كلمة راس مع المتقاعدين
أو من ينوون التقاعد مبكرًا أو عمّا قريب
يُقال أن من أحزان فترة الأربعين هي كثرة وفيات العزيزين حولنا. كما إنَّ من مساوئ الفترة نفسها ظهور أفواجًا جديدة من المتقاعدين في حياتنا. سأتحدّث اليوم مع المتقاعدين حديثًا (أو قديمًا) أو من اقتربوا من قصة نجاح ستحفّزهم لتقليب فكرة التقاعد في سنوات قليلة قادمة. خصوصًا للرجال.
إيّاك أن تعرّف نفسك كمتقاعد.. وتسكت.
وقع هذه الكلمة على مسامع الجميع (وسأتشجّع وأقول الجميع دون استثناء) سلبي. لأنك ستخبرهم بلغة أخرى أنك لن تقدّم لهم شيئاً، ولن تأخذ منهم في المقابل أي شيء.
يشكّل العمل جزءًا كبيرًا من حياة ووقت الكثيرين قبل سن التقاعد، وبالنسبة إلى الطموحين فالعمل جزء لا يتجزأ من سلسلة أحلام طويلة، سيربطون تحقيقها مع كل شخص يلتقونه في الطريق، وسيحاولون أن يبادلوا ما يمكن أن ينفع، ويُنتفع به مع من حولهم، لأن هذه سُنّة الحياة، ولا ينطبق الأمر مع من لا يملك شيئًا يعطيه.
عندما يجلس الشباب حول رجال أكبر منهم عمرًا وخبرة تدور في الجلسة طاقة انتهاز (حتى وإن كانت سلبية)، ويدور معها إحساس جوع للتعلّم، هذا الانتهاز، وهذه الرغبة تصمت عندما تسمع كلمة «والله ما أعرف من بقي من الشباب، سأسأل لك، تركت العمل لي (كذا) سنة».
هناك أيضًا صورة ذهنية حول المتقاعد بأنه إلى جانب كونه أصبح مملًا لعائلته من كثرة تعليماته والتصاقه، أنه فاقد للشغف، وهو ليس بالضرورة مصدرًا جيداً للخبرة لأنه – على الأغلب – ترك عمله وهو كاره له، وإلا لاستمر فيه أو في بديل عنه، وهذا هو النوع الأول من ثلاثة أنواع من المتقاعدين أراهم في حياتي، وهو يشكّل الغالبية العظمى منهم، هم من كانوا ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر، يستمتعون ما تبقى من العمر في الملهيات، ولا يودون أن يشاركوا لا من قريب ولا من بعيد في أي فعاليات مهنية مهما كانت مغرية، هذا النوع هو من «يطفئ النور والمكيّفات».
النوع الثاني: من تقاعد رغمًا عنه من عمله بسبب الأنظمة، وها هو يبحث بشغف عن بديل لممارسة ما كان يحبه طيلة حياته (الكثير من الأطباء في هذه الفئة)، يتحولون إلى مستشارين، أو أكاديميين أو ممارسين لنفس أعمالهم، ولكن بدوام جزئي. هذه الفئة تبقى على رأس العمل حتى أوقات متأخرة من حياتها، وأعرف نماذج عديدة منها، يتميزون بنشاط مُلفِت وحب كبير للحياة والإنجاز.
النوع الثالث: من حقق نجاحًا ماليًا أو مهنيًا استثنائيًا، وأصبح ينظر إلى التقاعد كفرصة «تغيير مهني» (Career Shift) يركز فيها على إنجاح من حوله في المجتمع، أو بتركيزه على رياضة معينة، أو تطوّع بشكلٍ منتظم في حزمة كبيرة من الأنشطة.
مهما كانت فكرة التقاعد مغرية، أرجوك لا تخرج عن النوعين الأخيرة.
يمرض الإنسان إن لم يجد ما يصبو إليه في حياته. يموت مرتين عندما يعلم أن المجتمع لم يعد بحاجة إليه، وأن المقرّبين منه لا يحبون أن يكونوا قريبين منه.
شاهدت في رحلتي الأخيرة على الطائرة مختصر اجتماع الجمعية العمومية لشركة «بيركشير هاثوي» (استمر لأكثر من ست ساعات)، وكم كان ساحر ظهور المعلّم وارن بافيت، وهو يُزَف إلى اجتماعه السنوي رقم «ستين»، محتفيًا بكل من حوله من زملاء ومدراء، وهو في عمر الرابعة والتسعين. كان حضوره مذهلاً، وخفة دم ملفتة، وعقلية لا تزال تصدم كل من يشاهده من حدة التركيز والذكاء وسعة الحِكمة. هذا الرجل ربما لم يكن سيكون في هذه الحالة الصحية والذهنية إن قرر التقاعد قبل أربعة وثلاثين عامًا. كما أن رفيق دربه (الذي أنوي أن أخصص حلقة بودكاست مطولة عنه) تشارلي منجر، كان قد توفي، وهو على رأس العمل، وهو بعمر المئة، بنفس العقلية والثبات والحضور الذهني المُلفِت.
أعرف أن الأحلام والكرف والآمال تحكمنا نحن من في جيل أصغر، ولكنني لا أعرف إن كانت نهاية الرحلة بنفس درجة الاستمتاع، إلا إنني سأتمسّك بهذا الاعتقاد: أن العمل على الأحلام والكرف أشد إغراء من عدم وجودها أو الاكتفاء بالحياة بعيدًا عنها.
«أسوأ ما يُصيب الإنسان أن يحصل على ما يُريد، أو ألا يحصل على ما يُريد» كما يقول أوسكار وايلد، لا أعرف تعبيرًا عظيمًا يشرح نفسيتنا مع الرغبات مثله. تدفعنا فكرة التقاعد إلى حسم أمر هذه الحياة تجاه إحدى هذه النقيضين.
تحدّثت سابقًا عن أن فكرة التقاعد المبكّر تستمد سحرها لأنها ببساطة غير متناولة في اليد، ولأنني اليوم أتحدّث مع من اقتربوا منها أكثر من غيرهم، أود أن أخبرهم بأن حجم الإحباط تجاههم سيكون أكثر بكثير من الحسد. الناس لا تود أن تكون حول من لا شغل له، ولا من لا يسمع لها، ولا من لا يود أن يعيش معهم، ولو بقدرٍ ضئيل من المشاركة الوجدانية.
عندما تعرّف نفسك على الآخرين أنك متقاعد.. وتسكت. فإنك تخبرهم أن يتقاعدوا.. من جلستك.
أقرأ أيضًا:
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.