الوظيفة الأمتع
أصِل إلى الفرع في تمام السادسة والنصف صباحًا، أقوم بتقطيع الخضروات وغسلها أو نقعها في سطل معقم ممتلئ بالماء المقطّر. النظافة والتعقيم المطلقين كانوا لا يحتملون المزاح بالنسبة للإدارة. كل شيء في غاية الترتيب والتنظيم. مهمة المستجدين مثل حكايتي في البدايات هي في التقطيع والتنظيف لمدة أسبوعين قبل الانطلاق لمواجهة الجمهور على كاونتر الساندويتشات. عجينة الخبز كانت تأتينا من الولايات المتحدة مفردة، مفصولًا كل قطعة عن الأخرى، مجمدة في كراتين، نقوم بإخراج كل حبة، نمرر السكين بشكلٍ سطحي لخلق ثلاث خطوط للزينة على الوجه قبل رش البذور على بعضها، ثم نقوم بإدخالها إلى فرن الخبز، ثم تُخبز وتكون جاهزة للاستخدام فيما بعد.
يقف منصور زميلي، أمام مدير الفرع ليسأله إن كان عليه تعليمي كيفية تنظيف الحمامات والطاولات قبل وصول الزبائن، يتردد قليلًا ثم يطلب منه أن يقوم بذلك. شعرت بالخوف يومها، فلا أعلم إن كان عليَ القيام بذلك أم لا، وأنا أصلًا لا أعرف كيف تتم النظافة بأبسط أشكالها في منزلي أو سيارتي، ولا أعرف إن كانت هذه إحدى المهام الوظيفية التي يفترض بي القيام بها من الأساس.
بعد التنظيف والترتيب.. يقوم الزبائن بالانفلات والمرور علينا قبل ذهابهم إلى أعمالهم ومدارسهم. وبعد بعض فترات الهدوء بسبب وصول الزبائن مستقرهم، أساعد منصور قليلًا في إعداد عجينة الكوكيز، وأنتقل بعدها إلى الإمساك بسطل مربع كبير مصنوع من الألمنيوم. أفتح ست عُلب تونة من الحجم الكبير جدًا الذي لم يراه العميل العادي في حياته، أسكبه في السطل بعد التأكد من إدخاله قبلها في ألة تشبه آلة العصر لإخراج كل قطرة ماء مملح من العلبة، حتى يجف لحم التونة تمامًا. بعد تفريغ العُلب الستة، أقوم بتفريغ ثلاث جوالين ضخمة من المايونيز قليل الدسم عليهم، وأرتدي قفّازين معقّمين، حتى أبدأ رحلة عجن التونة مع المايونيز بيدي لتتحول إلى خليط متجانس يملأ السطل وزواياه كلها، ثم أُغلِّفه بإحكام بنايلون. أكتب عليه وقت وتاريخ الإعداد واسمي، لكي يعرف موظفي الفترات المسائية من قام ومتى تم إعداد الخليط.
يُسمح لي بشرب المشروبات الغازية والماء مجانًا طيلة اليوم، وإن جُعت يُسمح لي بإعداد ساندويتش لنفسي من المنتجات المعروضة حسب رغبتي، على أن أدفع خمسين بالمئة من قيمته الرسمية المسجلة في النظام.
لا أعرف لما لم أحك عن تجربتي باستفاضة أثناء عملي في مطعم صب واي في بداياتي المهنية، إلا أنها بالفعل كانت أيام جميلة، وكانت قيمتها بلا شك أكبر من كونها مجرد وظيفة لقتل الوقت.
كان راتبي وقتها ١٢٥٠ ريالًا سعودي، كُنت أقضي ست ساعات في العمل ما بين الفترة المسائية والصباحية حسب تنسيق جدول الجامعة أثناء الدراسة، قبل تحولي إلى دراسة منتسبة (أو كما تُسمى اليوم دراسة عن بُعد) فيما بعد.
كانت مهمة هذه الوظيفة في حياتي شيئين: الاستعداد للتعرّف على أفضل إصدار من شخصيتي الاجتماعية التي ستعتاد على الجمهور فيما بعد، وثانيها: أمر متعلق بحياتي الخاصة، بالتعلّم عن أفضل وسيلة وآلية للحفاظ على الطعام والتعامل معه بشكلٍ عام لبقية حياتي.
هذه الوظيفة على الرغم من كونها غير محببة للكثيرين في وقتي، حتى أن والدتي عاتبتني عليها في البداية خشية أن يستنكر علي المجتمع، إلا أنها كانت بحق أمرًا ممتعًا.
كانت الإدارة من آل الدقّاق وبافقيه قمة في الخُلق والتعاون والاحتواء، سعيدين بانضمامي للعمل في وقت لا نكاد نرى أحدًا من السعوديين يطرقون باب هذه الوظائف. وكنت بدوري سعيد بانسجام تكيُّف جدولي الجامعي مع أوقات العمل الرسمية، كنت أشارك مدير الفروع أستاذنا القدير عبدالله يغمور الجدول، ليقوم بربطه مع حاجات كل فرع مع أوقات الدوام الرسمية. وهكذا استمرت فترتي العملية.
أما قصصي مع الزبائن، فهي في الأجزاء التالية من هذه المقالة.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.