العزلة غير المتوقعة
لم أقض يومًا في حياتي دون مشاهدة العديد من الأشخاص خلاله. هكذا الحال منذ أن عرفت نفسي، لا أعيش من دون درجات مختلفة من المقرّبين. الأهل، الزملاء والأصدقاء، يزاحمون ساعاتي اليومية مثلما يزاحمني الجوال. إلا أن هناك شيءٌ ما قد تغيّر.
أكتب هذه المقالة وأنا جالسٌ لوحدي في منزلي في اسطنبول بعد أن قضيت اليوم بطوله لا رغبة لي بالتحرّك منه سوى لزيارة سريعة للسوبر ماركت لتلبية طلبات إخوتي، واستقبال سريع لفني الإنترنت. اقترب قليلًا من رغبة قضاء ما تبقى من أيام زيارتي لهذه المدينة الجميلة، والمفترض بها أن تكون بغرض تصحيح بعض الأوراق المرتبطة بعائلتي، لتكون خيارًا جزئيًا وجريئًا للعزلة (طبعًا في حال لم يقرر أحدٌ من أصدقائي المحبين زيارتي عمّا قريب).
في الحقيقة هذه من المرات القليلة التي لا أعرف لماذا أكتب فيها مثل هذه الكلمات، ولا أعرف لماذا أشارك القارئ اللطيف كواليس هذا التغيُر الطارئ على شخصيتي التي تستمد قوتها وطاقتها وفرحها من زحمة الآخرين في الجوار.
اعتقدت أن الناس مع اقترابهم لعُمرٍ معين (الأربعين ربما) يميلون لأنفسهم أكثر من ميلهم لمن حولهم، ولا أعرف إن كان هذا الأمر إيجابيًا أم سلبيًا، لأنني من فئة الناس التي تؤمن أن لا حياة دون أحبة، ولا حياة دون من نشاركهم أحزاننا وأفراحنا، فلا مال يغني عنهم، ولا ممتلكات تواسي بالنيابة. إلا أن فكرة العُزلة ومحاولة استحضار البساطة – كما تحدّثت في مقالات عديدة سابقة – أفكار لا تود أن تفارق عقلي.
قمت بشراء مؤونة عدة أيام لكيلا أحتاج للخروج والأكل في المطاعم، هكذا هو الحال الآن. أصبحت اليوم تلك الشخصية التي كنت أتهكم عليها طيلة حياتي، يريد البقاء مؤقتًا بمفرده أمام لوحة المفاتيح والكتاب ومسلسله التافه. ولا أخفي سر تعجّبي من هذه الرغبة الجامحة التي تعمل عكس ما أُريد لنفسي، وعكس ما كُنت طيلة حياتي.
أُعزّي نفسي بأن حالة العُزلة إن كانت اختيارية ومؤقتة، فهي بالتأكيد ليست نوعًا من أنواع الوحدة التي تأكل في الإنسان مثلما تأكل النار الهشيم. وقد اقترِب قليلًا من فكرة كونها أمرًا صحيًا إن لم تخرج عن حد التوازن، ليعود الإنسان على طبيعته بعدها، خصوصًا إن كان مزدحمًا بمن يحب.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.