أونكل جاك – الجزء الثاني: مقالة ساخرة
(هذه القصة مستوحاة من أحداث حقيقية، وهنا الجزء الأول).
بعد أن باشر صديقي في بناء رصيد عِشرة العُمر مع نسبائه الأجانب عبر كسر شجرتهم التي ربما تجاوز عمرها مئة عام في حيّهم، مع تهشيم زجاج السيارة الفخمة التي حاول بها أن يكسب بعضًا من التقدير من عيونهم باستئجارها؛ مثلما يفعل الكثير من العِرسان من تصرفات في بداية حياتهم الزوجية أمام أهل العروسة (والفشخرة ليست آخرها).
مشى حال الليلة الثانية على خير.
وقررت الأُسرة احتفاءً بابنتهم مع عريسها الذي أشعر الجميع بالتوجّس، أن يقوموا بخلق جدول طويل عريض من الفعاليات الصيفية، كان منها: التجوّل في الأرياف، والسفر إلي مدينة باريس (عبر القطار الشهير تحت الماء)، والذهاب إلى حفل غنائي. كل فعالية منها كانت مع مصيبة تصلح لمقالة منفصلة.
يعتقد الكثير من الرِجال أن استعانتهم بأي نوع من أنواع المساعدة فيه تهديد حاد لرجولتهم، سواءً فيما يخص المهام المهنية المعقدة، أو حتى سؤال شخصٍ مار في الشارع عن محل تائه عنه. فالرجال كما تعلمون.. يعلمون كل شيء، ولا حاجة لتدخلات خارجية.
وعندما يتعلق الأمر بامتياز خاص بالرجل (السعودي أكثر من غيره) فالتهديد يصبح مضاعفًا، كقيادة السيارة مثلًا، فإن أعطيته تعليقًا سلبيًا على قيادته التي يقوم بها منذ عشر أو عشرين سنة، قد يسكت بدافع الاحترام، إلا أنه يقاوم داخله رغبته في شتمك، ومن الأفضل للجميع ألا يكون المنتقد سيدة حديثة العهد بالقيادة.
بالنسبة لصديقي فإن موضوع القيادة كان أكثر تعقيدًا من ناحية نفسية. فهو أمام عروسته الآن وأهلها وأونكل جاك شديد الوقار، ومقعد السائق على اليمين لأنهم في بريطانيا، وبالطبع لن تناسبه أي محاولات اقتراح لقيادة السيارة بدلاً عنه إلى الأرياف حرصًا على «الإيجو» الذي كُسرِ جزء منه مع كسرة الشجرة، وها هو مشوار طويل الآن قد يساهم بتعويضه عمّا حدث إن تسلّح ببعض الكرم وخفة الدم، والدعاء أن ينسى الجميع ما حصل في البيت.
لندن مدينة مشي على الأقدام من الطراز الأول، شوارعها صغيرة، واستخدام مترو الأنفاق أكثر عملية من أي وسيلة تنقل أخرى، وإن عانيت ببعض الإرهاق من المشي أو كانت ميزانيتك تحتمل بعضًا من الترفيه، فركوب التاكسي أو «أوبر» هو الخيار الأفضل. إلا أن صديقي يود أن يكون معه سيارة. لأن طول فترة المكوث، ووجود رحلة في بداية قائمة الفعاليات مبرران لا بأس بهما للاستئجار.
استعدت الأُسرة للتحرّك، تم توزيع الأغراض على السيارات، يقترح أحد أفراد الأسرة على صديقي أن يقوم بالقيادة نيابة عنه، لمعرفته بسير خط الرحلة (خرائط جوجل لم تكن متوفرة آنذاك) ناهيك عن موضوع القيادة على الجهة اليُمنى الذي قد يسبب بعض الإرباك، وطبعًا نوع من المجاملة للنسيب الجديد الذي لا يفترض به أن ينكرف في خطوط السفر منذ وصوله. إلا أن هذه الاقتراحات رغم منطقيتها لم تَحسِب المخاطرة الأكبر، والتي ستُبرِز دور «أونكل جاك».
تحرّك الجميع.. ويدرك صديقي أن الشوارع معاكسة الخطوط؛ فالذهاب في اتجاه اليسار والإياب في اتجاه اليمين، عكس معظم شوارع العالم. شخصيًا يصيبني الضحك كلما أصل إلى لندن وأتذكر إنني نسيت موضوع الخطوط المعاكسة، وأحتاج بضع ساعات كي أستوعب أنني عندما أنزل الشارع يجب أن أنظر إلى اليمين بدلًا من اليسار لأنتبه من السيارات القادمة. أذكر في إحدى المرات إنني قُمت -تقريبًا- بحمل والدي (خفيف الوزن) رحمه الله من مكانه عندما نزلنا إلى الشارع، قبل وصول سيارة كادت تصدمه.
في حالة صديقي، كان قد اعتاد ربما على أمر هذه الخطوط.. أو اعتقد أنه اعتاد. وأثناء سيرهم في الرحلة، شيئًا واحد فقط جعل عقله يتوقف تمامًا عن حساب موضوع عكس الخطوط.. شيء واحد فقط سيغير كل شيء: الدوار.
وصل إلى أحد الدوارات في الشارع، لم يستطع التوقف للحظات والسؤال عمّا إن كان يجب أن يأخذ الدوار من اليسار إلى اليمين (كعقارب الساعة)، أو العكس (كالطواف حول الكعبة وكما اعتاد في بلده). وقرر أن يختار عقارب الساعة.
جاء أونكل جاك وبقية الأسرة إلى الدوار وهم ينظرون إلى حال السيارة (المستبدلة بعد حادثة الشجرة) التي بالكاد ترى ملامحها من الجهة الأمامية. فقد ارتطم وجهًا لوجه مع سيارة أخرى، كاد صاحبها أن يُجن من تفاصيل الحدث.
تخيل معي أنك تركب سيارتك وأنت في دوار الكرة الأرضية وتجد مرسيدس عاكسًا للاتجاه بسرعة طبيعية دون حذر ليصطدم فيك وجهًا لوجه. هل ستستغرب نوع السيارة؟ أم تتأمل الراكب؟ أم ستتأمل الحظ الغريب الذي صدم سيارةً فيك بهذه الطريقة؟ ماذا لو قلت لك أن الشرطة قد جاءت بعد أن جاء أهل صاحب السيارة لتكتشف أن أحد أقاربه ضابطًا معروفًا في البلد، وجزء كبير من سمعته كان محورها الانضباط وروح العسكرية!
هذا ما حصل مع صديقي.. جاءت الشرطة، ولأن الخطأ كان مئة في المئة عليه، فكان من المفترض به أن يعاقب عقابًا يتضمن سحب السيارة مع إيقافه في سجنٍ ما، إلا أن أونكل جاك كان موجودًا. تفاوض لساعات طويلة مع شركة التأجير والشرطة وصاحب السيارة الثانية. اضطر عدة مرات أن يذكر أنه الجنرال المتقاعد الذي يستحق معاملة خاصة وهذا الإنسان الطيب هو ضيفهم، وبالفعل تجاوب الانجليز معه في النهاية على مضض. تم دفع الغرامات وتكاليف التحمل من قِبل صديقي، وتوقيع الكفالة من قِبل أونكل جاك. وانتهت الليلة على خير. حتى قررت الأسرة السفر من خلال وسيلة مواصلات أكثر أمانًا إلى باريس.
اعتقد أونكل جاك أن الكوابيس قد انتهت، ولم يعي أن الليل ما زال طفلًا.
التتمة في المقالة القادمة.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.