راحة البال في التقليل
عندما تقل الرغبات في الأشياء تقل المصاريف، وعندما تقل المصاريف تقل الالتزامات، وعندما تقل الالتزامات تزداد راحة البال، اكتشاف سخيف ومهم في نفس الوقت. هذا المثال السطحي لا ينطبق على المال فقط، بل على الهوايات وخيارات الأكل والطموحات العملية وكل شيء أكبر من طاقاتنا.
أتأمل مؤخرًا فكرة «راحة البال» والتي يزداد توددي لها مع تقدمي في العُمر. ومع وجود الانترنت وتسارع نمط الحياة والفُرص العديدة المتوفرة والتي قد يحصل عليها إنسان في عمري مع تراكم بعض الخبرة، وجدت نفسي مؤقتًا ضائعًا فيما أريد ولا أريد.
الإعلانات عن عسل السدر ومكائن الحلاقة، وعروض اشتراكات النوادي والوجبات الصحية، والوظائف ذات الرواتب العالية في المُدن الأخرى كلها تحرك شيئًا ما داخلي، وكأنها كلها تنقصني.
رغبة الإنسان في الحصول على المزيد من كل شيء رغبة طبيعية؛ فقط إن وجدت من يحفزها، وهذا ما يجعل كُتب تطوير الذات التقليدية شديدة الانتشار، وازدياد متابعي مشاهير السنابشات المهول مبرر. كلهم يدفعونا للبحث عن شيء نعتقد أنه ينقصنا. نبحث عن شكلنا الأكثر وسامة وأنجح وأنحف وأغنى وأكثر سفرًا، مع ابتذال واضح لما نملكه.
راحة البال في التقليل. في تقليل ما نعتقد أننا بحاجة له. هذه الفكرة التي أتأملها بالتحديد.
كُنت دائمًا أعيب على أحد أقاربي المتخرجين بشهادة معتبرة والذي يسكن في مدينة نائية مع زوجته وأطفاله في بيت ظريف وحياة اجتماعية أقرب ما تكون إلى الرائعة، عندما كنت أخبره بأن مدينة أخرى إن ذهب إليها وتوظف فيها قد تعطيه فرصة الحصول على ثلاثة أضعاف راتبه الحالي، ليكتفي بالرد عليَ «ولماذا؟» ويتبعها بإخباري عن حزمة من الامتيازات غير المادية التي يفتقدها كل أقرانه. رفقة الأبناء، عمل غير متطلب، وخرجات غير مكلفة، وإجازة بسيطة، وفرصة أكبر للحصول على بيت العمر بسبب رخص الأسعار النسبي، هي تعويض يراه جيدًا عن ثلاثة أضعاف الراتب. سببها الاكتفاء بالمدينة التي يعيش فيها، سببها ربما حرصه على الاكتفاء بالتقليل.
قد لا يكون ما يفعله الصديق هو المثال الأفضل لكل إنسان يبحث عن أحلام حياته العملية. إلا أن رحلة البحث عن تحقيق الأحلام لا يجب بأي شكل أن تهزم نزعة الإنسان العكسية في البحث عن «راحة البال».
السرعة وغزارة المعروض تجعلنا لا نرتاح في بالنا. نظرتنا لما ينقصنا لا تجعلنا نرتاح في بالنا أيضًا، مهما حصلنا على المزيد.
جربت حالة التقليل مؤقتًا، قمت بحزمة تغييرات في نمط حياتي اليومي منذ بداية العام، أصبحت أكثر انضباطًا بعدم الخروج من المنزل مع صرف المزيد من الوقت على الرياضة المنزلية غير المُكلفة من خلال اشتراكي في برنامج Apple Fitness+، مع الانضباط في القراءة المنتظمة العميقة، والخروج فقط مع أصدقاء أود بصدق أن أقابلهم، لأكتفي بالسؤال عن حال الآخرين هاتفيًا.
جربت أن أرفض معظم المشاريع المغرية وعروض العمل الفلكية التي تتطلب مني الانتقال إلى مكانٍ آخر. كل ما أوده هذه الأيام تنمية مشروعي الخاص بهدوء وببطء، والمزيد من الكتابة وطبعًا المزيد من المقرّبين. قررت مكانها أن أعوض ذلك بزيادة الرصيد المالي بالاستثمار والادخار المنتظم، وقررت محاولة زيادة ثرائي بالورد اليومي من الامتنان والحمد، وممارسة حياة أكثر بطئًا مع اليوجا والتأمل وغداء يومي مع والدتي التي تفتقد زوجها كثيرًا.
اختياراتي في الأكل أصبحت محددة ومعروفة، كتبت ذات مرة بضع وجبات أحبها جدًا، وأصبحت حريصًا قدر المستطاع على ألا آكل غيرها. كل يوم.
ولا أعلم إن كانت ضالتي ستتغير مع السنوات القادمة، إلا أن التقليل من الإزعاج الكثيف والذي لا ينقصني معروضه أصبح مفعوله واضحًا على راحة البال. سيارتي التي أقودها من أجمل السيارات التي قدتها في حياتي، سعرها نصف قيمة السيارات التي اعتدت قيادتها في السابق. حتى الملابس والثياب، لا تخرج عن كونها محددة الشكل والنوع، ثياب مريحة أو تي شيرت من نوع واحد مع جينز، ولا أملك سوى ساعتين (واحدة غالية اشتريتها قبل الزواج، وهي مركونة في درجٍ ما) والثانية ساعة «أبل» التي تشجعني يوميًا على التحرّك.
وقّت زيارتي للحلاق مرة كل ثلاثة عشر يوم، دافع الزيارة دائمًا وأبدًا نفسي وليس شكلي. أحاول التوفير في أشياء كثيرة لأعطي نفسي الحق بالسفر غير المكلف. مساحات الحرية في اختيار كيفية قضاء ساعاتي اليومية لا تُمس، أحاول النظر إلى يومي يومًا بيوم، وأحاول الحصول على بعض راحة البال، والتي يراها أقراني نوع من التكاسل.
عندما يبحث الإنسان بعمق وتركيز عن راحة باله، سيرى أن القليل مما لديه هو الحقيقة المختبئة التي يشوهها الإعلام وبعض الأصدقاء المجانين. والثراء الحقيقي ربما سنكتشف في يومٍ من الأيام أن صعوبته في القناعة وليس في المزيد من كل شيء، بل بعضٌ من بعض الأشياء.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.