لماذا حياتنا ليست مثالية؟
هذا السؤال رغم بساطته، يستدعي أكثر من تأمل فيه.
إحدى زوايا التأمل هي: أن أي شيء كلما زاد في توسّعه كلما استدعى بعض التضحيات. التوسّع هنا يعني المثالية، والتضحيات هي ما تجعل الأمور المثالية ليست مثالية.
ينطبق هذا الأمر على كل شيء.
نأخذ الطبيعة على سبيل المثال: كلما زاد طول الشجرة، كلما كانت أكثر عرضة للانكسار، بسبب العواصف، كلما زاد حجم الحيوان كلما كان أكثر عرضة للانقراض، لأنه يحتاج إلى طعام أكثر، ولأن سرعته سوف تقل في الركض، ولأن وقت الحمل والتكاثر سوف يكون أطول من متوسط عدد أشهر الحمل لدى بقية الحيوانات (فترة حمل جنين الفيلة مثلًا هي إثنين وعشرين شهرًا)، في حين أن كثيرً من الحشرات والفيروسات والبكتيريا ليست مهددة بالانقراض منذ مئات السنين.
عندما تسقط الذبابة من ارتفاع ألف متر فلن يحدث لها شيء، بينما يموت الإنسان إن سقط من ارتفاع يوازي عشرة أضعاف طوله، وسينفجر الفيل كبالون محمّل بالماء إن سقط من ارتفاع ثلاثة أضعاف طوله.
هذا ما يُفسّر مثلًا مشكلة البشر فارعي الطول؛ الذي يكونون مهددين أكثر من غيرهم للموت في سنٍ صغير.
نحكي قصة روبرت وادلو:
يعد إلى حدٍّ كبير أكبر إنسان عرفته البشرية على الإطلاق. أدى خلل في الغدة النخامية إلى تضخّم جسم وادلو بهرمون النمو، عندما توفي في سن الثانية والعشرين، كان طوله ٢٧٢سم، ووزنه ٢٠٠كلجم تقريبًا، وكان يرتدي حذاء مقاس ٦٨. يحكي هوسل عنه: «كانت تصوره القصص الخيالية كرياضي خارق، قادر على الجري على وجه أسرع، والقفز أعلى، ورفع المزيد من الوزن، وسحق الأشرار أكثر من أي شخص عادي. لكن تلك لم تكن حياة وادلو على الإطلاق. كان يحتاج إلى دعامات ساق فولاذية للوقوف، ويحتاج معها عصا للمشي. لم تكن مشيته أكثر من مجرد عرج، وهذا ما تطلّب جهدًا هائلاً.
تُظهِر مقاطع الفيديو القليلة الموجودة لـوادلو رجلاً تكون حركاته متوترة ومربكة. ونادرًا ما شوهد وهو يقف بمفرده، وعادة ما يكون متكئا على الحائط للحصول على دعم. تم وضع الكثير من الضغط على ساقيه حتى أصبح نهاية حياته لا يشعر بركبتيه. لو عاش وادلو لفترة أطول، واستمر في النمو، لكان المشي غير المنتظم قد تسبب في كسر عظام الساق! ما قتله في الواقع كان مروعًا تقريبًا: كان وادلو يعاني من ارتفاع ضغط الدم في ساقيه، بسبب إجهاد قلبه لضخه في جميع أنحاء جسده الضخم، مما تسبب في قرحة، مما أدى إلى عدوى مميتة نهاية حياته».
كل شيء يكبر أو يتوسع يحمل داخله بعض التضحيات. وكل شيء يكبر أو يتوسّع بشكلٍ زائد عن الحد، يجذب معه مخاطرًا بدلًا من التضحيات. هذه هي المعادلة التي نتناساها، ونحن نسعى إلى حياة مثالية.
اكتمال الصحة والرشاقة يحتاج تضحيات مثل الحرص على النوم المبكر والتقصير اجتماعيًا، وساعات مع وقتٍ أكبر في النوادِ الرياضية، ورفضًا مستمر لما يُقدّم لنا من أطعمة. مثل هذه التضحيات هي ما تجعلنا مبهورين ببعض الرياضيين، لأنهم يستطيعون تحقيق ما يعجز الإنسان العادي تحقيقه من تضحيات.
حياتنا ليست مثالية في العمل، لأن قدرات تحمّل الضغط داخلنا متفاوتة، فلا يمكن الحصول على مساحة أكبر من الحرية مع وظيفة تُعطي شهريًا بسخاء، ولا يمكن الحصول على وظيفة تعطي بسخاء دون تحمّل مسؤوليات وساعات عملٍ أطول، وشهادات، وخبرات، وتطوير علاقات ممتدة. لا يمكن الحصول على عملٍ خاص مستقر دون بدايات طاحنة، من نقص المال، ومحاولة إيجاد نموذج عمل جيد، وزملاء وشركاء مؤمنين.
التضحيات موجودة ومستمرة، بعضها وقتي، وبعضها أصغر من الآخر، لكن لا وجود لعالم مثالي دون تضحيات.
سؤالنا الذي يجب أن نجاوب عليه دائمًا: «ما هو حجم التضحيات الكافية التي نستطيع تقديمها؟ » قبل أن نسأل: «لماذا لم أحصل على ما أريد في كل شيء؟».
استمرار تقبّلنا للحد الأقل من التضحيات للوصول إلى الحد المعقول من المردود هي المعادلة الأصعب. لأن نمط حياتنا المعاصر لا يحاول إقناعنا بالمعقول؛ فعلى نفس السياق نجد أن الشغوفين بأعمالهم وفنونهم، يحتاجون إلى بعضٍ من – تضحية – التحمّل للمهام المصاحبة، فالطبيب يجب أن يكتب التقارير، ويحضر اللجان، ويجامل المديرين، ويتفهّم نفسيات المرضى المتقلّبة، ثم إنَّ الكاتب يجب أن يتحمل ساعات الملل والتركيز، وتأخر الإرضاء، وقلة المردود.
كل شيء لكي يصبح مثاليًا في حياتنا نحتاج معه أن نتصالح مع الحد المعقول من الألم، أو كما أحب أن أسمّيه: الحياة السعيدة تحتاج في حقيقتها اختيار الألم المناسب.
لا يمكن للحياة أن تكون مثالية، لأن الجوانب المثالية تعني نقصًا في جانبٍ ما. استيعاب تحمّلنا لهذا النقص وتقبّله هو الخطوة الأولى. الكثيرين يتمنون أن يكونوا مثل إيلون ماسك، ولكن القليلين يستطيعون أن يمضوا قرابة العشرين ساعة في مكاتبهم، ويتقبّلون فكرة كره الكثيرين لهم (بما فيهم أهلهم وأبناءهم)، القليلين مستعدين أن يتقبلوا فكرة الحصول على ثروة هائلة في مقابل ثلاث حالات طلاق وأبناء متفرّقين مثل مُسك.
«إن أسهل طريق للحصول على ما نريد، هو أن نكون مستحقين له» يشرح تشارلي منجر معادلة الرغبة والاستحقاق، التي لا تخرج عما أحاول الإشارة إليه، فالاستحقاق هنا: أن تبذل أكثر ممن يعتقد أنه مستحق.
حياتنا ليست مثالية. لأن المثالية نسبية. تتحقق في جوانب، وتُهمل في جوانبٍ أخرى مقابل التضحية.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.