كيف نتعامل مع الإعلام الذي يعبث بنفسيّاتنا؟
يبدو من الواضح وقوفي ضد تأثير بعض جوانب حياتنا المعاصرة؛ ضد الإعلام (الغربي على وجه الخصوص)، وضد التأثير السلبي من التواصل الاجتماعي. أنغمِس في بحثي عن الإجابات، والتي أصبحت -أكثر من أي وقتٍ مضى – تستوقفني وتدعوني للتأمل.
كُنت في السابق أحتفظ بمعظم هذه التأملات لنفسي، إلا إن شهية التعبير والالتقاط بعض التأملات أصبحت في أوجهها هذه الأيام، وها أنا حبًا وتقديرًا للقارئ الكريم أشاركه ما استطعت منها.
أقف اليوم عند حل ومفارقة عجيبة عن آلية محاربة الطوفان الهائل من العبث في الإعلام والتواصل الاجتماعي، نص التقطته من كتاب «كيف تدمر وسائل الإعلام الحديثة عقولنا: تهدئة الفوضى، من مدرسة الحياة، ص. ١٠٢ – ١٠٥». وهو اقتراح من الباحثين عن حل لهذه الأزمة، في قسم يُسمى «كن ارستقراطيًا»، وقد راقتني زاوية النظر.
كن أرستقراطيًا:
«إحدى الطرق لمحاولة البقاء على قيد الحياة في عالم يهيمن عليه الإعلام هي أن تبذل قصارى جهدك لتصبح أرستقراطيًا. الأرستقراطيون، بطبيعة الحال، أن تكون أرستقراطيًا قد يكون اقتراحًا سخيف إلى حد ما … فهم يدفنون أنفسهم في أعماق [حياتهم]، يفتقرون إلى المواهب، وغير مجهزين للمنافسة في مجتمع قائم على الجدارة. لكن لديهم ميزة واحدة يحسدون عليها: إنهم غير مبالين تمامًا بالرأي الشعبي.»
عندما نستبدل «الرأي الشعبي» بما هو موجود في «الإعلام الحديث وقنوات التواصل الاجتماعي» ربما سنستشعر ما يحاول النص إخبارنا به، ويتبع:
«لا يخطر ببالهم [الارستقراطيين] أبدًا أن ما يهتمون به يمكن أن يحظى بسمعة عادلة في وسائل الإعلام. إنهم يتقبلون أنهم ينتمون إلى أقلية مختلفة، وسيكون من السخافة أن نتخيل أن الشخص العادي يعرف شيئًا عن عالمهم الحقيقي، ناهيك عن التعاطُف معهم. وهذا ما يمنحهم القوة للتعامل مع وسائل الإعلام بلا مبالاة.
إنهم لا يلومون أو حتى يكرهوا الصحافة الشعبية لعدم فهمهم: فهذا أمر لا مفر منه.
إن الغالبية العظمى من السكان هم – في نظرهم – مجرد أشخاص غير محظوظين، ذوي نيات حسنة بشكلٍ ما، ولكن لا يمكن تصور أن لديهم آراء تستحق أن تؤخذ على محمل الجد.
الأرستقراطيون ليسوا مناهضين [أو موافقين] للديمقراطية سياسيًا [ لدى الغرب]، بل هم شيء مختلف تمامًا، وأكثر إثارة للاهتمام: هم من ناحية نفسية فوق الرأي العام.
قد نرغب بالأحرى في أن نشاركهم بعضًا من عدم اهتمامهم، ولكن كيف يمكننا – نحن الذين نفتقر إلى القصور والطوابير الطويلة من الأمجاد [والثروات] – أن نتمكن من الوصول إلى هذه الحالة الذهنية السامية والمبهجة؟»..
جول باربي دورفيلي، الارستقراطي الذي لا يملك المال:
«أخذت هذه المعضلة إجابة واحدة مثيرة للاهتمام في فرنسا في القرن التاسع عشر.
تقليديًا، تم تعريف الأرستقراطيين من خلال قوتهم الاقتصادية والسياسية الضخمة. ولكن في ثورة ١٧٨٩م، فقد الكثير منهم أرواحهم وخسر المزيد منهم أموالهم، لذلك بدأ استكشاف تعريف جديد. كان الروائي وكاتب المقالات جول باربي دورفيلي شخصية محورية في ذلك. ولد عام ١٨٠٨م في طبقة من النبلاء في نورماندي، وكانت عائلته متحالفة على مدى أجيال مع كبار اللوردات الذين حكموا البلاد. ومع ذلك فقد فقدوا أراضيهم ومنازلهم، لكنهم ما زالوا يرغبون في الإشارة إلى أنهم ليسوا مثل أي شخص آخر. حاول باربي دورفيلي أن يعطي شكلاً للشعور بالتفوق الذي لا يعتمد على النسب أو المال: ربما لم يعد على قمة المجتمع من الناحية المادية البحتة لكنه كان يمتلك – كما كان يعتقد – حسٍّا مختلفًا. وعنوان أكثر أهمية؛ لقد كان أحد المبادرين إلى فكرة جديدة للأرستقراطية وهي: أرستقراطية الروح، وليس الدم.
اقترح أن تكون أرستقراطيًا في العالم الحديث، كامتلاكِك ذوقًا أنيق، وإحساس وأفكار سامية، ومشاعرًا راقية.
وهذا، بدلاً من امتلاك مساحات كبيرة من الأراضي وقصر أو اثنين، هو ما أعطى المرء مفاتيح النخبة. في حياته الخاصة، عبر باربي دورفيلي عن موقفه من خلال تبني أسلوب باهظ في اللباس وعرض الذات. كان مغرمًا بالقُفّازات المصنوعة من الدانتيل، وغالبًا ما كان يرتدي ربطة عنق متقنة؛ أطلق شاربًا كبيرًا، واتخذ وضعية متغطرسة، وأتقن طريقة لرفع ذقنه وخفض جفنيه والتحديق في أنفه للتعبير عن عدم الاهتمام العميق بما قد يفكر فيه الناس بشكل عام، أو – في الواقع – في أي شيء آخر.
لم يكن يعتقد أنهُ يفرق عن الجميع بسبب سلالته؛ بل بسبب روحه. لقد عارض بشدة فكرة الشعبية، وقال إن المثل الأعلى هو «أن تكون عبقريًا وأن تكون غامضًا»، (على الرغم من أنه كان، في الواقع، يُقرأ لكتاباته على نطاق واسع في عصره). إن سمو، وقوة عقلِه، لم تكن بحاجة إلى تأييد شعبي [فهو محبوب في الأساس ككاتب وروائي].
كان باربي دورفيلي يضع أصبعه على احتمال حاسم: أنه قد تكون هناك نسخة حديثة وقابلة للتطبيق من الازدراء الأرستقراطي المشروع للرأي العام.
قد يكون من المعقول أن ترى نفسك «فوق» النقاش الشعبوي، دون أن تمتلك عقارًا أو اسم عائلة عريق، وذلك مقابل فقط الإيمان بأن لديك نوعًا مختلفًا من العقل. قد يكون من المؤسف أن باربي دورفيلي كان متعلقًا عاطفيًا للغاية برؤية الظهور بمظهر مميز، بحيث لم يتمكن من التعبير بشكل كامل عن المغزى الأعمق لفكره.
في الواقع، يمكن للأرستقراطي الخالص أن يبدو طبيعيًا تمامًا، ويعيش في منزل عادي، ويكون لديه وظيفة عادية بما فيه الكفاية، ولا يرتدي ربطة عنق أبدًا. لم يكن أيٍ من الملابس المتأنقة التي ارتداها أرستقراطيوا «الروح» في القرن التاسع عشر ضرورية حقًا. إن ما ينبغي في جوهره أن يميز أرستقراطيي الروح هو الالتزام بالتنقية العقلية [وليس المالية]».
يتبع باحثوا مدرسة الحياة:
«إن ازدرائهم للرأي العام ليس نتيجة سوء النية أو العداء؛ إنه ينشأ من تحليل رصين ودقيق لحالة الإنسان. معظم الناس لا يهتمون بفهم الرأي المعارض؛ إن الحزبية العمياء هي ببساطة أكثر إغراءً بكثير.
قد يكون من المؤسف أنه لا يوجد أحد تقريبًا لديه ميل إلى حل المنطق الدقيق للحجة – ولكن لا شيء في التاريخ يجب أن يدفعنا إلى توقع ذلك. من المؤسف بالتأكيد أن الملايين حريصين على التنديد بدلاً من الشرح، لكن هذا ليس مفاجئًا [يعي القارئ ذلك الأمر عندما يطّلع بشيءٍ من السطحية على المعارك والفضائح الخاصة بالمشاهير]..
إن حب التفسير الدقيق يكاد يكون نادرًا مثل ملكية القصور.
يتجاهل الأرستقراطيون الرأي العام ليس لأنهم يكرهون الناس، ولكن لأنهم يعرفونهم جيدًا ويتعاطفون مع الأسباب التي تجعلهم لا يفكرون بشكل صحيح.
إنهم يشعرون بحنين هائل تجاه الانشغالات والصراعات العادية في الحياة اليومية التي تعني الجدال المعقد والانفتاح. الوزن الدقيق للإمكانيات يعتبر كماليات لا يمكن الوصول إليها بالنسبة لمعظم الناس. ولا يفصلهم عنهم الازدراء المتغطرس، بل اليقين الكئيب بأن نزاعات العوام ستكون فوضوية ووحشية وحزبية وغير منطقية وغير عادلة على الإطلاق، لأن هذا هو المصير الطبيعي المؤسف للحيوان البشري.
هؤلاء الأرستقراطيون لا يأخذون أيًا من ذلك على محمل الجد. لم يأملوا أبدًا أن يتم فهمهم على نطاق واسع أو تقديرهم شعبيًا. تمامًا كما فعل أرستقراطيين الدم من قبل، يفتخر أرستقراطيين الروح الجديد بنسبهم. لكنهم لم يعودوا يتحدثون عن الحمض النووي. إنهم ينتمون إلى الأسرة الحاكمة العظيمة التي تضم كل من شاركهم حساسيتهم ومعاناتهم ونبل عقولهم».
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.