تخطى الى المحتوى

لماذا من الصعب أن تكون مؤدبًا؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

بعد أن قال «مرحبًا سيدي» في مساء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٠م، أردف قائلًا «كُنت فقط أود أن أقول لك عيد ميلادٍ وسنة سعيدة» بلكنة أفريقية أميركية فاخرة، يستقبلني بها هذا الفقير الجالس على جنب أمام متجر محطة «سيڤين إليڤين».

تأملت حال الرجل وأنا آخذ أغراضي، وجدته من أسلوبه وجلسته نجمًا سينمائيًا مع وقف التنفيذ. من سوء الحظ بأن الكلمات المكتوبة لا تصف بدقة الأسلوب الملفت ونبرة الصوت التي وجدتها فيه. لا يبدو عليه أبدًا نقص المال إلا إن دققت قليلًا في ملابسه الرثّة، فهو جالس على الرصيف المرتفع بهدوء مُلفت واضعًا قدمه فوق الأُخرى، يدخن سيجارته بالحركة البطيئة، يستقبلني أنا وغيري بنفس الطريقة، يبدو عليه أنه في الخمسينات من العمر.

موقف سبق تلك القصة بعامين عندما وصلت وحدي مساء أحد أيام مايو ٢٠١٨م لميامي لاستكشف المكان قبل استقرار أسرتي. استيقظت صباح اليوم التالي واتجهت لأحد فروع «متجر آبل» والذي كُنت قد حجزت فيه موعدًا وأنا في جدة. يقع المتجر في إحدى مولات مدينة «فورت لودارديل» البعيدة نسبيًا عني آنذاك، وعندما أوقفت السيارة في المواقف السُفلية ومن باب الاستعجال، قررت أن أسأل سيدة كبيرة في السن (صادف أيضًا أنها أميركية من أصول أفريقية) عن موقع المتجر داخل السوق. كانت تلك السيدة أول إنسان غريب ألتقي به وأتحدث معه رسميًا منذ وصولي:

“Hey, my dear, I will walk you there. It will be an excellent chance for me to have such a handsome man walking with me in front of others.”

«أهلًا عزيزي، سأقودك إلى المحل، وستكون فرصة ممتازة لي كي أمشي مع رجل وسيم مثلك أمام الآخرين».

بالطبع لستُ وسيمًا، لكن كانت خفة الدم واللطف ملفتين جدًا لي، فأنا قادم من بيئة لا يرتاحون فيها النساء كثيرًا برد السلام على الرجال لأسباب واختلافات يطول شرحها هنا.

اعتقدت بأن موقف هذه السيدة كان بمثابة «حظ المبتدئين» لي، وأصبح اعتقادي خاطئًا تمامًا فيما بعد، ولذلك ذكرت قصة رجل المحطة (الأقرب في التوقيت لليوم) مع السيدة التي قابلتني في زيارتي الأولى.

كُنت محظوظًا في حياتي بالحصول على فرصة معاشرة الكثير من الجنسيات الأجنبية، بعضها معاشرة قريبة جدًا، وبعضها مجرد وقفات عابرة. وفي الحقيقة، كل من قابلتهم من جنسيات في حياتي في كفة، والإنسان الأميركي في كفة أخرى. لم أجد في حياتي أدبًا وخلقًا متناهيين في السلوك العام لشعب مثلهم.

كنت محظوظًا أيضًا بزيارة ما يقارب عشر ولايات. الألفاظ الخلوقة والأدب العام يكاد يكون فيها جميعًا دون مبالغة. وللأحبة الذين يعرفون الولايات المتحدة عن كثب سيوافقونني الرأي على الأغلب.

أصبحت أحرص على خفض السماعات من أُذني كل يوم عندما أمارس هواية المشي عند كل لحظة التقاء بشخص، فعلى الأغلب سيسلمون سلامًا حار مع سؤال «How is it going?»  (كيف الحال؟).

شكرًا، أسف، مرحبًا..  (كمعدّل يومي) سمعتها أكثر مرة في حياتي في هذه البلد.

على كل حال ليس هذا شاهدي، فقد أستطيع أن أكتب عشر صفحات تالية عن المواقف والأخلاق العامة التي يتميز بها الأميركيين.. وعيوبهم طبعًا!

إلا أنني أود اليوم محاولة الإجابة على السؤال العام: لماذا من الصعب أن تكون مؤدبًا؟

الإجابة المختصرة: لأن التأدب يحتاج إلى جهد.

فمن الأسهل لك إن تضايقت بأن تهزئ موظف خدمة العملاء، وموظف التوصيل، والعمال البسطاء في تقصيرهم، وأن تمثّل أنك لم تراني، وأن تسير في طريقك دون أن تقف لأن تسأل عن حالي، وغيرها.

ومن الصعب أن تستحضر التأدب ومراعاة الظروف، وأن تهدأ قليلًا.

التأدب أصعب من قلة الأدب.

«فشة الخلق» أسهل من استحضار الأدب واستجلاب الصبر والتأدب.

التأدب يتطلب قدرًا عالٍ من الانضباط في استخدام مفردات مميزة ولطيفة، كأن توجّه الكلام للكبير في السن بـ «أنتم، حضرتك، حضرتكم»، بدلًا من «اسمه حاف» أو «إنتَ» أو «أبوك» (… بدلًا من السيد الوالد أو أبو فلان، أو عم فلان).

هذا الانضباط في الاستخدام يحتاج إلى ممارسة مستمرة، والممارسة لا تتحقق إن لم يتمرن الإنسان عليها من الطفولة، ولا تتركز في عقل الأطفال إلا إن كان المربين أصلًا مؤمنين إيمانًا صادق بما يُسمى «الذكاء العاطفي» و«الذكاء الاجتماعي».

أختزل الذكاء العاطفي بأن أُفهِم المتلقي بأننا نعيش مع أُناس آخرين. ولذلك يجب أن نختار المفردات بعناية حماية لعواطف الجميع.

وأختزل الذكاء الاجتماعي في إفهام المتلقي بأنك إن كنت ذكيًا اجتماعيًا أصلًا، فستكون حياتك مع الآخرين أكثر مرونة وسهولة، وسيسهل عليهم وعليك حصولكم على ما تريدونه من بعض.

شخصيًا أعتبر أن طبيعة الإنسان (العادي) تميل «للحيونة» أكثر منها للإنسانية المطلقة، فالإنسانية المطلقة تستدعي الكثير من الجهد الذي قلناه من ناحية، وصعوبة إعمال العقل والعاطفة سويًا بأقصى درجاتهم لكي تُخرِج شفاهنا كلمات لطيفة وحساسة وظريفة للآخرين. أتحدث هنا عن الظروف العادية، ولم أشمل أوقات الزعل والخصام والتقصير.

يهاجم الحيوان الآخرين عندما لا يشعر بالارتياح.

يهاجم الإنسان الآخرين عندما لا يشعر بالارتياح.

لا يهاجم الإنسان الآخرين إن كان حليمًا ومؤدبًا.

يُسلم، ويرد السلام، ويشكر، ويعتذر، ويُسلّم، الإنسان المؤدب والحليم على لآخرين طيلة الوقت.

عندما لا يشعر الإنسان بالارتياح ويهاجم الآخرين (أو لا يكون مؤدبًا) هذا لا يعني أنه على صواب. ولا يعني أنه يجب أن يُعذر بالضرورة.

لماذا لا ترد الفتاة (أو الرجل) على السلام أو الشكر عندنا؟

ببساطة لأنها لا تشعر بالارتياح، هي أو هو يشعرون بتهديد خفيف وغير معلن، وضف على ذلك، هي لم ترى كل من حولها يقابلون اللطف باللطف طيلة الوقت على فترات طويلة وممتدة مع الغرباء، ولم يقل لها أحد بأن استمرار استخدام المفردات غاية اللطف، تحتاج إلى تمرين. كما تمرن عليها الشعب الأميركي على ما يبدو منذ صغره.

مهمتنا كمربيين تحتاج إلى بعض من الجهد الإضافي اليوم. بأن نعلمهم كيف يستحضرون الأدب والخُلق في تعاملاتهم، وبالنسبة لاختيار المفردات، لم أجد في حياتي أمرًا مساعدًا مثل الحرص على القراءة المنتظمة في حياتنا.

[لا أعلم إن كان كلامي واضحًا اليوم، إلا إنني مؤخرًا بدأت أشعر بفجوة فِهم أخشى أن تزداد بيني وبين أحبتي من يقرأون لي].

كان الله في عون الجميع.

شؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن

كان من المثير للدهشة بالنسبة إلي، أن اقتراحات يونيو ٢٠٢٤م قد لاقت تفاعلًا من القريبين أكثر من القرّاء، وهذا أمرٌ لطيف في الحقيقة، لكيلا يشعر المُقترِح أنه «يكلم جدار» مع اقتراحاته. عمومًا، لا يمكن أن أُعطي اقتراحات خارجية، قبل أن أحصل على شيء من

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن
للأعضاء عام

لماذا تطرد برشلونة سُيّاحها؟ (الموضوع أعقد مما نتصور)

ربما يكون أحيانًا تغيُر نمط حياتهم البسيطة بشكلٍ جذري سببًا كافيًا لعدم تحمّل الضيوف!

لماذا تطرد برشلونة سُيّاحها؟ (الموضوع أعقد مما نتصور)
للأعضاء عام

قصة الحادث الذي لم يغيّر حياتي - الجزء الأول

تريدون قصة؟ سأحكي لكم واحدة. كُنت أدرس في المرحلة الثانوية عام ٢٠٠٤م. اتصلت على أحد الأصدقاء (الذين تخرّجوا)، واتفقت معه أن يمر عليَ صباح اليوم التالي ليقلّني من البيت بسيارته في تمام الساعة السابعة صباحًا، في الفترة التي كان فيها معظم من في سني لا يملكون

قصة الحادث الذي لم يغيّر حياتي - الجزء الأول