• انفراط العقد: نهاية امبراطورية أمريكا؟

    مقدمة:

    هذه المقالة (الاستثنائية)، خارج سياق المقالات المنشورة في المدونة. تشجّعت على نشرها بعد سلسلة مناقشات مع الأستاذ/ عمّار أحمد شطا، عن الوضع الراهن في الولايات المتحدة. شخصيًا لا أتناول أي مواضيع سياسية في منشوراتي، إلا إنني كباقي العوام، أهتم بالجانب الاجتماعي والإعلامي الذي يتأثر بشكلٍ مباشر من الوضع الاقتصادي والسياسي.

    الولايات المتحدة في وضع غريب وغير مفهوم بالنسبة لي، فلستُ اقتصاديًا أو محلل سياسي، إنما الفضول كان هو الدافع الأكبر للبحث عن إجابات لأسئلة كثيرًا ما تتبادر إلى ذِهني، أحد هذه الأسئلة هو: لماذا نرى كل هذه الفوضى في المشهد الإعلامي الأمريكي، خصوصًا في الجانب الاقتصادي؟ انتهت إجابة هذا السؤال بهذه المقالة، بقلم أبو محمد.

    قراءة ماتعة

    أحمد


    الأوطان لا تختفي إنما تختفي أو تتغير الأنظمة التي تحكم تلك الأوطان.. وبتغير الأنظمة قد تتغير حدود تلك الأوطان. الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى تغيير هيكلي كبير في نظامها الحاكم.

    ‎تسقط الأنظمة بانهيار أربعة أركان..

    ‎الأول، فقد الثقة بالنظام الحاكم من قبل المجتمع. تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من فقد الثقة في آلية انتقال السلطة، والشك في نتائج الانتخابات منذ انتخابات العام ٢٠٠٠م. فقد الثقة أيضًا قد يكون بسبب تمحور نظام الحكم حول طبقة ضيقة من المستفيدين؛ المواطن الأمريكي فقد الثقة في النظام لهذه الأسباب.

    أو كما تقول الإعلامية السياسية، ميشيل مارتن:

    «الديمقراطيين يخوضون معركة حامية حول القيود الجديدة التي يحاول الجمهوريون فرضها على التنظيمات والانتخابات. يسعى الجمهوريون لتشديد الإجراءات الانتخابية. في المقابل يرى الديمقراطيين أن معظم هذه القيود ظالمة وعقابية وعنصرية التوجه، لإنها تستهدف الحد من اندفاع الأقليات والفئات الأكثر فقرا من المجتمع للمشاركة والانخراط في اللعبة الديموقراطية؛ الولايات المتحدة الامريكية لم تشهد قبل العام ٢٠١٦م هذا الانقسام الهائل بين الجمهوريين والديمقراطيين عندما يتعلق الأمر بآلية التصويت ومصداقية العملية الانتخابية».

    الركن الثاني؛ فقد النظام الحاكم للمصداقية. يعاني النظام الحاكم الأمريكي منذ عقود من أثقال متراكمة من الكذب والتدليس الصريح وإخفاء الحقائق، كما يعاني النظام الحاكم من النفاق السياسي المهيكل في صلب هيكلته.

    ومن أمثلة ذلك؛ قضية اغتيال الرئيس الامريكي الاسبق كيندي عام ١٩٦٣م. وأحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، واتهام روسيا بالكذب ومخالفة القانون الدولي بالرغم من حجم التلاعب الإعلامي التاريخي الذي ارتكبته أمريكا في حق المجتمع الدولي فيما يخص امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وكذلك احتلال الولايات المتحدة الامريكية للعراق وأفغانستان وبقاءها في الأراضي السورية دون وجه حق.

    أما الركن الثالث المسبب لسقوط الأنظمة فهو انقسام المجتمع بشكل حاد الى طرفي نقيض! هذه النقطة تحديدًا تحدثت عنها باستفاضة في مقالي السابق، المؤرخ في: ٢٢ يناير ٢٠٢٠م، حيث اشرت الى أن الانقسام الحاد في المجتمع الامريكي قد بدأ بالفعل.

    واليوم، وبعد أكثر من عامين على كتابة المقال، تتداعى الأحداث متسارعة لتؤكد -دون مبالغة- عن استعداد الرجل الأبيض صراحة للدخول في ثاني حرب أهلية في تاريخ الولايات المتحدة. لقد رأينا كيف أن نتائج التصويت الأخير عام ٢٠٢٠م والتي أتت لصالح الرئيس الحالي (جو بايدن) قد أشعلت فتيلًا من الفتنة، تم تداركها بعد ارتباك واضح، ونتج عنها أعمال شغب فاجأت القاصي والداني باقتحام أنصار الرئيس السابق مبنى الكونغرس.

    هذه النتائج الانتخابية -رغم تنظيمها الظاهر- لم تكن كافية لإقناع أغلب أفراد الشعب بنزاهتها أو التسليم بصحتها على أحسن تقدير. وهي بلا شك نواة لفتنة كبرى قادمة، ونار مختبئة تحت رماد الكبت الإعلامي الذي لا يتحدث صراحة حتى الآن عن حرب اهلية محتملة على الأبواب.

    الركن الرابع؛ والأهم في انهيار الأنظمة، والذي نشاهده أمام أعيننا هذه الأيام، هو فقد الثقة في أداء البنك المركزي وآلية عمله، وهي عادة ما تنتهي بانهيار قيمة العملة الوطنية!

    تمر الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة منذ تأسيسها بتدني واضح في الثقة بفعالية البنك المركزي الأمريكي في إدارة السياسة النقدية واستقرار النظام المالي (بنك الاحتياط الفيدرالي).

    اذ يعكس لنا أداء الأسواق وبالأخص استمرار ارتفاع وتيرة المغامرة في أسواق المال، والاندفاع نحو العملات المشفرة واستمرار ارتفاع نمو مبيعات المنازل، وكذلك ارتفاع مستويات التوظيف واستمرار انخفاض مستويات البطالة إلى أرقام متدنية، لم تحدث قط في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إلى عدم اكتراث المستثمرين بسعي الفيدرالي للحد من السيولة المفرطة في الاقتصاد والنمو المتسارع في أسعار المواد والطلب على العمالة.

    وهنا يجب أن نتوقف قليلًا لنشرح الدور الهام الذي تلعبه إحدى أهم النظريات الاقتصادية التي تبناها الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد وهي نظرية “التوقعات الرشيدة”. إذ تركز النظرية على السلوك الإنساني المحتمل من كافة المتعاملين بالسوق على نحو يحقق مصلحتهم كأفراد وكمجموعات وفق توقعاتهم الرشيدة، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد الكلي والذي تتحكم فيه -نظريًا- المؤسسات المالية التابعة للنظم الحاكمة.

    تتحدث النظرية المذكورة عن الدور الكبير الذي تؤديه التوقعات الرسمية لمؤسسات الدولة في التأثير على سلوك المتعاملين في السوق.

    تشرح النظرية الدور الفعال الذي تستطيع المؤسسات الاقتصادية -مثل البنك المركزي الأمريكي- أن تلعبه في بناء توقعات اقتصادية مستقبلية استشرافية ثم تتطابق ذلك مع الواقع اعتمادًا على الخبرات التاريخية المتراكمة والمعلومات المتوفرة لدى تلك المؤسسات.

    الأمر الخطير هنا والذي يحصل اليوم ولأول مرة هو فشل الفيدرالي الامريكي في إقناع السوق بتوجهاته! فالبنك المركزي يسعى إلى إقناع المستثمرين بأن الحد من التضخم وتضييق السيولة والحد من الإقراض المصرفي برفع معدّل الفائدة يجب أن ينعكس على سلوكهم المالي والاستثماري بالتسلّح بالمزيد من الحذر والتحفّظ، إلا أن ما يحدث عمليا هو العكس تمامًا!

    فالاقتصاد الأمريكي يواصل توهجه وأسواق المال ما زالت تميل الى المغامرة والاندفاع، وكأنها تغني في واد بعيدًا عن التوجه الرسمي للبنك المركزي الذي يغني في واد آخر.

    يمر الاقتصاد الامريكي اليوم بأوضاع شبيهة بتلك التي سبقت انهيار السوق الأمريكي عام ٢٠٠٨م. ففي عرض تقديمي في شهر يوليو ٢٠٢٢م، قال رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس جيمس بولارد: «إن وضع الاقتصاد الكلي الحالي للولايات المتحدة يضعف مصداقية بنك الاحتياط الفيدرالي فيما يتعلق بهدف الحد من التضخم»، ويضيف: «يتزايد عدد الأشخاص الذين يرون أن الاحتياطي الفيدرالي لم يعد قادرًا على التحكم في توجهات السوق، كما كان يفعل من قبل. ووسط هذا الانهيار في مستوى الثقة العامة، أصبح من الضروري أن نفهم الاتجاه التاريخي الطويل الذي قاد الاقتصاد الامريكي لما وصل إليه الآن».

    هذا الأمر، إن استمر، سيكمل حلقة انهيار النظام الأمريكي اقتصاديًا بعد أن انهارت الأركان الثلاث الأولى من قبل.

    ‎ لا تعد كتابة هذه السطور تشاؤمًا بقدر ما هي محاولة جدية لقراءة المستقبل واستشرافه، ولا يمكن للمتخصصين انكار تعدد وتراكم التحديات أمام النظام الحاكم في الولايات المتحدة الامريكية التي أصبحت ظاهرة للعيان أكثر من أي وقتٍ مضى، الأمر الذي سيكون له أثرٌ بالغٌ في تغيير المشهد الأمريكي الحالي، اقتصاديًا وسياسيًا، كما سيكون زلزالا يغير خارطة المصالح والتحالفات السياسية والاقتصادية العالمية لعقود قادمة.

     

     

  • أعطيني نفس طلبه

    «الإنسان هو المخلوق الذي لا يعرف ماذا يرغب، ويلجأ إلى الآخرين ليقرر رأيه.»

        – رينيه جيرارد

    أجلس مع أحد أقاربي اليافعين، وقد لاحظت أن إجابته المعتادة -ككثير ممن في عمره- هي: «أي شيء»، عندما يسأله الآخرين ماذا تريد أن تأكل أو تشرب؟

    طلبت منه أن يجعل الحياة أسهل بتحديد ما يريد؛ «شاهي أم قهوة؟»

    أخبرته: اطلب «قهوة» إن كنت غير متأكد، لا تتردد. الخيار هنا يربي الإنسان -في رأيي- على الحسم وعدم التردد، ويربي مع الخبرة ألا يندم على قراراته في المستقبل حتى وإن كان قرارًا غير مهم.

    أعتقد أن نسبة لا بأس بها من البشر لا تعرف حقًا ماذا تريد. لا أقصد الأهداف والأحلام والطموحات والأشياء الكبيرة، بل أقصد حِزمة الخيارات الصغيرة التي تُشكِّل يومنا، وحياتنا بعدها. لم يُعِجب الكثير من القراء مثلًا اقتراحي بأن نطلب ما نريده على العشاء من الداعين لنا. في حين أن نفس القّراء تصيبهم حيرة عن الخيارات التي يجب أن يوفروها لضيوفهم.

    تأمل أصدقاءك عندما تذهب لزيارة المطعم أو المقهى، ستجد الكثير منهم يتجهون لخيار «أعطيني نفس طلبه». الخوف هنا هو من فكرة تبنينا ما يعتقد الآخرون أنه خيارًا مناسبًا لهم ليكون لنا. ومع الوقت تتحول هذه القرارات لأشياء أكبر، كالسيارة والمنزل والسفر.

    تُبنى الكثير من القرارات في حياتنا من خلال عيون الآخرين. لا شك في ذلك. ولكن التمرين المستمر على الحسم يساهم ليس فقط بجعل الحياة أسهل قليلًا، بل يربي -في رأيي أيضًا- إحساسًا بالثقة بالنفس. يُصبح الإنسان بعدها متفردًا برأيه، سيعي مع الوقت ماذا يُفضّل وماذا يرفض بوضوح أكبر.

     

  • من يذكر مطعم هابي ديز وبندروزا؟

    يتذكّر مَن في جيلي (والأكبر قليلًا) من سكان مدينة جدة هذه المطاعم التي كانت ملئ البصر في التسعينات وبدايات الألفية. بحيرة القطار، بول يونكلز، وجزيرة الأطفال، والعشرات من الأماكن التي كانت تتصارع في انسجامها مع المجتمع الجدّاوي ضد التوجّس الديني وضغوطًا اجتماعية أخرى. هذه الأماكن كانت نتاجًا لمجتمع يحب الحياة ويعرف كيف يتعايش بأقل الوسائل.. يخلق منها ذكريات وقصص، تطفح بمخزونها الذي يلهب الأحاسيس. جعلت هذه الأماكن من جدة مدينة لا تتناسب مع السهر ولا الاستيقاظ المبكر. مدينة تتوازن حتى في سلبياتها.

    امتازت معها الفتاة الجدّاوية بخفة ظِل ومرونة تساعدها على الانسجام مع كل رفقة وكل ضيف، تشعرهم كأنهم صديقات منذ زمنٍ طويل. تنسجم مع الجارة الشامية وابنة البادية، وفتاة الجنوب التي انتقلت مؤخرًا، ولا تدرك أصلًا أن هناك فروقًا بينها وبين فتيات مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى تكبُر قليلًا، وتفهم أيضًا أن اختلاف اللهجات مع البقية اختلاف طفيف يذوب بعد أيام ليكون تحت مظلة واحدة.

    لا تحكم المحافِظة على غير المحافِظة، ولا ترى إلا كل خير في الأخريات عندما يجد الجد، أو كما تقول والدتي: «إن أهديتهم أي شيء بسيط سيشكرونك وكأنك اشتريت لهم أغلى الأشياء، ليسوا قاسيين في زعلهم، ومتفهّمين للظروف.. لأنهم مجتمع خير وبساطة».

    في حين أن الشاب الجدّاوي يمتاز بكونه لا يعرف أصلًا إلا أن يكون لطيفًا. يحب البحر، والبلوت، والمبادرات الاجتماعية الخيرية، تجده في مختلف المناصب الحكومية والخاصة اليوم بعد أن تحمّل المسؤولية وانتهى من مراهقة وفترة شباب طبيعية، قضى جزءً منها مع ذكريات لا يود أن ينساها، ليكون بعدها مبادرًا في صناعة التغيير، يستطيع أكثر من كثيرين الانسجام في أي بقعة في العالم، هو معتاد على الاختلاف، ومتقبل للتغيير، يحب الضحك الذي اعتاد عليه، ويحب أن يكون رجلًا إن اختار كما اختار دومًا.

    طاقة المكان انعكاس لأهله، تستشعرها فور وصولك له.

    وعندما تختفي الأماكن، فذكراها لا تختفي.. تظل تشعل الحنين داخلك. يهوِّن عليك أن زينة جديدة قد زينتها.

    المكان بأهله.. وجدة في الخير بأهلها وأماكنها التي ذهبت والتي ستبقى.

     

  • العزلة تحميك من الوحدة

    الوحدة إحساسٌ ضمني، لا يعبّر عن حاجة الإنسان إلى المزيد من الأشخاص، بل للحاجة إلى علاقات أعمق

    يمكن للإنسان أن يشعر بالوحدة وسط أصدقائه وعائلته، بينما قد لا يشعر من يملك بضعة أصدقاء مقرّبين بذلك بسبب عمق علاقته بهم. آخر يشعر أنه شديد الوحدة رغم أنه ينام بجوار شخص لسنوات، دون أن يملك معه اتصالًا حقيقي

    في الحقيقة، اكتشف جون كاتشيوبو، أحد أشهر الباحثين في مجال الوحدة، أنَّ الإنسان الوحيد يقابل تقريبًا نفس عدد الأشخاص الذيي يقابلونهم غير الوحيدين، المسألة ليست في نقص أو زيادة في عدد من حولنا.

    العزلة شيء آخر، هي انقطاع اختياري، يحتاجه الإنسان من فترة إلى أخرى، يعيد حساباته فيها، يخطط لحياته، ويتأمل حاله ومستقبله، وبالطبع يحصل على وقت للتفكير العميق دون مقاطعة

    «عندما يقرر الإنسان ألَّا يفكر، فهو يقرر ألَّا يشعر بالألم. وعندما يؤجل مواجهة الألم، فهو يختار الحصول على ألم أكبر في المستقبلكما يشرح بيك؛ ويرتبط الألم بعدم القدرة على التفكير والتريُّث، في حين أن إحدى الطرق الفعّالة لينمو الإنسان في حياتهكما يقول مرة أخرى بيكهي في تخصيص وقت منتظم للجلوس بهدوء دون مقاطعة للتفكير والتأمل، أو ما نُسمِّيه «العُزلة الاختيارية».

    يشجع إيريك باركر في كتابه اللطيف «أن تلعب بشكل جيد مع الآخرين» على الحصول على بعض العزلة من وقتٍ إلى آخر، في سبيل إضفاء المزيد من الثراء على العلاقات الحالية. وطبعًا في محاولة جدية لتجنب إحساس الوحدة؛ فالارتباط الزائد عن الحد بالآخرين ربما يربك حياتنا، ويحولّنا إلى مستجيبين ومتفاعلين، بدلًا من ممتنين مبادرين لقيادة الحياة إلى اتجاهٍ أفضل.

    العُزلة ضرورة مع تُخمة التواصل، مثلما أصبحت مشاكلنا الصحية سببها البدانة أكثر من نقص الموارد الغذائية.

  • دع الغريب يقنعهم نيابة عنك

    هذه مأساة قديمة ومضحكة، عندما لا يستمع الآخرين ما يقوله المقرّبين، وينصتون لنفس الكلام من الغرباء. يحكي لي العزيز عمر عاشور (وهو الذي طلب مني كتابة هذه المقالة) قصة صديقه الذي كلما يحاول إقناع زوجته بموضوع بمهم، يقوم بالاتصال على صديقتها المقربة، لتقوم هي بهذه المهمة.

    قريب لي جلس مع زوجته جلسة مطوّلة مع ابنتهما المراهقة، يحاول أن يربيها على آلية التعامل مع صديقاتها في المدرسة (التي كانت مسببة لأزمة لها)، لتخبرهم أنها بحاجة إلى استشارة متخصصة نفسانية؛ ليقوم الوالدان فعلًا «بخرط» خمسمئة ريال قيمة الجلسة يتيمة، أعادت الأخصائية «بالحرف الواحد» كل ما قاله الوالدان للبنت، لتقتنع بما سمعته من الأخصائية، مع تناسٍ تام للجلسة التي كانت مع والديها.

    شخصيًا، أنا متصالح تمامًا مع هذه الطبيعة البشرية الغريبة؛ فلا يزال «مغنِ الحارة لا يُطرب» مثلما كان يُحكى أن والدة الإمام أبو حنيفة كانت تذهب مسافات طويلة لاستفتاء شخصٍ آخر، دون أن تُعطي اعتبارات حقيقية لابنها: أحد الأئمة الأربعة.

    كُنت مثلًا جلس جلسة مطولة مع طُلاب الماجستير (في جامعة نوفا في فلوريدا) عام ٢٠١٩م، أُفتيهم عمّا يجب أن ينتبهوا له ويكتبوا عنه في المقالة التي طُلبت منهم من قِبل أستاذهم الجامعي، في حين أن زوجتي -زميلتهم- قامت بحجز ساعات مع «مركز الكتابة» في مكتبة الجامعة لتستشيرهم حول تقنيات الكتابة. أفتيتهم ليس حبًا للفتوى، بل استجابة لطلبٍ كريم من أحد الشباب الجالسين بجواري قبل إحدى أوقات العشاء «أبو سيرين، عندنا واجب كتابة طويل، ساعدنا الله يرضى عليك» لأقوم بمحاولة الفتوى بعدما اعتقدت إنني أهلًا لها، بكتابة ما يقارب الخمسمئة مقالة وأكثر في حياتي آنذاك.

    المضحك أن نفس الشباب أخبروا زوجتي بعد إحدى المحاضرات أنهم كتبوا مقالات لطيفة لاقت استحسان الأستاذ، بعدما استشاروا كاتبًا قبل أسبوع كان جالسًا معهم في عشاء السعوديين، دون أن يعلموا أنني زوجها.

    تتكرر هذه الحالات مع الأهل والأصدقاء المقربين كثيرًا. نظل لا نبحث عن إجابات داخل الكنوز المدفونة بجانبنا، وفي حالتي، لا يزال الغريب يعطيني قدرًا من الانصات، في نفس الوقت الذي يعتبروني أهله الابن الصغير الذي لا يملك «سالفة» أو «خبرة في الحياة». طبعًا كل ذلك بحسن نية. وهو ما ألزمني بفكرة التصالح، فالحقيقة ستظل تُعيد نفسها بكوني الابن والأخ الأصغر لهم.

    في نفس السياق، تعتقد شقيقتي أروى في حالة النساء مثلًا، أن المرأة الحكيمة التي تشاكلت مع زوجها لا يجب في معظم الحالات أن تستشير صديقاتها، وبدلًا عن ذلك، يجب عليها أن تستشير إما رجلًا آخر يشرح لها «آلية» عمل أمخاخ الرجال ويساعدها في إيجاد الحلول (من وجهة نظر الرجل)، أو، امرأة كبيرة في السن لشرح نفس «الآلية»، أو بالطبع إنسانة متخصصة في العلاقات الأسرية. فالصديقات قد يحوفهن الكثير من الظروف غير الملائمة لإعطاء الاستشارة، كنقص الخبرة، أو الترابط العاطفي الدفاعي مع الصديقة، وطبعًا لكل قاعدة شواذ.

    على كل حال، أعتقد أن نفس هذه الطبيعة هي التي تُعطينا الإحساس بأن الحال دومًا «أكثر اخضرارًا في الجهة الأخرى»، نعتاد أن نتمنى ما ليس في يدنا، حتى في مصدر النصيحة أو الاستشارة. وهذه طبيعة يحتاج الإنسان ترويض نفسه على مقاومتها.

    نحاول تارة أن نُنصت قليلًا للمقرّبين، وتارة نذهب للمتخصصين الذين يملكون تاريخًا ناجحًا في تخصصهم. وكلمة السر هنا هي «الانصات» وليس الاستماع. ويظل التصالح عمومًا أمرًا محمود لكيلا نفقد الثقة في أنفسنا مهما حاولنا مشاركة أفكارنا التي يُنصت لها أحيانًا، وتُهمل أحيانًا كثيرة.

     

  • في تأمل القوة

    القوة ليست قوة أن كانت مع الضعيف. لا قيمة للقوة إن لم تكن مع ما يوازيها من قوة.

    القوة ليست قوة؛ عندما نحتاجها ولا نستخدمها. القوة وقت الشدة.

    البطش ليس قوة. البطش خوف.. يهيئ لك أنه القوة.

    القوة رحمة عندما تعطيها. ودرع عندما تحتاجها.

    أقوى القوى في ضبط النفس. وأضعفها عندما نفقد السيطرة عليها.

  • الفضفضة الثانية عن الكتابة

    شجعني أحد القرّاء الكِرام لكتابة هذه المقالة عندما اشتكيت له عن حيثيات قرار بداية العام الحالي حول الكتابة (والذي لخّصته في مقالة بعنوان عشر سنوات في الكتابة).

    الموضوع وما فيه إنني باختصار قررت ككاتب مُحب ومخلص لقرّائه، أن أستثمر الوقت والجهد بتركيز أكبر في كتابة الكُتب بدلًا من المقالات، وهذا أمرٌ جيد من ناحية الفكرة والمبدأ، أما التنفيذ فظهرت فيه بعض المشاكل:

    ١. هناك كتاب جديد سيكون في متناول الجمهور عمّا قريب (بإذن الله)، هذا الكتاب في الحقيقة قديم في الجدول، ولا أود زيادة التعليق حول تكاسلي في إنجازه بالسرعة المطلوبة. صرفت الشهرين الماضيين باستثمار معظم الوقت في أمرين: الأول: في تحريره وإعادة كتابة أجزاء منه، والثاني: صرفت جهود بحدودٍ معقولة لكتابة المقالات الخاصة بنشرة أها! «مع ثمانية» وبضعة مقالات في مدونتي الشخصية.

    ٢. انتبهت أن القرّاء القدامى للمدونة لم يعجبهم هذا الأمر بتاتًا. لم أكتشف أصلاً أن هناك من يتابع مدونتي منذ زمنٍ طويل وبانتظام، إلا عندما اتخذت قرار تقليص الكتابة فيها، ليظهروا لي فجأة من الظلام مشكورين عبر إرسال الإيميلات يطلبون زيادة عدد المقالات بدلًا من واحدة فقط أسبوعيًا. أخبروني باختصار «أن قرار التوقف عن المقالات قرار خاطئ»، طبعًا إضافة إلى بعض التعليقات المشابهة في التواصل الاجتماعي من هنا وهناك. هذا الأمر حيرني أكثر من محاولتي للاستعراض والله.

    ٣. واجهت مشكلة غريبة من نوعها (ككاتب): وهي أن عضلة الكتابة اليومية التي أنظِّر وأُفتي الناس حولها من سنوات قد ضعُفت. لم يكن هناك سبيل لتقويتها -على الأقل في تجربتي- سوى الكتابة الغزيرة المنتظمة عبر المقالات، وقد خفّت -كما شعرت- من انخفاضها. طبعًا معها على نفس الخط مشروع كتابة الكُتب، مع محاولة الحفاظ على معدّل انضباط جيد في القراءة اليومية. أصبح هناك تأنيب ضمير حاد يكرر زيارته لي كل ليلة قبل أن أنام، يُطيّر النوم، ويبقيني مع سؤال حلقة اليوم: «الكتب، أم المقالات؟ أم كليهما؟» فأنا والله شاهدٌ على ما أقول: آخذ هذه الحرفة بجدية؛ تقديرًا لكل إنسان يقرأ لي. لم يعجبني الحال «ويدي تحكني» كل يوم في محاولة كتابة شيء لنفسي وللقارئ الكريم، حيث إن كتابة الكُتب تحتاج تجهيزًا ذهنيًا وعمليًا مختلفًا قليلًا عن المقالات، ناهيك عن فترات انتظار طويلة ريثما ينتهي المحرر والمدقق لمراجعة ما كتبته. يمكن إنجاز المقالة من ثلاثين إلى أربعين دقيقة من اليوم، أما كتابة جزء من الكتاب فيحتاج على الأقل ثلاث ساعات متصلة (دون تشتت) كي يُحسب الجهد ضمن الإنجاز الحقيقي.

    ٤. راجعت أهدافي الكتابية اليوم، وضعت جدول إنجاز جديد بالكامل.. مسحت كل شيء كان مخططًا له، وكتبت خطة عمل جديدة حتى نهاية العام، شهرًا بشهر، ماذا علي أن أكتب، وما هو عدد الأيام المرصودة لكل مشروع كتابي، بما فيهم المقالات، أدعوا الله (مع قولكم آمين) بأن تُنجَز الخطة على خير.

    ٥. المشكلة المتجددة الأخرى التي تحوف الكتابة بالنسبة لي، هي إنني أملك عملًا خاصًا تحوّل من مرحلة «المشروع الريادي» إلى «شركة في مرحلة النمو»، وهذا كرمٌ وفضل من الله وحده، لا أملك إلا أن أكون شاكرًا وممتنًا لنِعمِه فيه. وحيث إنني اعتقدت أن مشكلتي في إدارة الوقت مع عملي التجاري ستكون أسهل من أي وقتٍ مضى (لأن الشركة قد انتقلت للمرحلة الجديدة)، إلا أن ما حصل على أرض الواقع كان العكس تمامًا. أصبحت مشغولًا جدًا.. وهذا مؤشر خطير، يخالف تنظيري وفلسفتي غير المنقطعة للقراء الأفاضل بأن أوقاتهم خلال اليوم لا يجب أن تذهب كلها في العمل، فهناك أمور أخرى أكثر أهمية، كوجود الأهل والأحبة، والهوايات، والسفر، وغيرها. وهذا ما جعلني اليوم صاحب جدول طافح على آخره من ملفات حساسة في الشركة، وأيضًا جدول الكتابة الذي أُحرِج نفسي فيه أمامكم، تقديرًا وحبًا وإخلاصًا للقارئ الكريم، وتسكيتًا للضمير، كي أنام.

    ٦. خلاصة القول: ستكون هذه السنة مثل الحياة، لا أقول صعبة، لكنها ليست سهلة.. سأحاول أن ألتزم بإعلاء كفة المقالات لتوازي الكُتب، مع الحِفاظ على مصالح العمل التجاري، والذي أتمنى من العلي القدير أن يقودني في يوم ما لكي أصل لمرحلة الكتابة «فُل تايم». باختصار: أطلب أن تُسامحوني على تغيير الخُطة، وتستحملوا قليلًا ثُقُل الدم من الفضفضة التي لم يعتدها الآخرين، فكاتب هذه السطور وكتاباته لا قيمة لهم دون قارئ كريم بوقته وحبه.

     

  • البيع البيع البيع

    أنا من هذه الفئة؛ التي تؤمن أن أهم مهارة مهنية يتعلمها الإنسان في حياته هي: البيع.

    أرهقت أحبتي من بنات وشباب الجامعة وحديثي التخرج، من كثرة تكراري لهذه القناعة. قبل أن تنتهي من دراسة تخصصك في الطب، أو الهندسة، أو السياحة، أو المحاسبة، أو الجغرافيا.. تعلّم كيف تبيع.

    ليس بالضرورة أن تقضي كل حياتك في المبيعات، لكن من الضروري أن تتعلّم كيف تبيع، أو بمعنى أكثر وضوحًا: أن تعمل في المبيعات (حتى تُتقن الشيء الكثير منها) ثم قرر بعدها كيف تريد أن تصرف بقية حياتك.

    البائع.. لا يموت من الجوع. كل صاحب عمل يريد بائعين. وكل البائعين مرحب بهم دائمًا في معظم المجالات. البيع هو شريان الأعمال. لا يحل أزمة الشركات ماليًا كما يحلها البائعين، لا تُصرف رواتب دون وجود البائعين، وليس هناك إدارة ذات قيمة حقيقية في الأعمال الخاصة إن لم تتسلح بقدرة بيع كبيرة.

    بائع اليوم.. هو الذي سيبيع الفكرة للمستثمرين في المستقبل، وهو الذي سيُقنع مديره بمشروعه، وهو الذي سيُقنِع أبناءه وأهله بما يريد. وهو الذي يملك أصدقاء في كل مكان. بائع اليوم هو الذي يبيع أحلامه لزملائه عندما يؤسس عمله الخاص.

    البيع يساعدك في شد الأزر، والصبر على أهدافك، وزيادة الطموحات فيها. عندما تتعلم كيف تبيع، ستُضطر لتعلُم الكثير في مجالك، وعندما تتعلم، ربما تستطيع أن ترى تخصصًا مستقبليًا تريد أن تكون فيه.

    البيع ليست مهارة مهنية، بقدر ما هي مهارة لحياتك.

    أرى أن سنتين من عمرك في مجال المبيعات، ستُعطيك الكثير، لا تؤخرهم كثيرًا.

     

  • مقالات ولقاءات خارج المدونة

    (ملاحظة: سيتم تحديث هذه الصفحة بشكلٍ دوري في مدونتي).

    لا أملك ثروة تغنيني في حياتي مثل وجود قرّائي الأفاضل، والذين يمدّوني بالدعم والوفاء بوقتهم وذهنهم في القراءة والحضور. وقد جمعت هنا المقالات واللقاءات الأهم، والتي كانت خارج مدونتي.

    قراءة واطلاع ماتع لكم يا رب.

    ثمانية: مقالاتي القصيرة في «نشرة أها!»:

    1. ابحث عن مستشار لا مدرب حياة.
    2. اتقن الأمور الصغيرة أولًا.
    3. الجهود الكبيرة لا تعني النجاح.
    4. هل ستكون من القِلة في عام ٢٠٢٣؟
    5. أن تكون نادرًا أمرٌ في غاية الصعوبة.
    6. سرْ الحياة الطويلة والمطمئنة.
    7. هل اجتهدت في عملك؟
    8. ما تحتاجه في عملك ليس الحب.
    9. هل أنت موهوب؟
    10. رتب مكانك خارج التطبيقات.
    11. الراتب الشهري أم السعي وراء الشغف؟
    12. لماذا نحتاج إلى بعض الأوهام؟
    13. القرار الأسهل عوضًا عن التفكير.
    14. كم دقيقة تضيعها على جوالك؟
    15. الشغف لا ينتهي عن التخصص الجامعي.
    16. حاجة «الأنا» لشفقة المتابعين.
    17. البحث عن صديق في زمن التواصل الاجتماعي.
    18. مقاطع «الريلز» لا تغير شيئًا.

    ثمانية: مقالاتي المطوّلة:

    1. عندما تبيع روحك على الجمهور.
    2. حتى نكون صادقين، الكسل خرافة.
    3. الهيمنة والتسويق في صيف أميركا.

    حجر ورقة مقص (مقالات مطولة):

    1. لا تقرأ التعليقات.
    2. لماذا نحتاج الهدوء أكثر من أي وقتٍ مضى؟

    روابط ولقاءات أخرى:

    1. بودكاست شارة: كيف تكتب مقالة كل يوم؟
    2. حوار استكتب عن الكتابة، مع الكاتب أحمد مشرف.
    3. لقاء مجلة سيدتي: أحمد حسن مشرف: الأداء الإنساني الاستثنائي هو الباقي!
    4. لقاء الأربعاء مع د. ساجد العبدلي، عن وهم الإنجاز.
    5. نور عزوني وأحمد مشرف: عن الإبداع والبحث عن المكانة.
    6. لقاء أحمد حسن مشرف مع نادي طلاب نوفا في جنوب فلوريدا: عن الكتابة والتدوين.
    7. أوعى تكون غرقان في وهم الإنجاز: قناة أخضر.

    مقالاتي على أراجيك:

    1. درس مستفاد من ٢٠٢٠: الحال وإن كان سيتغير لا تنتظره.
    2. السعادة: هي أن تنشغل بملعبك.

    مقالاتي على صحيفة مكة:

    1. هواية جديدة.. اصطياد الأخطاء.
    2. سيداتي سادتي.. سنتحدث اليوم باللغة الإنجليزية.
    3. ما هو تبرير الذكريات السيئة؟

     

  • الرجال الحسّاسين

    يغرد أحد أصدقائي في عيد الفِطر المبارك الماضي تغريدة ينتقد فيها تعليقات البعض السلبية التي تحدث في زيارات العيد على أشكال الآخرين، على غِرار «تخنان، نحفان، صلّعت، إلخ»؛ معبرًا أن هذا الأمر فيه عدم لطافة وثقل دم ليس لهما أي داعٍ.

    وقد قام كاتب هذه السطور بالتعزيز له وإعادة التغريد مع تعليق على غِرار: «أتفق تمامًا». لتقوم إحدى السيدات بالرد علينا نحن الاثنين:

    «استحوا على وجيهكم إنت وياه، رجال بشنبات تغردون مثل هذه التغريدات؟».

    حتى هذه اللحظة لا أعرف لما صدمني هذا الرد. هل لأن السيدة فعلًا صادقة وعلينا «أن نسترجِل أنا ويّاه» ونبتعد عن التحسُس العام الذي ليس لهُ داعٍ هو الآخر؟ أم أن صدمتي كانت استنكارًا على ردها القاسي؟ أم اعتقاد يقف في المنتصف بينهما، وأميل إليه اليوم: بأن مجتمع الرجال في عصر السيولة أصبح أكثر حساسية من أي وقتٍ مضى فعلًا.

    يعتقد بعض النفسانيين (منهم روبرت قلوفر) بأن الرجال بشكلٍ عام عندما يزيد احتكاكهم اليومي من ناحية اجتماعية بالنساء (على أرض الواقع أو على التواصل الاجتماعي) فإنهم لا يتأثرون فقط بأفكار الجِنس الآخر واهتماماتهم، بل حتى ببعض الطِباع (إن افترضنا أن رهافة المشاعر سمة أكبر عند النساء من الرجال). ويُشجِّع على فكرة أن يقضي الرجال معظم أوقاتهم الاجتماعية والترفيهية مع بعضهم البعض، أكثر من حِرصهم على الاختلاط بلقاءات منتظمة ومستمرة بالجنس الآخر، حماية لهرمون «التستوستيرون» داخلهم. ولكيلا تتحول فجأة مشاكل النساء وهروجهم إلى هروج ومشاكل متعلقة بهم.

    كاتب هذه السطور لا يود أن يقف مع هذا الرأي ضده بالمُجمل حتى لا يستقبل نوعًا من التوبيخ الذي لا يرضى استماعه.

    على كل حال، يشير (قلوفر) بأن كثيرًا من الرجال في مجتمع الولايات المتحدة مثلًا والذين ولدوا في الخمسينيات (Baby boomers) أصبحوا حسب وصفه ضمن فئة الـ Nice Guys، وهم فئة الرجال الذين يحرصون على إرضاء الجميع حولهم دون الاكتراث لحاجاتهم النفسية. يحبهم الكل من أصدقاء وزملاء وأقارب ورؤساء، بما فيهم زوجاتهم للُطفِهم البالغ وطيبتهم، لكن دون امتلاكهم حسّا عالٍ في القيادة، أو الحزم، أو الحسم، أو الحضور، مع تشكّل أزمة نفسية حقيقية (مثل عدم التعبير على الرغبة في الجنس أو التعبير عن المشاعر خوفًا من ردة فِعل الشريك). ويعتقد أن نتيجة هذه الشخصية كان سببها كونهم تربوا على أيدي أمهات عزباوات (Single Moms) بشكلٍ غير اختياري، دون وجود رجال أقوياء في محيطهم، مع افتقار واضح للقدوة الرجولية. لأن تلك الفترة كانت قد اتسمت باختفاء الكثير من الرجال بسبب الحروب (الحرب العالمية الثانية قبلها، وبعدها حرب فيتنام)، ليكبُر الرجل محاولًا إرضاء الإناث أكثر من الحِرص على الالتفات للمشاكل الذكورية التقليدية. يكبُر محاولًا أن يجعل والدته التي ربته سعيدة، «ووالدته» الجديدة التي ارتبط بها سعيدة أيضًا.

    يتصف مجتمع الرجال بالمُجمل بتنافسية -غير معلنة- حادة. ولذى تجد لدينا الكثير من بشكات البلوت تحمل داخلها أصواتًا مرتفعة، وتنمرًا غير متوقف، ومحاولة جدية لاستجلاب أقصى درجات الابداع في الرد والتريقة، وشحذ ذخيرة الكلمات القاسية بين الجميع. يعي الرجال هذا الأمر تمامًا، ولذا يشعر كثير منهم بحس ذكوري عالٍ أثناء الجلسات الاجتماعية وبعدها، خصوصًا إن حصل على بعض الانتصارات الكلامية ضد منافسيه.

    كما أن نفس الأمر يجده الرجال في مجتمع النوادِ الرياضية، حيث يستعرض الكثيرين عضلاتهم وصراخهم وهم يحملون المئة كيلو جرام من الأثقال كنوع من التغلّب الضمني على الرجال الآخرين وعلى أنفسهم في المنافسة. هذا المجتمع الذي لا يشعُر فيه المشترك حديثًا بأي نوع من أنواع الراحة، قد يكون أحد الأعباء النفسية التي تتخزن في عقله ولا تجعله يواظب على الحضور، لأنه في مكان يشجّعه على الالتفات على عيوبه الجسدية أكثر من الالتفات على فكرة أن بإمكانه أن يكون مثل هذا الوحش الذي يقف بضعة أمتار عنه وهو يحمل عشرات الكيلوجرامات من الحديد بيدٍ واحدة.

    تُسقِط «فاليري» أخصائية التغذية المشاغبة في تويتر تهزيئًا مبطنًا على الرجال (وهي من سُكان كندا) بقولها «كرش حوامل، وأيادِ نحيلة. هو شكل الرجل المعاصر» في إشارة لنمط الحياة السيء لهم، وأيضًا، عدم رغبتهم كما في السابق بتناول حصة أكبر من البروتين الحيواني أو اللحوم الحمراء بالتحديد، والذي لطالما كان يفضّله الرجال على النساء؛ فانتشار «النباتيين» من الرجال اليوم بلا شك، أصبح أكثر من أي وقتٍ مضى، ونفس الأخصائية تعتقد أن الأمر أصبح «أشبه بالدين» في تغريدة لاحقة معقبةً بتهكّمها.

    أعرف تمامًا أن اللُطف ضروري في أي علاقة صحية متوازنة بالنسبة للرجال. بين الرئيس ومرؤوسيه، بين الرجل وعائلته وأصدقاءه، لكن المشكلة تتشكل عندما يكون اللُطف هو طريقة التعامل الوحيدة التي لا يعرف غيرها الرجال طيلة الوقت وتحت أي ظرف، حتى تتحول إلى حساسية مفرطة تُهدر حقه وحضوره، يصمت أمام من يستهزئ به، ولا يرد على من تجاوز حدوده عليه.

    وأعرف أيضًا أن الرحمة لا تأتي إلا من الأقوياء، الذين يرحمون بدافع الخيار والتأكد أنهم يستطيعون أن يرحموا الآخر. أما الرجل الرحيم الذي لا يملك أصلًا أي خيار، فهو (ويؤسفني القول) أنه لا يُحسب ضمن فريق الأقوياء. فالرحمة لا تأتي من شخص لا يملك خيارًا في إعطائها أو أخذها.

    حساسية بعضنا نحن الرجال ربما تحتاج إلى بعض الاسترجال؛ الاسترجال بلا شك ليس البطش، بل عكسه تمامًا، وتحتاج بعض التأقلم والاقتناع بأن العالم ليس على مزاجنا لنحكمه ونجبر الآخرين بأن يقولوا أو لا يقولوا ما نريد. التوازن واستشعار الحكمة بأننا في عالم ليس مثالي هو الأمر الأهم، مع الإبقاء قدر الإمكان بأعلى رصيد من التأدب واللطف الذي يحبب الآخرين لنا. ولكن عندما يجد الجد، فإنه من الأجدى أن يجعل سلاح الرد بالكلام مصقولًا. فالدفاع عن النفس، ليس كالهجوم.

     

زر الذهاب إلى الأعلى