كيف نتعامل مع توسّلات من سيموتون قريبًا؟
مع قرب الألفية الماضية، حصل حادث مأساوي للروائي الشهير ستيفن كينج، وصف تأثيره: «أصبحت مشيتي مختلفة عمّا كانت عليه من قبل»، وأصبح أيضًا كما قال في مقدمة الجزء الأول من سلسلته «برج الظلام»؛ أكثر تأملًا في مسألة التقدّم في العُمر، التي كان عقله يتقبّلها دومًا، ويرفضها قلبه.
يشير في المقدمة أيضًا أن الإنسان عندما يكون دون العشرين فهو لا يملك أي استشعارًا بالوقت والعُمر. يعتقد أن كل شيء سوف يكون على ما يرام، حتى تبدأ الصدمات تتشكل. حوادث تهدد الحياة، أو بدء ظهور الشعرات البيضاء، والكِرش، والتجاعيد على الوجه.
يُعرف كينج بغزارته المُلفِتة في حجم إنتاج الروايات والقصص القصيرة، وطوال الخمسين عامًا الماضية، كان من ضمن مشاريعه التي تأخر في إنهائها هي الأجزاء السبع من سلسلة «برج الظلام». بعد الحادث بثلاث سنوات، قام بعمل حفل توقيع لرواية أسماها «بويوك ٨»، وقد تقدّم أحد القرّاء لأخذ توقيع نسخته، يحكي كينج قصة ذلك اللقاء:
«عندما وصل أحد الأشخاص إلى مقدمة الصف، قال إنه سعيد للغاية لأنني ما زلت على قيد الحياة. (أفهم هذا كثيرًا، وهو يتفوق على السؤال «لماذا لم تمت بحق الجحيم؟») قال أيضًا: «كنت مع صديق عزيز عندما سمعنا أنك تعرضت للحادث؛ قلت له يا رجل، لقد بدأنا للتو بالاستمتاع؛ «ها هو البرج (برج الظلام) سيتوقف. لن يكمل كتابة باقي أجزاء القصة الآن».
ويكمل كينج:
«فكرة أنه بعد بناء «برج الطلام» في الخيال الجمعي لمليون قارئ، ربما سيتطلب الأمر منك تحمّلًا لمسؤولية جعل القصة (بكل أجزائها) متوفرة طالما أراد الناس قراءتها. ربما يحدث هذا الأمر خلال خمس سنوات فقط؛ على حد علمي، قد يكون خمسمئة. يبدو أن القصص الخيالية، السيئة منها والصالحة قد يطول أمدها. وقد أدركت بعد الحادث الذي تعرضت له أنه سيتعين عليَّ أن أُنجز كتابتها».
بالنسبة إلي كان الجزء الأكثر مأساوية وحزنًا في مقدمته عندما وصف حال القرّاء الذين تعلّقوا بالقصة ووصلوا إلى منتصف أجزائها، ولم يكن وقتها كينج قد أنهى كتابة الأجزاء السبع. أتته سيدة عجوز متوسّلة إليه أن يحكي لها كيف ستكون نهاية السلسلة:
«خلال فترات التوقف الطويلة بين كتابة ونشر حكايات «برج الظلام» الأربع الأولى، تلقيت مئات من الرسائل التي أدخلتني في رحلة طويلة من الشعور بذنب كبير. في عام 1998 (عندما كنت أعاني انطباعاً خاطئ بأنني لا أزال في التاسعة عشرة من عمري)، قابلت جدّة تبلغ من العمر اثنان وثمانون عامًا. وأخبرتني بكل لطف: «لا أقصد إزعاجك بمشكلاتي، ولكن! أنا مريضة جدًا هذه الأيام».
أخبرتني السيدة أنه من المحتمل أن يكون أمامها عام واحد فقط لتعيشه (أربعة عشر شهرًا تقريبًا، كما توقّع لها الأطباء، بعد تشخيصها بالسرطان). ومع أنها لم تتوقع مني أن أنهي حكاية رولاند (بطل السلسلة) في ذلك الوقت من أجلها فقط، إلا إنها أرادت (بعد توسلها الحار) أن أخبرها كيف ستنتهي القصة».
لم يكن وقتها كينج يعرف نهاية القصة التي تخيّلها، وكتبها بكل تفاصيلها. فهو يتبع المدرسة الروائية التي تقول إن على الروائي أن يفاجئ نفسه في أثناء الكتابة قبل أن يفاجئ القارئ.
يكمل كينج:
«السطر الذي جرح قلبي (مع أنه لم يكن كافيًا لبدء الكتابة مرة أخرى) هو وعدها: «بعدم إخبار، ولو روحًا واحدة عن النهاية».
بعد مرور عام – ربما بعد الحادث الذي أودى بي إلى المستشفى – تلقت إحدى مساعداتي، مارشا ديفيليبو، رسالة تحمل نفس مضمون السيدة العجوز من شخص آخر حُكم عليه بالإعدام، (كان المتبقي من فترة بقائه على قيد الحياة هو ثلاثة أشهر، وقد وعد بأخذ سر معرفة نهاية السلسلة معه إلى القبر) الأمر الذي أصابني بالقشعريرة أيضًا. كنت سأعطي هذان الشخصين ما يريدانه – ملخصًا لمغامرات رولاند الإضافية – إذا كان بإمكاني فعل ذلك، ولكن للأسف، لم أستطع. لم تكن لدي أي فكرة عن كيفية سير الأمور مع رولاند وأصدقائه. لكي أعرف، يجب أن أكتب. كان لدي ذات مرة مخطط تفصيلي عن سير القصة، إلا إنني أضعته. (ربما لم يكن الأمر يستحق القرف، على أي حال.) كل ما كان لدي في الحقيقة هو بعض الملاحظات.
في نهاية المطاف، ابتداءً من شهر يوليو من عام 2001، بدأت بإعادة استكمال كتابة السلسلة. أدركت حينها أنني لم أعد في التاسعة عشرة من عمري، ولم أعد معفوا من أي من العلل التي يرثها الجسد. كنت أعلم أنني سأبلغ الستين، وربما حتى السبعين. وأردت إنهاء قصتي قبل أن يأتي دوري».
أنهى ستيفن كينج كتابة السلسلة عام 2003. ويعتقد أنها أجمل ما كتب طوال حياته. يبلغ اليوم التاسعة والسبعين من العمر، وهو لا يزال على نفس مستوى نشاطه وغزارته عندما كان بنصف عمره.
التعلّق؟
لا يعي القارئ أن الكاتب يتعلّق بتعلّقه. لا يواسي وحدة الكتابة الطويلة إلا معرفة أن هناك شخصٌ ما في مكانٍ ما في هذا العالم يقرأ له، وسط ازدحام الكون بالملهيات. تختبئ روح الكاتب بين الأسطر والكلمات، وتلتقي مع روح القارئ عندما يترك كل شيء ليقرأ. ليس ما أحاول قوله شاعريًا بقدر ما هو نوع من إحساس يخلط بين الرعب والفرح والحزن، وإحساس أكبر أن كل كلمة تحمل معها سهمًا من تحمل المسؤولية.
تعرّفت على قارئه (من دولة السودان) أخبرتني أنها قد قرأت كل مقالاتي التي تجاوزت التسعمئة، وهي وسط نيران الحرب. كانت قد أبدت اعتذارها على تأخر هذه المهمة، لأنها كانت تواجه صعوبة في إيجاد اتصال مستمر بالإنترنت. وقد علقت تعليقًا لطيفًا تُشيد فيه بأن الكتابات عبر العشر سنوات المضية كان من الواضح فيها تغير نفسية كاتبها ونُضْجه.
قارئ آخر كتبت عنه (من سلطنة عُمان)، كان قد أهدى صديقه كتاب ثورة الفن، وهو مليء بالملاحظات اليدوية المكتوبة، قبل أن يغادر الحياة بشكلٍ مأساوي في حادث أودى بحياته وحياة رفاقه في السيارة. علمت في وقتٍ لاحقًا بعدها أن خطيبته كانت قد حضرت لي إحدى ورش العمل التي قمت بها في مسقط عام ٢٠١٨م، تقديرًا لمحبة خطيبها الذي كان سيحضر.
أحد الأفاضل، كان قد رفض لقائي معه عندما طلبت منه أن نلتقي، بعد أن كتب رسالة لي يعبر عن امتنانه لما كتبت عبر الإيميل، قضيت قرابة النصف ساعة في قراءتها، ولا أعلم حتى اليوم السبب الحقيقي خلف رفضه.
أُسمي أحيانًا الأحاسيس المصاحبة للكتابة باللعنات؛ لعنة الجلوس كل يوم لساعات طويلة مع ملل لا يتوقف وحرب ضروس مع الملهيات، ولعنة اختيار حِرفة تزداد صعوبة، ولعنة عدم القدرة فيزيائيًا ووقتيًا الجلوس مع كل قارئ لفهم نفسيته، أو على الأقل، لشكره على وقته.
نفس هذه الأحاسيس هي التي تولِّد رغبة لا تجف من الاستمرار، ورغبة لا تجف بالإيمان أن هناك لعنتين إضافيتين: لعنة العزوف عن الكتابة، ولعنة الاستمرار فيها.
مثل الكثير من التحديات في الحياة، يخترع الكاتب لنفسه حججًا لكي يستمر فيها، وحججًا لكي يتوقف. لا تمر الأيام معه بشكلٍ طبيعي، فهي إما نشوة بالتعبير، أو نقم من التقصير. ورغم كل ذلك. لا يسع الإنسان السوي إلا أن ستمر في حياته كما رسمها لنفسه. شأنه شأن الكاتب الذي اختار هذه الحِرفة نتاجًا لخلوته.
ودون قرّاء. لن يكون هناك جدوى من هذه اللعنات. أو هذه النَّعَم!
حسنًا. هي نِعم من المولى. واللعنات فضفضات.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.