تخطى الى المحتوى

عندما حضرت مناظرة عن الزواج

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
2 دقائق قراءة

أشاهد في فبراير ٢٠٢٠م إعلانًا عن إحدى اللقاءات الثقافية الظريفة في مدينة جدة بعنوان: «مناظرة عن مؤسسة الزواج» سيتنافس ضيفين فيها؛ كلٌ يدلي بدلوه حول وجهة نظره تجاه مؤسسة القفص الذهبي. سارعت بالتسجيل وكُنت بطبيعة الحال أول الحاضرين خلف فضولي الذي دفعني للتعرّف على ماذا ستقوله الآنسة الكريمة والسيد الذي سيأتي من مدينة الرياض خصيصًا لهذه المناظرة.

استقريّت على مقعد في الصف الأخير رغبة مني في مشاهدة ردّات الفِعل والحماس المنتظر من الجميع. لحِق هذه المناظرة؛ مُناظرة أخرى أصغر قليلًا بين إنسانٍ طبيعي وآخر نباتي، كل واحدٍ فيهم يجب أن يُقنِع الحضور بأفضلية نمط حياته الغذائي.

امتلأت القاعة على آخرها بعد وصولي قبل الموعد بحوالي الربع ساعة، التقيت بأخي العزيز أحمد والذي كان مُشرفًا على هذه الفعالية الثقافية، سلمت عليه وشكرني على الحضور وربما أخبرني أنه متابع جيد لما أكتب. أعطاني بعدها مقدمة مختصرة عن المناظرة الرئيسية والتي كانت الآنسة فيها والتي حضرت في وقتها معارضةً لفكرة الارتباط، وبأن الزواج لا يمكن له أن يكون الشماعة التي يُعلٍّق الإنسان آماله العاطفية والروحية عليها، في حين أن الضيف الكريم من خارج جدة، كان العكس. يعتقد أن الزواج -ربما- أمرٌ طبيعي وشر لا بد منه على أحسن تقدير لاعتبارات اجتماعية. وسألني أحمد سؤالً مباشرًا قبل أن يتّجه إلى استقبال الضيفة: إن كُنت مع أو ضد الأمر. لأحسم الأمر بأن رأيي لن يُشكِّل فارقًا، فابنتي الثالثة قد بلغت من العمر ثلاث سنوات.

أمسك أحمد الميكروفون، رحّب بالجميع، واعتذر لأن الضيف القادم من الخارج كانت قد تأخرت رحلته، وعليهم الانتظار بضعة دقائق حتى يصل. بعد خمسة دقائق، أشاهد أحمد وهو يسير بين المقاعد تجاهي، ويسألني بصوتٍ منخفض: «إيش رأيك تطلع نيابة عن الضيف؟ شكله حيتأخر من جد».

اعتذرت بأدب طبعًا، وأخبرته بأنني أولًا متشوق للانصات إلى هذه المناظرة أكثر من شغفي بالإدلاء بدلوي فيها، وثانيًا إنني لم أُحضِّر لها ولا لأسئلتها التي كانت قد وصلت إلى الضيفين الكريمين قبل اللقاء. ليشكرني ويعود إلى المنصة.

يمسك الميكروفون مرة أخرى، يكرر اعتذاره، ويخبر الجميع بأن الضيف سيتأخر كثيرًا، ويخبرهم بأن هناك ضيفًا آخر بديل، سيحل محله وسيقود راية التشجيع على الزواج.. ودون مقدّمات: «رحبوا معي بالكاتب الكبير أحمد مشرف!».

انصدمت عندما سمعت اسمي وأنا ممسكٌ بهاتفي، وجدت أكثر من خمسين شخصًا كانت أنظارهم قد اتجهت إليَ في المقعد الخلفي. انحرجت طبعًا، وقررت شحذ الهِمّة والسير في اتجاه المنصة وأنا أشاهد أحمد يعطيني نظرات اعتذار على توريطه لي بهذه المأساة، أخذت الكُرسي وجلست أمام السيدة شديدة التأنق والتي خشيت من نظراتها إنها كانت تحمل غضبًا تجاهي وهي لا تعرفني.

لن أتطرق كثيرًا لفحوى المناظرة التي لا أذكر كل تفاصيلها الدقيقة، إلا إنني أذكر أنها بدأت بسطرٍ صغير قالت فيه: «لا أرى أية قيمة في مؤسسة الزواج، لا أرى أي قيمة في الإنجاب الذي سيُغرِق هذه المخلوقات الجديدة ببؤس الحياة» وانتهت جولتها الأولى.. هكذا سريعًا!

كان ردي -إن لم تخنّي الذاكرة- بأن المشكلة ليست في فكرة الارتباط نفسها بقدر ما هي النيات التي يبحث فيها الإنسان عن شكله بعد تحققها. تملك المرأة بويضة واحدة داخل جسدها، إن تم تلقيحها ستتغير حياتها للأبد. لا تملك المرأة العادية القدرة أو الرغبة في تعدد شركائها في الحياة، هي تبحث عن أمرين (مع إحساس الحُب): إحساس الأمان، وفرصة الحصول على طفل. لا تكتمل هذه الشرطين دون وجود زوج تعطيه ولاءها إلى الأبد؛ وعندما تتحقق هذه الأمرين (أو أحدهما على أقل تقدير)، سوف تتمكن من وهب نفسها للشريك المرتقب نفسيًا وجسديًا. إن اختفى «إحساس الأمان» أو «فرصة الحصول على طفل» سوف لن يكون هناك أي علاقة طويلة الأمد من ناحيتها، هكذا الأمر ببساطة.

الوضع مختلفٌ تمامًا بالنسبة للرجل، فهو يبحث عن قالب مستقر ومستمر يُشبع من خلاله عواطفه وأحاسيسه البيولوجية، يستمد بعدها قيمته كإنسان من خلال توفير العطاء والرعاية والأمان للشريكة وأسرته، هذا العطاء هو الذي يُشعِرهُ مع الوقت باكتمال رجولته. وعندما لا يحصل على مردود عاطفي وغريزي مُشبِع من ناحيته، سوف لن يكون هناك علاقة مستمرة طويلة الأمد، هكذا الأمر ببساطة أيضًا.

إن كانت مشكلة الشباب (معظم الشباب والشابات الصِغار) أنهم في الواقع يستهينون بمسألة العُمر، فهم في المقابل سرعان ما يستيقظون فجأة للبحث عن بدائل سريعة تجعلهم ينخرطون في أمور تقرّبهم من القفص أكثر. فالوقت يسير ببطء قبل الثلاثين، ويبدأ بالقفز بسرعة بعدها. هذا الأمر لا ينطبق على الواقع الاجتماعي، بل العملي والعلمي أيضًا. تقل الخيارات أكثر فأكثر بعد الأربعين، وقد تعلّمت -رغم ادّعائي بانفتاحي- أن المدرسة التقليدية دائمًا ما تفوز نهاية الطريق. تعلّمت أن ما يحاول إقناعنا به أباءنا وأجدادنا دائمًا ما يكون صحيحًا نهاية المطاف، حتى وإن كان شيءٌ داخلي يحاول إقناعي بالعكس في أمور كثيرة.

مؤسسة الزواج ربما تكون هي الملجأ للباحث، والشبح الذي سيبقى مطاردًا للرافض. أعتقد أن ردودي لم تخرج عن هذه الأفكار بشكلٍ مختصر.

على كل حال استمتعت بالنقاش، واستمتعت أيضًا بجلد الإخوة النباتيين الذين يعتقدون بأن نمط الحياة الصحي هو في الابتعاد أكثر عن البروتين الحيواني الذي يُسبب أمراضًا مرتبطة بالقلب وانسداد الشرايين، ليقوم الدكتور محمد بإقناع مناظره النباتي والبقية بأن العِلم قد تطور اليوم وأثبت أن عدونا الأول هو السكر المضاف، وليس البروتين والدهون الحيوانية (أعتذر من أحبتي النباتيين، أحبهم كلهم، ولا أحب نمط حياتهم).

تم عمل تصويت نهاية الجلسة، ومن حسن الحظ إنني وآكل اللحوم قد فُزنا بجولاتنا، وقد كان ذلك الأسبوع الأخير قبل انغلاق العالم كله بسبب تفشي الجائحة. انهيته على خير. وعدت إلى ميامي في الأسبوع التالي.

 

 

شؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن

كان من المثير للدهشة بالنسبة إلي، أن اقتراحات يونيو ٢٠٢٤م قد لاقت تفاعلًا من القريبين أكثر من القرّاء، وهذا أمرٌ لطيف في الحقيقة، لكيلا يشعر المُقترِح أنه «يكلم جدار» مع اقتراحاته. عمومًا، لا يمكن أن أُعطي اقتراحات خارجية، قبل أن أحصل على شيء من

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن
للأعضاء عام

لماذا تطرد برشلونة سُيّاحها؟ (الموضوع أعقد مما نتصور)

ربما يكون أحيانًا تغيُر نمط حياتهم البسيطة بشكلٍ جذري سببًا كافيًا لعدم تحمّل الضيوف!

لماذا تطرد برشلونة سُيّاحها؟ (الموضوع أعقد مما نتصور)
للأعضاء عام

قصة الحادث الذي لم يغيّر حياتي - الجزء الأول

تريدون قصة؟ سأحكي لكم واحدة. كُنت أدرس في المرحلة الثانوية عام ٢٠٠٤م. اتصلت على أحد الأصدقاء (الذين تخرّجوا)، واتفقت معه أن يمر عليَ صباح اليوم التالي ليقلّني من البيت بسيارته في تمام الساعة السابعة صباحًا، في الفترة التي كان فيها معظم من في سني لا يملكون

قصة الحادث الذي لم يغيّر حياتي - الجزء الأول