القارئ ليس على مزاج الكاتب بالتأكيد
معضلة قديمة ومستمرة.
إحدى أغرب الأمور في تجربتي الكتابية هي التناقض الصارخ بين ما أكتبه معتقدًا أنه سيروق الآخرين، ولا يُعطى أي اهتمام، وبين ما اعتقد أنه لن يروقهم، وأكتشف أنه سمّع بعيدًا.
أذكر عام ٢٠١٥م أحد الأحبة الذي لم يتحدّث معي منذ زمن، قد اتصل ليشكرني على مقالة كتبتها على عُجالة وأنا في دورة المياه أعزكم الله، من باب الالتزام بتوقيت نشر كُنت قد وضعته لنفسي، ويخبرني: «هذه المقالة فتحت لي الكثير في عقلي، شكرًا لك من القلب، اتصلت لأقول لك ذلك فقط».
بينما هناك مقالات عزيزة على قلبي، استغرق بعضها قرابة أربع ساعات من تجميع للأفكار، وبحث واستشهادات، ولم تلق ربع بال معظم القرّاء. لدرجة أن إحداها كُنت قد نشرتها صوتيًا على تطبيق «كتاب صوتي». ولا تزال لم تلق أي اهتمام.
هذا الصنف تحديدًا أملك على الأقل فيه خمسين مقالة.

وبعدها تعلّمت: إنَّ القارئ الكريم ببساطة لا يسير بالطريقة التي أرسمها له.
فهمت أحد أهم الدروس الفنية الأخرى، وهو: أن الكاتب، والرسّام، والمُلحن، وغيرهم من الفنانين لا يملكون - حرفيًا - إلا إدارة جهودهم، ولا يملكون أي تحكّم في النتائج. ولذا، لا يوجد طريق مختصر مهما ادعى وحلف على المصحف أي كاتب، أو ناشر، أو مدون.
مقالة « جدة وأهلها» مثلًا، كانت أكثر مقالة كتبتها تداولًا في التواصل الاجتماعي على نحو كاسح طوال حياتي الكتابية، وجعلت اثنين من الآنسات يسلمون عليَ في أحد الأماكن العامة، ويشكروني عليها، وسيدة أخرى كريمة قد بعثت إليَّ هدية ظريفة إلى المكتب كانت كوباً مصنوع يدويًا عليه ثيمة جدة. وبعض الأصدقاء تهكّموا عليَ بأني «منور التايم لاين هذا الأسبوع». هذه المقالة كانت مقالة قصيرة حتى بمقايس المدونة.
وهناك بطبيعة الحال مقالات تقف بين الضدين، لأنها إما نُشِرت في توقيت خاطئ، أو أنها لم توضع داخل «برواز» كما يقول أحد المهندسين الصوتيين للمحتوى الذي يستحق أن نجعل الآخرين يعطوه بعض الانتباه.
أذكر مثلًا مقالة ضيف عظيمة لصديق قديم، وهو الفيلسوف والدكتور عبد الرحمن المرشود، وهو بالمناسبة صديق منذ قرابة خمسة عشر عامًا على التواصل الاجتماعي، وقد كُتب لنا أن نلتقي مؤخرًا في مهرجان إقرأ لنجلس معاً عدة ساعات يوميًا، وعلمت لما كان صديقًا لا أود التفريط به، حتى وإن كان أونلاين فقط.
على كل حال، أجد أنه من المؤسف ألا يكتشف الكاتب ما يستأنس به قارئه حقًا، وفي الوقت نفسه أجد أن هذا الأمر نعمة حقيقية؛ لأنه قد يتحول إلى شبه برنامج إذاعي قديم يركز فقط على ما يطلبه المستمعون دومًا، دون أصالة أو عُمق.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.