تخطى الى المحتوى

لماذا تطرد برشلونة سُيّاحها؟ (الموضوع أعقد مما نتصور)

ربما يكون أحيانًا تغيُر نمط حياتهم البسيطة بشكلٍ جذري سببًا كافيًا لعدم تحمّل الضيوف!

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
لماذا تطرد برشلونة سُيّاحها؟ (الموضوع أعقد مما نتصور)
Photo by Jorge Fernández Salas / Unsplash

زرت هذه المدينة مرتين، الأخيرة كانت في سبتمبر عام ٢٠١١م في شهر العسل، وصادف في تلك الرحلة تعرّفي على أخي وصديقي العزيز هيثم الرحبي من سلطنة عُمان. وقبلها عام ٢٠٠٩م مع أسرتي، وأذكر إنني عندما وصلت إليها قادمًا من مدريد بالسيارة، صُدمت من حجم الحشود الغفيرة التي كانت تسير بالآلاف وكأنها منوّمة مغناطيسيًا إلى نفس الوُجهة. والتي كانت ملعب «كامب نو» لحضور مباراة فريقهم.

لا أعرف شخصًا واحدًا زارها ولم تعجبه، وحتى اللحظة أعتقد أن الإسبان (والكتلونيين عمومًا) من ألطف شعوب أوروبا، ولي عدة مواقف في هذا الشأن. وأذكر أن توقيت رحلتي عام ٢٠١١م تصادف مع قراءتي لمقالة عن جائزة سياحية كانت قد أُعطيت إلى برشلونة، لأنهم في ذلك العام كانوا يملكون أفضل نظام وتعامل سيارات أُجرى في أوروبا.

إذًا، كيف إذًا لهذا الشعب اللطيف، وهذه المدينة السياحية التي كانت (ولا تزال) خيارًا سياحيًا مميزًا لمختلف أنواع السُيّاح أن تنقلب على ضيوفها هكذا؟

والسؤال الأهم: كيف لمدينة يُشكِّل السيّاح ما نسبته ١٤٪ (٩.٦ مليار يورو) من إجمالي دخلها القومي، وتوظُّف ما يُقارب ١٣٠،٠٠٠ وظيفة سنويًا فقط لخدمة السيّاح، وتُشغِل معظم الأعمال الخدمية والمطاعم بشكلٍ حيوي، ألّا يُعجبها هذا الأمر؟

أزمة السكن:

واحدة من أهم القضايا هي تأثير السياحة على توافر السكن والقدرة على تحمل تكاليفه. وقد أدى انتشار أماكن الإقامة السياحية، وخاصة العقارات المؤجرة قصيرة الأجل مثل تلك المدرجة على Airbnb، إلى زيادة كبيرة في أسعار العقارات. وقد جعل هذا من الصعب على السكان المحليين العثور على سكن بأسعار معقولة، مما ساهم في أزمة السكن في المدينة. استجاب مجلس المدينة بالإعلان عن خطط لإلغاء حوالي عشرة آلاف ترخيص للشقق السياحية على مدى السنوات الخمس المقبلة لإعطاء الأولوية للاستخدام السكني فقط.

هذه المشكلة تكررت في عدة دول، ومن الغريب أنه في اسطنبول مثلًا، أن مالك العقار يستطيع أن يؤجر بيته بالإيجار اليومي، بعد قيامه بتلبية عدة شروط صعبة للغاية، أحدها الحصول على موافقة خطّية من جميع السكّان في المُجمّع السكني (تصل بعض المجمّعات إلى خمسمئة وحدة سكنية).

النزوح الاقتصادي والحجم الهائل من السيّاح:

يتم استبدال الشركات المحلية من قبل تلك التي تقدم خدماتها للسياح في المقام الأول. وقد أدى هذا التحول إلى تغيير المشهد الاقتصادي، مما جعل من الصعب على السكان الوصول إلى السلع والخدمات التي تلبي احتياجاتهم اليومية. وأغلقت العديد من المتاجر المحلية أبوابها لتحل محلها متاجر تخدم الاقتصاد السياحي، وهو ما لا يفيد بالضرورة السكان المحليين.

والحجم الهائل للسياح - حيث تستقبل برشلونة ما متوسطه إثنان وثلاثين مليون زائرًا سنويًا - قد أدى إلى إجهاد البنية التحتية للمدينة وتقليلًا لمواردها. اشتكى السكان من أن المدينة أصبحت «غير صالحة للعيش» بسبب الاكتظاظ والضوضاء والتلوث. كما أدى تدفق السياح إلى ازدحام المناطق الشعبية، مما يجعل من الصعب على السكان المحليين الاستمتاع بمدينتهم.

ارتفاع الأسعار وتغير النسيج الثقافي:

هذا لا يشمل السكن فحسب، بل يشمل أيضًا النفقات اليومية. يُنظر إلى الفوائد الاقتصادية للسياحة على أنها موزعة بشكل غير متساو، حيث يشعر العديد من السكان المحليين أنهم يتحملون وطأة الآثار السلبية دون جني فوائد كبيرة. (نفس المصدر السابق). وما يحدث في الحقيقة، إن الطلب الهائل على الموارد المتاحة للمدينة، لا يجعل سكّانها يفتقدوها في يومهم العادي فحسب، بل تكون ذات أسعار مرتفعة نتيجة ارتفاع الطلب عليها. كما أن هناك شعور متزايد بين السكان بأن السياحة الجماعية تؤدي إلى تآكل النسيج الثقافي والاجتماعي للمدينة. ويُنظر إلى وجود أعداد كبيرة من السياح على أنه يقلل من أصالة الأحياء المحلية، ويحولها إلى مناطق جذب سياحي بدلاً من مجتمعات حية!

تخيل إنك عندما تريد الذهاب إلى يوم عملك الاعتيادي، تجد أن هناك شحًّا أو تغيرًا في قائمة طلبات الإفطار في مقهاك الذي تمر عليه يوميًا، ثم تركب وسائل المواصلات العامة، لتجدها شديدة الازدحام، ثم تقرر فترة الظهيرة أن تتغدى في مطعمك المفضل لتُفاجأ أنه لا يوجد طاولة متاحة للجلوس، كما أنه رفع أسعاره للسيطرة على هذا الطلب، ثم تعود إلى منزلك لتجد صاحب المبنى في انتظارك يطلب منك أن تدفع ضعف قيمة الإيجار العام القادم وإلا سيطردك (لأنه يستطيع أن يجلب دخلًا مضاعفًا إن قام بتأجير شقّتك إلى السيّاح)، ثم تقرر زيارة خالتة في مدريد، وتكتشف أن الحجوزات تحمل ضغطًا كبيرًا وبالكاد تجد حجوزات في الأيام العادية، ناهيك عن فترة المواسم!

ربما يكون هذا هو شكل سكّان برشلونة هذه الأيام. وربما يكون أحيانًا تغيُر نمط حياتهم البسيطة بشكلٍ جذري سببًا كافيًا لعدم تحمّل الضيوف!

شؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

عن العيش كشخص عادي في المنتصف

أحد أصدقائي العزيزين والمسؤولين في شركة «المحتوى» في البودكاست أخبرني الجملة التالية: «أداؤك عادي، ولا تملك قبولًا كبيرًا كمستضيف». لم يقل أداؤك سيئ، ولم يقل أداؤك خارقاً للعادة، قال بما معناه: «أنت مستضيفٌ عادي». «العادي».. هو شكل معظم حياتي. وهو موضوعي اليوم. وُلدت أصغر إخوتي، ولكنني اعتدت

عن العيش كشخص عادي في المنتصف
للأعضاء عام

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟

مقالة ضيف

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟
للأعضاء عام

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم

مطاعم: * قبل ثلاثة أسابيع، شرّفنا أخيرًا أحد أبناء إخوتي الذي يزورنا بشكلٍ موسمي كل ثلاثة أشهر، في اجتماع العائلة الأسبوعي. وحكى لي القصة التالية: اقترح عليه صديقه أن يزوروا مطعماً يقدّم ألذ لحم أوصال في العالم، وموقعه في مدينة جدة، خلف سوق الشعلة، اسمه «مشويات بيت الشهباء»

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم