس له داعٍ، أن هناك فرقٌ شاسع بين الكتابة المنتظمة والنشر المنتظم، ولو إنني أميل مع النشر المنتظم دومًا.

    لا أميل لمُسمى «صانع محتوى»، وأميل أكثر للتسمية الأكثر دقة على الطراز القديم: كاتب، مخرج، رسّام، يوتيوبر (استثناءًا)، طبّاخ، صحفي، روائي، محاسب، مصارع إلخ. وأجد نفسي محبًا ومخلصًا للكتابة أكثر من أي أمرٍ آخر، ولهذا أجد نفسي ملزمًا بأن أكتب دومًا دون توقّف.

    في أحد المرات كتبت تعليقًا سلبيًا مطولًا عن أحد المطاعم (أصبحت قبلها Local Guide محترمًا في خرائط جوجل من كثرة التعليقات والتقييمات)، للحظات كدت أن أنشره للآخرين، ترددت خشية أن أرى سيلًا من إلغاء الاشتراكات من مدونتي، ولا يستطيع قلبي أن يقول «براحتكم» ومع ذلك فإنني أخون نفسي جزئيًا، بعدم التعبير للدرجة الأقصى.

    أمرٌ آخر، وهو مثلًا بحثي الغزير وقراءاتي الكبيرة في مجال العلاقات الإنسانية مؤخرًا: بين الوالدين وأبناءهم، وبين المطلّقين، وحديثي العلاقات الرومنسية، الفروقات بين الجنسين وغيرها. عدة قناعات وأفكار جديدة تشكّلت بسببها اعتقدت أنه من الأجدى الكتابة عنها، ولكن.. يظل القارئ مع رهبته لا ينفك أن يظهر لي، فأنا إن كتبت عنها قد أحكم على كتاباتي الأخرى بالإعدام.

    وهنا أتقدّم للقارئ القديم قبل الجديد بسؤال المليون ريال: هل سيفوتك الكثير إن لم يُكتب عنه؟

     

  • ماذا بعد العودة؟

    يحكي لي زميلي البارحة عن زوجته التي بكت عندما قرروا العودة من رحلة إجازة الصيف في «بالي» بعد أن قضوا قرابة الشهر فيها. «كيف نترُك الخضرة والبحر وكل هذا الجمال.. هكذا؟» تعلّق مبررة حزنها.

    لا يسع الإنسان إلا للعودة إلى حياته الطبيعية مهما طال غيابه، الطِباع والعادات المكتسبة والحياة التي نتوقع انسجامنا السريع بعدها لا تتطور بالقدر الكبير الذي نتوقعه منها، القليل فينا يتغيّر مع مرور الوقت، وتظل أساسات على ما اعتدنا عليه يومًا بيوم هي المسيطرة على نمط الحياة.

    تعود المخاوف والهموم والطموحات والأحلام عندما نعود لأماكننا؛ وفي حالة زميلي والكثيرين، يستبدل الكسب والبحث عن الرزق الوقت الأكبر في عمرنا، ليتبقى القليل لنستمتع بالتغيير المؤقت فيه.

    يتهكّم النفساني جوردن بيترسون على الصورة النمطية لحلم الإنسان الغربي بقضاء ما تبقى من العمر بعد التقاعد على شاطئ البحر وهو يشرب العصير المنعش، بسؤاله: «جلست على البحر، وشربت العصير، ماذا بعد ذلك؟»، ثم يسترسل بعدها عن ضرورة امتلاك الإنسان لمعنًا أكبر في حياته بدلًا من التفكير في النهايات السعيدة أو فترة ما بعد التقاعد. فالمعنى هو ما يُعطي قيمة لحياة الإنسان وشغفًا أكبر من اللذة التي تنضب سريعًا بطبيعة الحال، وإلمام النفساني الشهير «فيكتور فرانكل» بهذا الأمر هو ما جعله يفهم النفس البشرية التي كما يقول: «تُلهي نفسها بالملذات، عندما لا تجد معنى لحياتها».

    أذكر عام ٢٠١١م عندما قمنا بزيارة مدينة «آنسي» جنوب فرنسا، كُنت بالفعل منبهرًا بالطبيعة والجبال والبحيرة وصِغر المدينة الساحر. وبعد أربعة أيام سألت نفس السؤال: وماذا بعد؟ وسرعان ما قررنا استكمال الرحلة إلى مدينة كبيرة بعد أن قضينا اليوم الأخير في الفندق دون أنشطة.

    يتشكّل المعنى في نظري بأمرين أساسيين بعد إيمان الإنسان المُطلق بدينه ووحدانية خالقه وهم: العائلة والدائرة الصغيرة، والعمل أيًا كان، فلا يوجد عمل لا يفيد إنسانًا آخر بالضرورة. يبقى الحفاظ على استمرار الدائرة المحيطة هو الهدف الأسمى لمعنى الحياة، في حين أن التطور، والكسب، وتغيير حياة الآخرين هو الهدف الأسمى من العمل.

    لا بأس بالانقطاع المؤقت دومًا.. فدونه لا يكون هناك جهدٌ مسخر لأي معنى.

    عودًا حميدًا للجميع.

  • عندما ننسى أن البالغين أطفالٌ كِبار (عن تقبّل الانتقاد)

    لا يوجد إنسان يستمتع بالانتقاد.

    لا يستمتع به البشر العاديين، ولا الآباء، ولا الإخوة، ولا الأصدقاء، ولا رجال الأعمال، ولا الأطفال، ولا الفنّانين. هذه حقيقة، حتى إن أقسم أحدهم لي بعكس ذلك.

    «هل أصبحت أسهل؟» تسأل إحدى الكاتبات الشابات كاتب عامود «ذا نيويورك تايمز» الكاتب المتمرّس «ستيفان مارش» عن تجربته حتى الآن مع الكتابة؛ «هل نمى لديك جلدٌ أسمك؟» (أو قدرة أعلى على تحمّل الانتقاد؟)، لم يملك الإجابة على هذا السؤال.

    نفس هذا السؤال طرحه الأخير على الروائي «نيثن إنجلاندر» والذي لم يملك إجابة أيضًا، والذي سأل بدوره الروائي الأشهر منه «فيليب روث»، والذي قال: «سيصبح جلدي أرق وأرق حتى يتمكنوا من إبعادك عن الضوء والنظر من خلاله».

    هل تعلم ماذا يقصد روث؟

    الانتقاد وإن كان قليلًا، سيصبح في يومٍ ما مثل رصاصة الرحمة. ينهي المسيرة بهدوء، دون اكتراث الآخرين.

    يشير دو بوتون في إحدى لقاءاته بأننا أحيانًا نستهين بما يحصل داخل عقل الكِبار عندما نتكلم معهم، فنحن لا نسأل الأسئلة المعتاد سؤالها في تعاملنا مع الأطفال: هل حصل على قسطٍ كافي من النوم؟ هل هو جائع؟ هل يعاني من مشاكل صحية؟ هل هو حزين لأن معلمته كانت قد وبّخته اليوم؟ وفي حالة الكُتّاب الذين ذكرناهم.. إلى أي مدى سيكون الانتقاد مهمًا لهم أو إلى أي مدى سيكون بناءً في عملهم القادم؟

    يذكر مارش في مقالته (رثاء الكاتب: كلما كتبت بشكل أفضل، ستفشل أكثر):

    السرد السائد في الوقت الحالي هو أن الفشل يؤدي إلى النجاح. يحب الإنترنت هذا الاقتباس: منخفض ثم مرتفع؛ المثابرة الأولى، تم العمل عليها؛ كافح. كلما زاد النضال زاد الفداء. أنا أكره تلك القصص.

    لا تخبرني كيف ستسير الأمور كلها. لا تريني كيف أن «جي. كي. رولينج» تخربش كتابها الأول عن هاري بوتر في المقاهي، وهي والدة وحيدة عاطلة عن العمل وتعتمد على [الحد الأدنى] من الرفاهية. قصص مثل هذه مفيدة مثل إعلانات اليانصيب في التخطيط للتقاعد. شخصيًا، شعرت دائمًا بالارتياح لإدراك أن الفشل هو جسد حياة الكاتب، وأن النجاح ليس سوى لباس مؤقت. لكني أطرح على نفسي سؤالاً أعرف أن الكثير من الكُتّاب في فترات مختلفة عديدة، قد سألوه: هل الآن وقت رديء بشكل خاص لكوني كاتبًا، أم أنه فقط شعوري الخاص؟

    ويضيف:

    لا ترتبط قدرات الكُتّاب ومهنهم ببساطة ببعض.

    هناك نوع شرير من السخرية هو الذي قاد الحياة العملية لهيرمان ملفيل. كان كتابه الأول “Typee: A Peep at Polynesian Life” – محض هراء، [وفي نفس الوقت] أحد أفضل الكتب مبيعًا. كان كتابه الأخير “Billy Budd “، وهو تحفة فنية لم يستطع حتى نشرها بنفسه.

    كان مصيره مثل النكتة السيئة. كلما كتب بشكل أفضل، فشل أكثر. اشتكى لمعلمه ناثانيال هوثورن «على الرغم من أنني كتبت الأناجيل في هذا القرن، إلا أنني على ما بدو يجب أن أموت في الحضيض». بعد وفاته، جلست مخطوطة «بيلي بود» في صندوق خبز، لا يعرف عنها سوى عائلته. تم نشرها بعد وفاته، بعد ثلاثة وثلاثين عامًا.

    مات ملفيل كطفل ينشر قصيدة غير منتظمة مع رواية في درجه.

    جيمس بالدوين الذي عانى من العنصرية معظم أيام حياته أخبر أحد الصحف الباريسية عندما سؤل عن تجربته: «اكتب. ابحث عن طريقة للبقاء على قيد الحياة واكتب. لا يوجد شيء آخر ليقال. إذا كنت ستصبح كاتبًا، فلا يوجد ما يمكنني قوله لإيقافك. إذا كنت لن تكون كاتبًا، فلن يساعدك أي شيء.

    حتى هذه الأيام، يجد الكثير من المقرّبين أن ما أقوم به مع كتاباتي مضيعة للوقت. فلا ثروة خلفه ولا رصيدٌ مالي يحفظ كرامة بناتي، إلا أن كرم الله عليَ وحكمته بأن اخترت الأعمال قبل الكتابة لتكون هي الملاذ الأول، وبالطبع ليس الأخير.

    صفحة كاملة في وصيتي كتبتها لبناتي عمّا يجب أن يفعلوه بكتاباتي إن غادرت الحياة، أعيش قبل تقبّل الانتقاد مع خوف أن يذهب كل شيء أدراج الرياح، هكذا هو طمع الإنسان، يريد أن يبقي إحساسه بالفضول مع غيره حتى بعد الموت.

    وعن حال الكِبار في تقبّل الانتقاد، أعرف أن هناك أشخاصًا مثلي في هذا العالم، يتصارعون مع أنفسهم اللوامة لكي يجلسوا ليكتبوا، هم يعيشون دوامة لا تنتهي من انتقاد الذات، دوامة أكبر مع إدراكهم بأن كل الكلمات القادمة ستكون أصعب من الكلمات التي نُشرت. في الحقيقة كل الفنون والأعمال هكذا، يعلم رجال الأعمال أن المليون الثاني أصعب بكثير من الأول، ويعرف الفنانين أن لوحاتهم التالية سوف تُرهِق أحاسيسهم.

    هل تعلم ماذا يقول الرياضيون لك إن قررت أن تبدأ نمط حياة صحي؟

    استخدم السلالم بدلًا من المصعد، ادخل المشي ضمن عاداتك، حاول تدريجيًا أن تُخفف من الأطعمة السكرية؛ حاول أن تتحول من إنسان عادي لإنسان يتحرك قليلًا.

    لكن هل تعلم ماذا يقول المدربين المحترفين للرياضيين المتمرسين؟ جزء من الثانية سيغير حياتك.. سنتعلم الأسبوع المقبل أن نرفع أثقالًا ضعف ما اعتدت على حمله، يوم واحد من السهر سوف يخرّب كل شيء، اعتزل الناس، واضب على البرنامج، اشتري العديد من الأدوات المكلفة.

    تتغير كل اللعبة بمجرد أن تدخل إلى السباق.. السباق الذي اخترته كرياضي في حياتك.

    هل تعلم ماذا تتوقع شريكتك منك إن اعتادت على نمط حياة مكلف؟

    تتوقع مثل أي إنسانٍ طبيعي، المزيد من الرفاه. وفي حالتك، ستتوقع من نفسك أن تكون أكثر عطاءً عندما تتحدث معها. كل شيء.. بالفعل كل شيء.. على ما يبدو يسير بهذه الطريقة. يزداد في صعوبته، أكثر من استمراره على نفس الوتيرة.

    هل تعلم ماذا سيُصيبك إن انتُقدت؟ كل خيالاتك ربما ستختفي تجاه ما حاولت القيام به.

    قبل تقبّل الانتقاد عند الكِبار، أو قبل أن تتعلم كيف تتقبل الانتقاد بنفسك. حاول أن تستسلم للفكرة التي تقول بأنه جزء من هذه الحياة، تجاهله كثيرًا، وتقبّله في قالبٍ منتظم.. عندما تكون مستعدًا له، فلا ضرورة له إن كان سيوقفك عمّا تحاول فعله من الأساس.

    اطلبه.. ولا تستقبله بعشوائية.

    وإن جاء دون طلب، اعتبره حبة دواء تأخذها لتنهي ألمًا مؤقت.


    Reference: A Writer’s Lament: The Better You Write, the More You Will Fail by Stephen Marche.

     

     

     

     

     

  • محاكاة القدوة أسهل من اختراع الطريق

    (١)

    قرأت من مقالة مورجان هوسل «تفاؤل مضاعف» (Compounding Optimism) النص التالي:

    كان ستيف في العشرينات من عمره عندما ذهب للقاء مؤسس شركة «Polaroid» إدوين لاند. وقال: ستيف، «كانت زيارة إدوين لاند أشبه بزيارة ضريح … إنه بطلي».

    أخذ جيف بيزوس الكثير من الأفكار من سام والتون. كما أخذ كل من ستيف وجيف الكثير من الأفكار من شركة سوني.

        تجد دائمًا هؤلاء الأشخاص في المكان الذي تريده، «أوه، لقد اعتقدت أن هذه كانت فكرة لستيف جوبز.» لا.. لا.. إنها فكرة من مؤسس شركة سوني «أكيو موريتا»، أو فكرة «إدوين لاند».

        شاهد العروض التقديمية التي قدمها ستيف جوبز حيث قال: «نحن نبني عند تقاطع التكنولوجيا والفنون الليبرالية.»

    في الحقيقة قال إدوين لاند تلك الكلمات بالضبط!

        لن تجد أبدًا أي شخص يصل إلى قمة المهنة دون دراسة الأشخاص الذين سبقوه والتعلم منهم والإعجاب بهم.

    الجملة الأخيرة ربما تُفسِّر الكثير مما أود قوله.

    (٢)

    في إحدى اللقاءات العامة، قررت أن أختار موضوع المحاضرة عن «سحر المعدّل التراكمي» في حياتنا، وعن تأثيره البالغ في عدة جوانب، منها طبعًا الكتابة، وبناء العادات، والاستثمار، وتنمية المعرفة عند الفرد. تفاجأت من أعيُن الحضور بأنني لم أُحسِن إيصال رسالتي، وبعد عشرين دقيقة لاحظت أن معظمهم فقد اهتمامه بالجلسة تمامًا، ولذا غيرت اتجاه الجلسة إلى فقرة الأسئلة والأجوبة والمناقشة المفتوحة، وبالطبع أصبح ما تبقّى منها مسليًا ومثيرًا.

    تعّلمت قبلها: أن الإنسان يُفتن بالنتائج، أكثر من الإعجاب بالطريق المؤدي لها بكثير.

    ولذا، دائمًا ما أذكِّر نفسي بأن السلوك أهم من الأفكار..

    الكتابة المنتظمة أهم من اختيار المواضيع.

    الاستثمار الممل المنتظم.. أفضل من الدخول في مشاريع مغرية.

    رياضة المنزل المستمرة.. أفضل من الاشتراك في نادٍ فخم.

    عندما ننظر إلى ثروة أحد رجال الأعمال أو المستثمرين المخضرمين، نُصاب بنوعٍ من الإعجاب من النتيجة التي وصل إليها، نفس الرجل إن أخبر شبابًا صغارًا في السن بأن السبيل إلى الوصول لنفس الثروة مثلًا هو: العمل الدؤوب، والاستثمار البطيء، وتقليل الصرف، والقراءات المملة، وبناء الفريق، وأخذ المخاطرة؛ وغيرها من الأمور التي يجب علينا تجربتها لفترات طويلة جدًا، فعلى الأغلب سيكون هناك واحدًا من كل عشرة شباب مستعدين – على أرض الواقع – تجربة كل هذه الأمور، وبالطبع، لا ضمان للنتائج.

    لماذا كل ذلك؟

    لأن الإعجاب بالنتائج بديهي، بينما التركيز على الأعمال التراكمية البطيئة غير بديهي في نتائجه!

    هنا اللغز.

    في حِرفة الكتابة مثلًا، كل ما يتطلبه الأمر انتظام في القراءة والكتابة ومحاولات بطيئة لتطوير الحِرفة، حتى يصل الكاتب إلى نتيجة مرضية في المستقبل. هذا الموضوع على بساطته، هو نفس الموضوع الذي جعل معظم الحضور في الجلسة يشعرون بالملل؛ وقد يكون لسان الحال: «هل تقصد أن عليَ أن أقضي سنينًا طويلة في ممارسة القراءة والكتابة (وعلى الأغلب لن أنجح)؟»

    ربما تكون الإجابة الأكثر واقعية هي: نعم.

    ماذا عن فكرتي في كتابة كتاب؟

    تستحق المحاولة، ولكن أغلب الظن بأن الكتاب لن ينجح، هذه الواقعية قد تكون صادمة، إلا أنها تظل واقعًا، وليست تعاطفًا.

    (٣)

    أفضل طريقة لتقصير وقت المعدّل التراكمي وزيادة فاعليته في رأيي هو: المحاكاة.

    تريد أن تُصبح رياضيًا ناجحًا: حاول أن تُقلِّد ما يفعله بطلك في هذا الأمر.

    تريد أن تصل إلى نتائج استثنائية في رسوماتك: حاول أن تحاكي فنّانك المفضل. لفترات طويلة، مع محاولات جانبية للتطوير.

    نفس الأمر ينطبق على الأفكار، والأعمال وكل الممارسات..

    أعتقد إننا نُعطي موضوع العصامية (حتى في الأفكار) ثقلًا ليس له داعٍ. فالأفكار بطبيعتها تراكمية، تأتي من أشخاص آخرين في هذا العالم سبقونا إليها، ومهمّتنا أن نجمع تراكمها ثم نطوِّر عليها، بدلًا من التركيز طيلة الوقت على الابتكار.

    وورن بافيت حاكى طريقتي بين جراهام وفيليب فيشر في «استثمار القيمة». ثم طوّرها فيما بعد مع شريكه تشارلي منجر.

    جيف بيزوس حاكى سام والتون (مؤسس وول مارت) وشركة سوني. ثم ركّز أكثر على تقليل تكاليف الشحن.

    توماس أديسون حاكى أفكار وطريقة عمل الفيزيائي مايكل فارادي الذي توفي عام ١٨٦٧م.

    في تجربتي الشخصية، لم أعرف كيف كُنت سأبدأ إن لم يكن هناك كُتّاب مفتون بأسلوبهم، ومعجب بكتاباتهم، وآخرين.. كُنت مفتونًا بغزارة انتاجهم.

    الخلاصة:

    ربط التراكم؛ أو العمل ببطء وانتظام. ومحاكاة المبدعين الآخرين (أو حتى تقليدهم) أفضل عدة مرات من اختراع طريق جديد.

     

  • قلق الخوارزميات والتواصل الاجتماعي

    يُخيّل إليَ لحظات أن العالم كله أُصيب بالجنون.

    جدالات المشجعين على ثقافة المثلية والمحتفلين بها، ومشاهد لا حصر لها لرواد ثقافة الـ «Woke». وإعلانات على منع أفلام تحمل رسائل مباشرة (بعدما اعتدنا السماع عن الرسائل المبطّنة)؛ هي مُعظم ما أشاهده اليوم على مختلف حسابات التواصل الاجتماعي. ناهيك عن حركات النسوية، ونصائح متضادة عن الصحة وأفضل نمط غذائي، ومقاطع عن ضرورة إدمان الذهاب إلى الجيم، والتشجيع على الاستيقاظ منذ الساعة الرابعة فجرًا لكي نُتحِف أنفُسنا بأيام طويلة مع الإنجاز. نساء لا يعرفون كيف يتعاملون مع الرجال، ورجال تنقصهم الرجولة، وحفلة من الفوضى الاجتماعية التي أصبحت تسود العالم.

    وفي خضم هذه الأمور.. أتناسى شيئًا مهمًا؛ وهو أن «خوارزميات» حساباتي الاجتماعية هي التي تُظهِر لي ذلك، أما العالم، العالم الحقيقي.. نعم، فيه الكثير من الفوضى، إلا أنه ليس بهذا المستوى الذي يُخيل إليَ.

    عندنا في المملكة مثلًا.. نمر بمرحلة تاريخية من التغيُر الإيجابي على جميع الأصعدة، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا. أطالع من حولي، وأجد أن النسبة الأكبر من الأهل والأصدقاء أصبحوا متمسكين أكثر من أي وقتٍ مضى بقناعات وقيم سامية كُنت أعتقد أنها بدأت تنفلت منهم.

    أجلس مع فتيات العائلة من هم دون العشرين، أسمع قناعات رائعة تقودهم نحو مستقبل رهيب، والكثير من الشباب حولي منشغلين بإنشاء أعمالهم أو محاولة أخذها إلى مستوى أكبر. أجد مع كل ذلك استنكارًا لا يحمل أي تردد تجاه الفوضى الموجودة في المجتمعات الغربية.

    لا تزال الأسرة هي المحور لدينا، كما أن دور الأبوين أصبح أكثر أهمية من ذي قبل، ولا تعاطف بأي شكل مع جُنون صحوة الـ «Woke». كما أن القضية الفلسطينية لم تُنس، والتركيز على الدراسة شغلًا شاغل لنسبة كُبرى من الجيل الأصغر.

     لا أعرف لماذا تسعى المجتمعات الغربية لأخذ مساحة أكبر من هذا التخلّف، بل إنني قبل يومين وأنا أمارس رياضة المشي فكرت بفكرة أن شخصًا ما يجب أن يكتب كتابًا عن هذا التغيُر الذي أصبح يُمارس بالقوة علينا.. نحن العاديين.. المسؤولين، والمهتمين بشؤوننا فقط. حاولت تشجيع نفسي أن أخذ الخطوة الأولى، وها هي الآن.

    أعتقد أنه من المجدي أن نُذكِّر أنفسنا بأن العالم ليس هو ما نراه في التواصل الاجتماعي. العالم الحقيقي بعيدًا كل البعد عن القلق المزروع من الغرب. العالم الحقيقي بالنسبة لي هو بيتي وأسرتي وأحبائي، وعملي، ووطني، وديني. فقط.

    الخوارزميات ليست عالمًا حقيقي.. بل هي قلقٌ حقيقي إن صدّقناه وتفاعلنا معه.

     

     

  • لماذا لا أحب ما كُنت أحبه؟

    أستحضِر مؤخرًا كلمة أحد الأصدقاء العزيزين عندما قال: «أصبحت ذلك الإنسان الذي كُنت أُطلِق عليه النكات قبل عشر سنوات». سبب الاستحضار أن هذا الأمر أصبح ينطبق عليَ بشكلٍ يصدمني في تفاصيله. قد يكون السبب هو تغير الاهتمامات الشخصية، أو حالة من التقدّم في العمر، أو ببساطة الانغماس في النضج الذي لا نستوعب انعكاسه في اهتماماتنا وتصرّفاتنا. خذ مثلًا:

    • اقتراح الخروج من المنزل مع الأصدقاء أو استقبال دعوات القهوة والعشاء، كانت تُشعِرُني بالحماس بمجرد رؤيتي لرقم المتصل. أما اليوم، إن ظهرت إحداها فإنني أفكر مرتين؛ أحمل هم تضييع الوقت، وجدوى المواضيع التي ستُفتح، والمصاريف التي ليس لها داعٍ في عالمٍ متضخم في أسعاره، وتساؤل عن حجم الترفيه الذي سيكون مقابل الخروج، مع القليل من الذنب لابتعادي عن بناتي، وأخيرًا مقارنة متكررة في المفاضلة بين وقت الخرجة ووقت القراءة أو الكتابة.
    • سافرت مؤخرًا مع صديقين عزيزين كانوا متحمسين جدًا، لاحظت أننا جميعًا كُنّا نُفضّل العودة إلى المنزل مبكرًا نسبيًا، لقضاء بعض وقت الراحة قبل النوم ومشاهدة أحد عروض «الستاند أب كوميدي» سويًا، في حين إنني تخيّلت حال نفس السفر مع نفس الشلة قبل عشر سنوات، والذي سيجعلنا إما أن نعود للمنزل مع شروق الشمس، أو تلبية الفضول لتجربة أماكن جديدة جريئة كحال أي شباب، إلا أن الأصدقاء كانوا سعيدين فقط بزيارة بعض المطاعم الممتازة، مع انبهار كبير بسبب ذهابنا لأحد المتاحف التاريخية، مع الحرص على أخذنا بقية الأيام لأعلى قسط من النوم. العجيب أيضًا، أن حماس الخوض في النقاشات الثرية كان أكبر بكثير من تجربة أماكن جديدة، رغم أن أحدهم كانت هذه زيارته الأولى للمدينة.
    • الحماس اليوم لقضاء وقتٍ أكبر مع العائلة أصبح معاكسًا تمامًا عمّا كان عليه الوضع قبل عشر سنوات. أصبحت لا أوافق على اللقاءات الاجتماعية إلا بعد تحضّري نفسيًا لها، وكأنها اجتماعات عمل. التحوّل من شخص اجتماعي مجنون إلى آلة حاسبة لكل الظروف، أمرٌ لا أعرف كيف أقيمه، إلا أنه مدعاة للتأمل.
    • كوب القهوة والكتاب أصبحوا فعليًا قمة الإغراء في الحياة.
    • التفاصيل الصغيرة خلال اليوم: كالاستماع لأغنية جميلة، الجلوس بهدوء، وجبة لذيذة، التفكير في حلول لمشاكل عملية، وأحيانًا بعض العمل على المسؤوليات، استبدلت بشكلٍ قاطع كل وسائل الترفيه التقليدية.
    • سيارتي تقضي بعض الوقت في الصيانة. ولإمكانية ممارسة مهامي العملية من المنزل، عدلت عن فكرة استئجاري لسيارة والاستسلام لمَ تبقّ من أيام الأسبوع مع فكرة البقاء في المنزل، وطبعًا، التعذّر من الجميع بأنني لا أملك سيارة ولا أريد استخدام أوبر أو كريم الذين أصبحت أوقات انتظارهم أكثر من طول المشوار.
    • اقتناعي التام بأن كل ما ذُكر أعلاه قد يكون ضربًا من الجنون لنسختي الحية قبل عشر سنوات، لكن الأهم أن هذه القناعة نابعة من إحساس داخلي، يُشعرني ببعض الإنجاز والهدوء؛ خصوصًا أنها مصحوبة بوقتٍ مخصص للرياضة والمشي والتفكُّر.

    أصبحت لا أحب ما كُنت أحبه -حسبما أعتقد- بسبب شيء لا أملك خيارًا فيه. سلبيًا: هو بعض التقدم في العُمر، وإيجابيًا: هو بعض النضوج والتشبُّع من الملهيات.

     

  • ما بعد السُبات

    أتحدّث مع صديقي أول أيام العيد ليخبرني أن مهمة العيد في حياة الناس -إلى جانب الطقوس الاجتماعية- هي فصلهم عن الواقع. يحاول أن يقول بأن أي شيء متعلق بالكتابة أو الإنجاز لا يفترض به أن يكون ضمن الأولويات. وبالفعل تحقق هذا الأمر، وتم فقد السيطرة على كل شيء؛ الأكل والنوم واللقاءات الاجتماعية، وعدم ممارسة أي نوع من الرياضة، أو عادة المشي اليومية التي تملك مساحة خاصة في قلبي.

    مشكلتي كانت أن صديقي لم يكن يعلم أنه ومن دون قصد أصبح يُذكّرني بأن هناك شيئًا يجب أن أتناساه، وتحول الموضوع إلى حديث مع النفس: «طنِّش الكتابة.. طنِّش المهام المعلّقة قبل العيد»، وها أنا أعالج حالة السُبات الاختيارية بنوع من التوازن؛ بأن أختار لكلام اليوم أسلوبًا لا يهدف إلى أي نتيجة.

    1. من باب التغيير، قررت البدء في مشاهدة مسلسلٍ تافه لقتل الوقت وشبه محاولة لتضبيط الساعة البيولوجية، ويبدو أن طاقة الانسان مع التقدم في السن لا تملك مخزونًا كافيًا لتحمّل التفاهة. أجبرت نفسي على الحلقة الأولى، وأقفلت التلفاز بعد بعضٍ من التأنيب قبل أن تبدأ الحلقة الثانية، لأكتفي بعدها بالنظر للكتاب المركون على الزاوية دون امتلاك طاقة كافية للقيام والجلوس وقراءة ما ينتظرني فيه. هناك حالة من النوم أثناء الاستيقاظ في هذه الفترة، والتي لا أعلم حقيقة متى ستنتهي. عندما تعشّيت البارحة مع بعض الأصدقاء، شعرت بالغبطة وبعض الحسد بصراحة عندما نظرت لصديقي وهو يتثاءب ويهز رأسه الثقيل من فرط النعاس في الساعة الحادية عشر مساءً، ليستأذن بأدب ويغادر المطعم متجهًا إلى سريره، هذا التثاؤب عملة نادرة في مثل هذه الأيام المستعصية. أعوض هذه النِعمة بالإصرار على بناتي بأن يخلدوا مبكرًا إلى النوم.
    2. بعض اللقاءات الاجتماعية في أيام العيد (والتي أحبها بالمُجمل) أصبحت تستوجب مخزونًا كبيرًا من التحمل، فلا يمكن لإنسان مثلي يحب كرة القدم موسميًا ويشاهد مبارياتها المهمة فقط؛ أن يجلس لأكثر من ساعة يناقش مباراة الاتحاد والهلال ونحن في ثالث أيام العيد، ويناقش قبلها أحوال الطقس، وبعدها أحوال أشخاص انقطعت أخبارهم بسبب انعزالهم عن العالم، وبالطبع أخبار الموتى رحمهم الله. هذه النقطة بالتحديد شجّعتني أن أحاول في كل جلسة أن أقود دفة الحوار وأفتح مواضيع مثيرة، تعطي بعض الزخم وكفاءة أفضل لقتل الوقت، وقد نجحت في بعضها وفشلت في معظمها. وبالنسبة للجلوس مع الكِبار في السن، فإن مواضيع الطلاق والتعدد تُشعِل الجلسة والأدرينالين إلى أقصى درجاته، دون أن يترك آثارًا سلبية طويلة المدى. يعيش الحاضر مؤقتًا وسط فيلم درامي مليء بالأحداث، ولا يتخيل نفسه أحد أبطاله.
    3. الحلويات تُذكّرنا بأن العُمر بالفعل بدأ لا يستجيب بسهولة لقدرتنا بتناول المزيد منها. عندما راقبت نفسي مثلًا، وجدت أنني أُصاب بالمرض بسرعة بعد أن أتناول كمية كبيرة من الحلى، أشعر بعدها إنني نادم على هذه القرارات الغبية بالاحتفاء بهذه الكميات الكبيرة من السكر، وأتناسى الندم في اليوم التالي. لا يوجد في تجربتي حل لهذه الأزمة بالتحديد سوى الروتين المنضبط في اليوم، والذي يقود لقرارات واعية تجاه كل وجبة مع توقيتها المُختار بعناية، والمشكلة الأخرى أننا كشباب يرتدون الثياب فترات العيد، لا نلاحظ تغييرات جذرية في الهيئة، تجد بعض التعليقات من لحظة لأخرى تجاه الوجه الذي يُبرِز بعضًا من راحة البال المتعلقة بالأكل، مع خطورة انتظار فترة الصيف لارتداء الجينز بشكلٍ يومي واستيعاب أن العيد كان عيدين: عيدٌ حضر، وعيد جبناه.
    4. أُصرْ على العودة إلى بيتي في جدة رابع أيام العيد لكي لا يتفاقم موضوع الذنب، ولكي لا تتحول فكرة البحث عن أهميتي في الحياة إلى أزمة وجودية، فالبقاء خارج الظرف المكاني طويلًا يهدد نفسية الإنسان كما أعتقد، ولا بأس في استكمال السُبات والواحد قريب من مكتبه وسريره، لعل بعض البركة تُعيد إشعال نفسها، مثلما جلست تائهًا على كرسي المكتب أنظر على شاشة الكمبيوتر البيضاء، وأدفع نفسي دفعًا لكتابة أي شيء، من أجل صقل العضلة. وها أنا الآن أقترب من الحرف الأخير، أخبر نفسي الآن بأن الرجل الحقيقي والبطل: هو من سيقوم لممارسة رياضة المشي والأثقال بعد قليل.. أو بعد تناول الغداء على أحسن تقدير.

     

  • لا يُفكِّر إلا في نفسه؟

    هذه طبيعة الرجل.

    قبل أن يكون هناك أشخاص آخرين يركبون قاربه.

    لا ينمو الرجل إلا بعد أن يعتاد على التفكير في الآخرين قبل أن يفكِّر بنفسه. ولا يحدث هذا الأمر سريعًا إلا بعد قرار وجود عائلة؛ ثم أصدقاءً حوله.

    إن لم يكن هناك آخرين.. سيكون هناك أشياء.

    الأشياء تستبدل الناس.

    لا زوجة ولا عائلة ولا أصدقاء؟ إذًا سيكون هناك سيارة، وساعة، وعمل، وتلفاز، وربما حيوانٌ أليف.

    عندما يُفكِّر الرجل بنفسه كثيرًا، سيكون لديه فائض من المال والوقت والمسؤولية، تصبح اللحظة هي كل ما يملك؛ وعندما يكون هناك آخرين، يُصبح المستقبل هو ما تبقّى.

    ينمو الإنسان عندما يعي أن لديه مستقبل.. ويموت قليلًا مع كل لحظة دونه.

    ابحث يا صديقي عن قُرب أكثر من عائلة وأصدقاء، ومعهم سيكون كل شيءٍ آخر ذو قيمة أكبر.. لنفسك.

     

زر الذهاب إلى الأعلى