عن الإنجازات الاستثنائية
لطالما كُنت مبهورًا بإنجازات الروائية الرومنسية نورة روبرتس (ولدت ١٩٥٠م)، والتي نشرت أكثر من مئتي رواية خلال أربعين سنة ماضية. غزارة انتاجها وانضباطها يجعلها اليوم في معدّل إنجاز كتابة كتابًا كاملًا -كبير الحجم- كل خمسة وأربعين يومًا.
ولأن أرقامها مفزعة واستثنائية، فقد شكك الكثيرون فيما أنجزته بافتراض استعانتها لمساعدين في الكتابة، لتخرج قبل بضعة أعوام بمقالة نارية تشرح فيها أنها لا تحب المساعدين، وأن كل كلمة خرجت باسمها إلى العامة كانت قد كتبتها بنفسها.
تبدأ نورة بالكتابة في وقتٍ ما بين الساعة الثامنة والثامنة والنصف صباحًا، لا تراقب هاتفها النقال لأنها لا تملك أيًا من حسابات شخصية فعّالة على التواصل الاجتماعي. تستمر كل يوم إلى ما يُقارب الثمان ساعات، مع توقف عند الساعة الثالثة ظهرًا لبعض الرياضة. وهي لا تقابل الغريبين سوى أبناءها وأحفادها في نهاية الأسبوع، وتقول:
أنا أكتب كل يوم. إنها وظيفتي الوحيدة، وأنا محظوظ جدًا لأنني أحب عملي. ليس كل شخص محظوظًا بمقدار النصف لأن يكون قادرًا على كسب عيشه من فعل شيء يحبه.
كل يوم، في هذه المرحلة من حياتي الخاصة والمهنية، يكون في الغالب أسبوع عمل منتظم. سأخصص، إذا لزم الأمر أو أشعر بالحاجة، بضع ساعات في عطلة نهاية الأسبوع.
أنا منضبطة، هذه هي طريقتي. لدي سرعة في الكتابة، ولقد تلقيت تعليمي (تسع سنوات من المدرسة الكاثوليكية) من قبل الراهبات. لا أحد يضع أساس الانضباط مثل الأخوات. عليك أن تصدقني في ذلك.
ولقد نشأت من قبل والدين غرسوا، وأظهروا بالقدوة، مسؤولية القيام بعملك، والقيام به بشكل جيد، والوفاء بمسؤولياتك.
ولذلك أنا لا أفوت مواعيد التسليم نهائيًا.
تدافع روبرتس – بطعم الثقة الكبيرة بالنفس – عن الروتين بقولها:
في المسار الطبيعي، أعمل من ست إلى ثمان ساعات في اليوم … ولا أستخدم المساعدين لأنهم كانوا يزعجونني، ويرغبون في التحدث معي، ويتوقعون مني أن أكون قادرًا على إخبارهم بما كنت أبحث عنه.
ومرة أخرى، كيف لي أن أعرف حتى أعرف؟
ليس لدي «موظفين»… ماذا أفعل بحق الجحيم مع الموظفين؟ يمكنهم فتح الباب للكلاب، على ما أعتقد؟ أو إحضار كوب آخر من الماء أو الدايت بيبسي. ستكون المقايضة كبيرة جدًا. في مساحتي. وجودهم يفسد كل شيء.
لدي خادمة أسبوعية تعمل لدي منذ عقود. لذلك في الروتين الطبيعي، أنا لا أقوم بالتكنيس الكهربائية وما إلى ذلك. وهذا شيء عظيم …
يحق للقارئ أو كاتب آخر أو غريب على الإنترنت ألا يحب كتبي أو أي كتاب معين. لا يحق لهم أن يدعوني كاذبًا.
هذا النمط المنضبط في الحياة المهنية يدعوا للإعجاب في الحقيقة، لكن هناك مشكلة.
لفت انتباهي لهذه المشكلة الصديقة العنود الزهراني عندما اعترضت على هذا الحجم الاستثنائي من الإنجازات بقولها: أن أحد الأسباب التي جعلت من الغربيين يملكون قدرة عالية على الانكباب في مكاتبهم أو مختبراتهم ليخرجوا إلى العالم بأعمال استثنائية فعلًا، أنهم لا يملكون حياة اجتماعية زاخرة ببساطة.
زيارة منزل الوالدة ليس من أولويات الفئة الأكبر من منجزي السيليكون فالي الذين يقضون أكثر من اثني عشر ساعة في المكتب، والخروج المنضبط مع الأصدقاء لا يعتبر أمرًا أساسيًا لدى الكُتاب العمالقة، خصوصًا إن تقدم بأحدهم العُمر. وقد تكون الأسرة الصغيرة هي المعوض الوحيد بدلًا من اللقاءات والمناسبات الاجتماعية، كما في حالة روبرتس.
كوني في نفس الحِرفة، أعي أن ما تدعيّه أمرٌ صحيحي وممكن في الحقيقة. فالإنجاز الكتابي يعتمد بالدرجة الأولى على حس الانضباط والأوقات الطويلة غير قابلة للمقاطعة، أكثر من أي شيء آخر. ولا يمكن تحقيق ذلك بسهولة في ظل وجود مجتمع يحرص على اللقاءات ويعطي وزنًا للعزائم وحضور الآخرين في الأفراح والأتراح. ناهيك عن إدمان الجميع على التواصل الاجتماعي الذي يعمل عمل المشتت كل دقيقتين في حياتنا.
والسؤال الذي أحاول أن أسأله اليوم: هل يجب أن يكون حجم الإنجاز مشابهًا لروبرتس لكي نشعر بالرضا تجاه أنفسنا؟ أم نكتفي ببعض الانضباط وبعض اللقاءات التي تُشعرنا إننا جزء من شيء أكبر ننتمي له.
هذا السؤال على رغم بساطته إلا أنه كان سببًا كبيرًا لحزني شخصيًا في أيام كثيرة في الماضي بكل صراحة.
مثلي مثل الكثير من أقراني، أحب اللقاءات والمناسبات الاجتماعية، وأميل أكثر بكثير إلى كوني شخصية اجتماعية أكثر من انطوائية. وفي نفس الوقت، تغريني فكرة الانضباط وإنجاز المزيد من الكتابة التي تتصارع قبلها أفكاري ومشاعري لتخرج إلي الورق.
وقد وجدت بعد هذه السنوات أنه من الأجدى إيجاد حلًا ما في المنتصف ما بين الانضباط غير المهزوز والانخراط في بعض أوقات الترفيه، إلى جانب المسؤوليات العملية والعائلية.
ربما أحاول لفت النظر اليوم إلى التوازن. لأن الإنجازات الكبيرة بطبيعتها تحتاج إلى بعض الوقت، وكلما قُسِّم هذا الوقت على فترات قصيرة منتظمة، كلما كان هناك إحساس بالرضا قد نشعر به لاحقًا.
نورة روبرتس في عالمنا تُعتبر إنسانة متطرفة، وقد نكون في عالمها مستهترين.
ورغم احترامي واعجابي الكبيرين لها، إلا إنني أود أن أُنجز عُشر ما أنجزته، طالما أملك مساحة الأصدقاء والأحباب والمغامرات في حياتي.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.