تخطى الى المحتوى

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع
Photo by Tyrel Johnson / Unsplash
💡
هذه المقالة المطوّلة مختلفة السرد والتركيب. تعبّر عن شيء من تأملات الإنسان عندما ينظر لمكانٍ صغير، يحتاج فيه إلى الإلتفات لسعة قلبه وعقله، بدلًا من مساحة المكان. قراءة ممتعة.

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

كُنت في كل مرة أختار الجلوس في الزاوية، بجانب المطبخ والحمّام، وبالقرّب من استراحة الموظفين المنزوية. يعتقد موظّفي المكان إنني أختاره خوفًا من الاقتراب من آخرين خشية العدوى، وفي الحقيقة، كُنت أختار تلك الزاوية لأرى الجميع من حيث لا يروني، أبحث بعد الجلوس عن مساحة أخرى أكثر راحة في وُسعِها، وإن لم أجد، أُبقي نفسي للاثنتي عشرة ساعة التالية على نفس المقعد، أعمل وأقرأ، وأختلي بنفسي في الوقت الذي يريد منّي الخائفين الاختلاء بنفسي. أُخرِج الكمبيوتر المحمول وقائمة الكُتب ودفتر المهام، أعمل أو أقرأ لساعات قبل أن أختار وجبة الغداء أو العشاء ثم القهوة.

في أثناء الجلوس، أحرص على ألّا أُسلِم على من هُم بالقرب، فهنا مخاطرة تتطلب قدرًا من التضحية بوقتٍ لا أود أن أُعطيه لغرباء، من المحتمل أن يقضوا معي ساعات طويلة وهم بالقُرب، فإن كان الجار ذو ظِل خفيف، فسأترك ما بيدي، وأنشغل به، وإن كان العكس، سينشغل بي. يحاول الجميع الانشغال ببعضهم عن حياتهم التي اكتشفوا أنها لا تشبههم، لكن دون تواصل مباشر، يخلقون فجوة بينك وبينهم، يصدرون أصواتهم وأفكارهم من خلالها، وفي لحظات؛ يُضيفون كاتم الصوت ممثّلًا بالكمامات، على مسدّساتهم الفكرية، ويسكتوا، وأحيانًا ينامون. هكذا فجأة!

تعرّفت في إحدى هذه الزيارات على رجل متأنق، قرر أن يحكي قصة هجرته من الولايات المتحدة إلى جزر البهاماس، لأن الأخيرين أعطوه مساحة أكبر للهروب من دفع الضرائب، وهو – على حد قوله – رجل مالي من المعيب له أن يلتزم بدفع ضرائب لغير مستحقيها. وعندما سألته عمّا جلبه إلى هذه المدينة، أخبرني إنه جاء ليرى اليخت الذي يُريد شراءه، فهو – كما ذكر مرة أخرى – رجلٌ مالي! وقد جاء سؤالي على طبطابه، ليخبرني بشكلٍ غير مباشر أنه يملك الكثير من المال عوضًا عن عمله في مجاله المالي بالتفصيل.

استوقفني شيئان عن هذا الرجل، الأول: عندما قرر أن يأخذ شبه قيلولة (تحوّلت فيما بعد لنومٍ عميق دون أن يشعر). ما حدث إنني طلبت وقتها من إحدى موظفات المكان بعد ساعات من جلوسي «ساندويتش» أو «شيبس» لأن الوجبة التي أكلتها لم تكن كافية للشبع، لتخبرني إن كل الطلبات كانت قد نفدت مع الأسف، لكنها تستطيع بكل سرور أن تجلب إليَّ مشروب الشوكولاتة الساخنة، أو أي نوع من أنواع القهوة أو الشاي، شكرتها وحاولت تناسي الجوع، إلا إنه لم ينسني.

حاولت الانشغال بعملي وقراءاتي، لأجد هذا الرجل يستيقظ فجأة، وكأنه مصدوم من نومه في هذا المكان، وهو على ما يبدو غير معتاد – لانشغاله الدائم – على النوم في أماكنٍ عامة، إلا إن مساحات الوقت الشاسعة وظروف المرحلة كانت تستدعي صرف الكثير من الوقت في أماكن مختلفة بطُرق غير اعتيادية، مثل النوم في أوقات لا تتناسق مع الشخصيات المشغولة.

عندما استيقظ الرجل، ودون مقدّمات، فتح حقيبته الفارهة، أخرج كيس شيبس كبير، بدأ بتناول ما فيه بسرعة متناهية، وأنا أسترق النظر إليه مترددًا وممسكًا بكرامتي التي كانت تمنعني من أن أطلب بعضًا منه مكتفيًا بها لتسد جوعي، وريثما كُنت أتفاوض مع كرامتي، اكتشفت أن الرجل الكريم (أو البخيل كما وصفته كرامتي) كان قد التهم كل شيء.

تلك اللحظات من اللحظات القليلة في حياتي التي شعرت بها بشعورٍ واضح بالحسد. لم أكترث بعمله، وأمواله، ومكان إقامته، ويخته الذي أراني صوره دون تركيز منّي، ولم أكترث بصور زوجته (أو صديقته) شديدة الجاذبية والإغراء، التي ركن صورها في كل خلفيات أجهزته الذكية، كتذكير لإنجازاته المالية الأهم! حيث افترضت - بسوء نية نادمٌ عليه - إنها متعلّقة بأمواله أكثر منه. كل ما كان يُشغل بالي تجاه هذا الرجل هي لحظة الحظ التي جعلته – حسبما قادني الخيال – أن يُمسك بكيس الشيبس وهو مغادر من مقر إقامته، ليضعه دون تفكير في حقيبته الفارهة، ليُصبح بعدها صاحب الحظ الأوفر في مكان يُفترض به تقديم أشكال وألوان مختلفة من الأطعمة والمشروبات. بدأ بإغماض عينيه بعد أن انتهى، وهو يفحص الفُتات المتبقّي في كيس الشيبس ويرميه على طاولة كانت بيننا، ثم نام مثل طريحي الفِراش، دون أن يمسح ما تبقى من الفُتات على ذَقنه. وكأنه تذكّر فجأة أنه كان قد قاطع غفوته، ليعود وينغمس فيها مثل الأطفال، تاركًا جاره مستيقظًا ومنشغلًا بحسرته وكرامته التي اختفت دون أن تسُد أي جوع.

تذكّرت مع هذا الرجل أن الأثرياء تخدمهم قراراتهم الواعية في الأوقات الصعبة، عكس معظم البشر. عندما يُفكر الجميع كيف يصرفون أموالهم على «الأشياء» وقت الراحة، فإن الأثرياء يفكرون كيف يصرفون أموالهم في الأمور التي ستحملهم بعيدًا عن الآخرين وقت الأزمات، هذا الشيبس بالنسبة إليه هو نسخة أخرى من حصة أو سهم في شركة كبيرة، يعلم يقينًا أنه لا يحتاج إليها وقت الشراء، إلا إنه سينتفع بها وقت الأزمة. وربما يقول قائل أن: «اختيار الشيبس اختيارٌ سيئ للصحة»، وربما سيرُد هذا الرجل البخيل (أقصد الكريم) أن أحد مبادئ عيش حياة كريمة بلغة المال هي: استمرار «حساب المخاطر» في كل خطوة، أو بلغة أكثر دقة «التحوّط» (Hedging) ضد التقلّبات، ولذلك نجد الكثير منهم يشترون «الذهب» مع الأسهم والعقارات والسندات واليخوت والبيوت الفارهة، ليس حبًا فيه، بقدر استيعاب أهميته للحفاظ على قيمة المال في الأيام الصعبة، على الأقل على المدى القصير. تمامًا مثل الشيبس في حالة بطلنا، هو ليس الخيار الصحي الأمثل، إلا إنه يغطي مخاطرة الإحساس بالجوع وقت الأزمة، ويعطي مساحة من الوقت والتفكير للوجبات الأخرى.

لا يتحرك الماليين دون خطة تحوُط من المخاطر في كل شيء، يحسبوها قبل أن يحسبوا الأرباح، وهذا ما ينعكس على تصرّفاتهم وحياتهم، ولذا يزداد الأثرياء ثراءً، ويزداد الفقراء فقرًا مع الوقت.

الأمر الثاني بخصوص هذا الرجل: كان استلطافه الواضح لي، فقد قرر أن يعطيني رقمه لنتواصل فيما بعد، وربما ندعو زوجاتنا للخروج معنا لأي مكان عندما تتحسّن الظروف، إلا أن إحساس الحُزن من كرامتي وجرأتي التي لم تكن مصقولة كما عهدتها، حرمتني من حفظ رقمه، ليؤكد لي هذا الأمر درسًا نفسيًا مُهم نقرأ عنه أسبوعيًا في مختلف حسابات التواصل الاجتماعي، وهو: «إياك أن تتخذ قرارات مهمة، وأنت غاضب»، وسأعدّل عليها، وأقول «وأنت جائع».

أدّعي أكثر من غيري إنني أحفظ هذا المكان وأتنبأ أحيانًا بزواره بمختلف فئاتهم العمرية، وظروفهم، وجنسياتهم، ودياناتهم. أُعطي الكثير من النصائح لكل من حولي عندما يزوروه، وأضفت نصيحة جديدة إلى قائمة النصائح بأخذ كيس شيبس أو وجبة «تحوّط» إن قرر الشخص قضاء الكثير من الوقت فيه، فالأماكن مهما كانت وفية بمساحاتها ولُطف أهلها، إلا إنها تحمل كمًّا غير متوقع من المفاجآت. لا يستطيع الإنسان العادي التعامل مع المفاجآت بعقلٍ صافٍ ومعدة فارغة في الوقت نفسه، هكذا الإنسان ببساطة، ينقلب كيانه، ويتغير شكل حياته، بسبب أشياء لا نراها. مثل أوقات الكورونا.

السيدة السمراء

سيدة لطيفة أخرى في وقت آخر كانت قد جلست بالقرب في هذا المكان، كررت عليَ مرتين ذكر خلفيتها العرقية (التي تمتاز بالبشرة السمراء)، وكأنني فهِمت أن بشرتها الفاتحة تتعارض مع أصلها، وهذا ما أعطاها ميزة تنافسيا على قريناتها، وأيضًا، هي ما جعلها ترتبط بإنسان – شبه ثري – من إحدى دول الخليج والذي كان معجبًا باختلافها العرقي، إلا إنها على خلاف قصة صديقنا المالي، لم تنتهِ تجربتها العاطفية كما يجب، فقد طُلقت من زوجها، وتركته، لتأخذ طفلتها الوحيدة معها، وتصارع تحديات حياتها وحدها، وها هي الآن أصبحت معتادة على زيارة المكان، بحثًا عن فرصها المستقبلية بعد استقلالها. كان الأمر المضحك أنها توقّفت صامتة للحظات، عندما أخبرتها إنني من كتب كتاب «ثورة الفن»، لتبتسم وتقول «عرفتك»، وتكمل تعبيرها اللطيف «سأصل إليك مرة أخرى في يوم من الأيام».

يرتبط هذا المكان بالأمنيات دائمًا، فلا أحد يزوره إلا وداخله حلم يتحقق، أو جزء من حلم، أو محاولة تحقيق أمنية صغيرة. يعيبه أحيانًا أسعاره المرتفعة التي تؤرّق أرباب الأسر – خارج الأوقات الاستثنائية – إن كان سيزوره مع عائلته. وبالطبع يرتبط هذا المكان استثناءً بأحلكْ لحظات الإنسان في حياته، كما ارتبط معي ذات مرة، أيضًا في عام الكورونا.

عندما يدخله الإنسان يسحب مسؤولياته بالقوة معه، مع أنه مكان يفترض به أن يجعل حياتنا وحياة الجميع أصغر مما تبدوا عليها.

هناك أماكن عندما نزورها تعطي الشخص قدرًا أكبر مما يستحق، وهناك أماكن تُعطِ قدرًا أقل. مثل أن يزور أحدهم مناسبة تربطه بعائلته الممتدة، بعد أن يُنهي عمله نهارًا الذي يرى فيه زملاءه امتدادًا لمستقبلهم. وبالنسبة لهذا المكان فهو يُشعر الإنسان بالضيق والاتساع في الوقت نفسه، ونفس اللحظة. هذا التناقض يجعلنا نستغرب من تركيبتنا النفسية والبيولوجية أحيانًا، فعندما نجلس فيه، نكتشف قَدر الدهون الذي اكتسبناها أو خسرناها من أجسادنا، كما نكتشف معه اضطرارنا للتذكّر بضرورة ممارسة المزيد من الرياضة «والتحوّط» لمواجهة ظروفه الصغيرة.

أن نستبدل المكان

دخلت متأخرًا إليه يوم الظروف الحالكة التي صادفت يوم وفاة والدي في أكتوبر ٢٠٢٠م، وجدت إحدى الآنسات العزيزات، وقد زاملتني في وقتٍ سابق، كانت قد أخذت مكاني المفضّل. سلّمت عليها، وعيوني وقلبي يغمرهما الحُزن على الفراق، قررت الجلوس في مكانٍ آخر، وبعد بضع ساعات من مجابهة الأسى والألم، بدلًا من الكرامة والجراءة. قررت العودة إليها لأطلب منها أن نستبدل الأماكن. شعرت بالحزن ربما عليَ، وأخبرتني أنها لا تمانع هذا الأمر، لتقوم وتحمل أشياءها معها إلى مكاني دون أن تتحدّث كثيرًا، خشية أن تقول شيئًا لا يتناسب مع صدمة الفِراق. شكرتها وجلست، أُكفكف الدموع مضطرًا للبقاء في هذا المكان الذي لطالما اخترته لمواساة النفس والهروب من الأنفُس.

أؤمن أن لكل إنسان في هذا الكون مكانه الخاص، مكانه السري الذي يهرب إليه. يحكي ريان هوليداي في كتابه «الانضباط مصير» أن الملكة الراحلة إليزابيث لم تكن بحكم مقامهما الملكي تستطيع الهروب من ارتباطاتها الرسمية والاجتماعية، ما جعلها تتدرب على الوقوف بهدوء ساعاتٍ طويلة، تهرب بنفسها إلى داخلها، وهي واقفة أمام حشود من البشر نهاية كل يوم فيه مناسبة، وهي نصف مغمضة العين، وكأنها حسب وصفه في طور «الحفاظ على ما تبقى من بطاريتها الداخلية».

لا تنسى مقامها ومكانتها مهما كلّف الأمر، لدرجة أنها في إحدى تلك الوقفات، كانت تنظر إلى أحد الألوية، وهو يتأرجح في وقوفه، واضعًا يده داخل جيبه، لتسأله: «حضرة اللواء، هل أنت متعب؟» ليرد بالنفي، وتتبعه بتوبيخ هادئ «قف على نحو مستقيم، واخرج يديك من جيبك»، وكأنها تحاول الإشارة أن حياتنا التي اخترناها، أو اختارتنا، تحتاج أحيانًا ألا نهرب منها لأماكنٍ خفية، حتى إن كان هذا المكان هو مجرد الوقوف بتأرجح مع أيادٍ داخل الجيب!

أما عن مكاني الذي وجدت نفسي مختارًا له دون أن امتعض، هو في الحقيقة لا مكان. هو بين الأماكن وفوقها. كرسي الطائرة في الصف الأخير (D72). المقعد بجانب الملّاحين، وخلف الجميع.

سيكلوجيا الإنسان

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

في فكرة التخلص من الخوف بسرعة

الإنسان عندما يكون حبيس مخاوفه، فإن جزءً كبيرًا من حياته يتوقف عن العمل. تستطيع السيطرة على حياة أي إنسان إن أخفته. مشكلتنا أننا في الحقيقة من نُشعِر أنفُسنا بالخوف، بنفس القدر وأكثر من الأحداث الخارجية التي تستدعيه. الإلمام بالمشكلة هو نصف الحل. أحاول في العادة أن

في فكرة التخلص من الخوف بسرعة