تخطى الى المحتوى

ثمانية ساعات عمل: من اخترعها؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

«كل رجل يحتاج لأكثر من يوم في الأسبوع لكي يرتاح ويتابع إنتاجه، ونحن في شركة فورد نؤمن أنه من الواجب علينا أنا نعطي منسوبينا أفضل بيئة عمل (وحياة). ونؤمن أيضاً أن الحياة الصحية يجب أن تتضمن خلالها صرف المزيد من الوقت مع الأُسرة» يقول Edsel Ford الرئيس التنفيذي لشركة فورد (وهو إبن مؤسس الشركة هينري فورد) في مقالة نُشرت في مارس عام ١٩٢٢م.

أعطى هينري فورد عرضاً بقيمة ٥ دولار على كل يوم عمل مطلع القرن الماضي في شركته فورد لصناعة السيارات لأي شخص يتوظف معه في الشركة. كان هذا العرض بمثابة الصاعقة لمعظم الشركات وبيئة الثورة الصناعية آن ذاك، حيث كان معظم العاملين يأخذون أقل من نصف هذا المرتب مقابل عملهم – تقريباً – كل أيام الأسبوع لأكثر من عشرة ساعات في اليوم الواحد. شكل هذا العرض بيئة عمل مثالية جداً لكل موظف ينضم إلى هذه الشركة التي أصبحت حلم كل موظف (أجير). تحولت معظم الشركات تدريجياً لتطبيق هذا النظام الجديد من العمل، والذي ربما أصبح بشكل واضح هو النظام المتبع في كل القطاعات في العالم حتى اللحظة.

يتناول هذا الموضوع بشكل أعمق رجل أعمال سيليكون ڤالي والكاتب Alex Soojung-Kim Pang في كتابه Rest: Why You Get More Done When You Work Less حيث كان يجادل بأن فكرة العمل على مزيد من ساعات العمل خلال اليوم ليست بالضرورة هي الطريق الوحيد للنجاح، بل العكس تماماً هو الصحيح. ويعقب في مقابلة أجراها مع صحيفة الجارديان بقوله: «أثبت الأوربيين أنهم علىً صواب [في حجم ساعات العمل الأقل المفروض على الموظفين]» ويضيف: «في المكسيك وكوريا الجنوبية يعمل الموظف ساعات أطول خلال الأسبوع من نظرائهم في الدول الاسكندنافية، بل وأكثر من ألمانيا، مع معدل أقل من الانتاجية.»

متوسط ساعات عمل الموظف الألماني خلال اليوم لا تتجاوز في معظم الأحوال ستة أو سبعة ساعات عمل، ويتميز الألمانيين أن بيئة العمل لديهم يغلب عليها الطابع الذكوري، ليس لوجود مشكلة حقيقية لديهم تجاه النساء؛ لكن لاقتناعهم أن المجتمع يمكن له أن يحقق الكثير من التأثير لو انشغلت معظم الإناث في المهام المنزلية دون حاجتهم للعمل أيضاً من أجل تحقيق طموحات الأسرة المالية، لينحصر عمل الآنثى هناك في معظم الأحوال نحو طموحاتها الشخصية.

تستعرض قناة BBC في فيلمها الوثائقي Make me German مذيعها (البريطاني) الذي يعيش فترة في ألمانيا محاولاً جذب الانتباه لطريقة معيشة وعمل الألمانيين شبه المثالية، خصوصاً حول سمعتهم الكبيرة في جودة الإنتاج ودقة التصنيع، ليكتشف ويتطرق أثناء الفيلم لنقطة «أنه كبريطاني ربما لا يتبنى هذا المفهوم من العمل لديهم في الحياة». أكثر ما أثار انتباهي في هذا الفيلم أن المذيع أثناء تجربة عمله في مصنع فايبر كاستل للأقلام والمراسيم، حاول بشكل طبيعي أن يمسك هاتفه ليرسل رسالة جوال وهمية، ليقوم زميله الألماني بتوبيخه على هذا العمل … فليس هناك موظف ينشغل بجواله (أو مع قنوات التواصل الاجتماعي) أثناء يوم العمل – شديد التركيز والإنتاجية -. ولا ننسى في المقابل أن رفاهية الوصول لقدر عالي من الانتاجية والاستمتاع بساعات عمل أقل خلال اليوم، تتطلب من جهة أخرى عدم الالتهاء بأمور غير مهمة خلال اليوم (مثلما أفعل أنا شخصياً، ويفعل الجميع أثناء يوم العمل).

يملك كل إنسان في هذا العالم ٢٤ ساعة في يومه، نفس الـ ٢٤ ساعة التي يملكها بيل جيتس وآينشتاين والموظف الحكومي البسيط في محافظة حفر الباطن. ويملك في القرن الواحد والعشرين معظم سكان الأرض قدرة أعلى التعامل مع وسائل يفترض بها أن تسهل الحياة على الجميع، لكن تظل المجتمعات المتأخرة ودول العالم الثالث تصطدم بمعدل إنتاجية قليل نسبياً، بل ربما أقل من معدل الإنتاج أيام الثورة الصناعية قبل مئة عام بشكل تناسبي.

يظل السر – في رأيي – والحل المباشر هو: العمل بتركيز أكبر خلال اليوم، لمهام تساهم بشكل مباشر في التطوير، تماماً مثل الألمانيين … دون تواصل اجتماعي أثناء العمل، ودون ملهيات ليس لها داعي. وبكل شفافية، هذه رسالة أوجهها لنفسي قبل أن أكتبها للآخرين اليوم.

شخصياً لا أتبع مدرسة الالتزام بساعات عمل طويلة، ومع هذا ألتزم في عدة أيام بساعات عمل طويلة بشكل اختياري دون أي ضغوط من إدارة أو جهة تُحاسبني على وقت الدخول والخروج اليومي، مع اقتناعي شبه التام أن الإنسان بشكل عام لا يستطيع من الأساس الالتزام بنفس وتيرة الإنتاج وتركيز صلب لأكثر من أربعة ساعات عمل، خصوصاً إن كانت متواصلة خلال يومه. الإنجاز أولاً وأخيراً، وليس ساعات العمل.

جربت أياماً كثيرة من العمل لساعات تجاوزت الاثنا عشر ساعة عمل خلال اليوم، وجربت الإلتزام بأقل من ستة ساعات بإنتاجية أعلى، وليس هناك حاجة بأن أقول أن التجربة الثانية كانت أكثر إثارة، بل أنني أذكر جيداً أن ساعات العمل الطويلة لم تغير الكثير من إنجازات الشركة التي كنت أعمل بها وقتها أو بعدها. بل أجهدتني وقطعتني عن العالم والحمدلله.

عندما قررت شركة فورد حصر العمل على ساعاتها الثمانية، كان الهدف هو التركيز على انتاج عدد أكبر من السيارات من خلال التزام موظفي المصنع بالانشغال في أجهزتهم وتصنيعهم، وليس انشغالهم بإرسال فواتير أو إيميلات قد لا تتطلب سوى دقائق عمل خلال اليوم. كان مفهوم الإنجاز ينحصر فقط في عدد الآلات/ السيارات المُصنعة، والتي تتطلب بطبيعة الحال وقتاً أطول. في نفس الوقت الذي لا نحتاج فيه إلى عدد ساعات أكثر، بل لذهن صافي وتركيز أكثر في عهد الاقتصاد الحديث.

أجد بكل وضوح أن مفهوم العمل اليوم توزع بين الأمور التي ربما نعتقد ملياً أنها هي الإنجاز مثل حضور العديد من الاجتماعات وإرسال عشرات الإيميلات، ولو أن الحقيقة ربما تقول أن العمل الحقيقي لا ينحصر هناك، بل في مهام أكثر جدية وتعقيد، كإدارة مشروع ما والتركيز على خدمة العملاء بكفاءة أعلى، والأهم خلق قيمة يُستفاد منها.

أتمنى أن تكون مثلاً هذه المقالة جزءاً لا يتجزآ من العمل الحقيقي، فهناك نسخة أخرى مني منشغلة مع السناب شات وانستقرام وتويتر الآن.


[سأتحدث عن مفهوم العمل في الاقتصاد الحديث في أمسية بعنوان: بين وهم الإنجاز والعمل الحقيقي في مركز سيدانة الثقافي بتاريخ: ٢٦ سبتمبر ٢٠١٧م، أسعدوني بالحضور إن كنتم في مدينة جدة].

مقالات عن الانتاجية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

كيف نتعامل مع كثرة الأهداف في حياتنا؟ (ملفّات القرّاء ٤)

مساء الخير أُستاذ أحمد، جزيل الشكر على هذه المدونة الجميلة والمفيدة، سؤالي: كيف يتعامل الإنسان مع كثرة الأهداف في حياته؟ حينما يحاول التخطيط للفترة القادمة، يجد أهدافاً كثيرة على جميع المستويات إيماني، تخصصي، معرفي، اجتماعي ومالي وغيرها! وكلما حاول عمل فلترة، يجد هذه الأهداف والأمنيات ملحة! فيزداد حيرة؛ يخاف

كيف نتعامل مع كثرة الأهداف في حياتنا؟ (ملفّات القرّاء ٤)
للأعضاء عام

فيما يخص تعليق الشهادات على الجِدار (رسالة قارئة)

عن المقالة السابقة بعنوان في تعليق الشهادات على الجِدار. وصلتني رسالة لطيفة، أعتقد إنها تستحق النشر. هنا رد قارئة كريمة اسمها السيدة/ شيخة علي الخروصية: فيما يخص أهمية الشهادات المهنية سأحكي لكم عدة أحداث أو مواقف مررت بها لعلها تضيف شيئاً لكم. أحدثها أننا في قسمنا ممثلين المؤسسة بأكملها

للأعضاء عام

أقف حائرًا مرة أخرى أمام نصائح الانترنت

أفهم جيدًا أن معظم النصائح التي تأتي من أماكنٍ عشوائية من الإنترنت هي محل تساؤل. وأفهم جيدًا أن ليس كُل ما يُقال قابل للتصديق. ورغم هذا (الادعاء)، فإن شيئًا داخلي لا يستجيب بنفس القدر. أتأثر وأتحمس للبعض، وأستنكر تمامًا آخرين. أتابع عشرات الحسابات التي

أقف حائرًا مرة أخرى أمام نصائح الانترنت