عندما نشتري أشياءً غالية لأبنائنا
نتجه نحن الآباء لشراء الأشياء الغالية لأبنائنا اعتقادًا أنها التعبير الأكبر للحب، وجزء منّا يحاول أن يُخفي تقصيرًا ما.
كل الذكريات التي أحملها من طفولتي لا تتضمن ملابسًا غالية أو مقتنيات ثمينة.
ولا يهم إن سألت اليوم: هل كان والداي يشترون لي أشياءً غالية أم لا؟ فالذكريات بالطبع لا تصنعها المقتنيات. بل تصنعها الكلمات والأوقات والمواقف.
يحتفظ الشاب عندما يكبر بكثير من اللحظات التي كانت تحمل الحب والتعليم والتوبيخ فقط. لا أذكر ماذا كُنت ألبس عندما صفعني أستاذ العربي على وجهي في صف الثانية ابتدائي عندما ظن أنني كنت صاحب الصوت الأعلى في الفصل وليس الأخ الذي أيضًا لا أذكره كان بجواري يصيح مثل الديكة، لكنني أذكر تمامًا كيف كان شعوري.
ولا أتذكر من إحدى المناسبات سوى تخويف أهلي لي بعد أن صرّح أحدهم في العشاء أنه أكل ثلاث قطع من ورق العنب (تعبيرًا عن لذّته) لأقفز كطفل معلنًا أنني الفائز لأنني أكلت خمس قطع، وتنتهي تلك الليلة بتوبيخ صارخ من أهلي لأنني أشجع الآخرين على «إعطائي عين» بعد أن قلت عدد الحبات التي أكلتها، ليلتصق هذا الخوف من العين في عقلي طيلة سنوات طويلة وتصبح إحدى مخاوفي الكبرى في هذه الحياة، حتى تخلّصت من هذه العُقدة تمامًا على خير قبل فترة قصيرة.
إحدى الأخوات كانت بارعة في طفولتها في حِرفة الخياطة، حتى دخل عليها والدها ووبخها أنها طفلة مثل العجائز تحمل في يدها قطعة قماش وإبرة الوخز، لتترك هذه الحرفة لحظتها وللأبد، بل أنها اعترفت.. «عندما دخلت الجامعة كانت إحدى المواد تتطلب عملًا فنيًا يتعلق بالخياطة، وفي كل وخزة إبرة أثناء عملي على القطعة كنت أتذكر ذلك التوبيخ».
أتذكر المشاوير الفردية التي كانت بصحبة والدي.. ولا أتذكر بالضبط نوع السيارة أو الشماغ الذي كان يرتديه، ولا أتذكر إن حتى تفصيلًا واحدًا في ملابسي.
أتذكر أجمل إجازة قضيتها في حياتي في شتاء الرياض منذ أكثر من عشرين سنة برفقة العديد من العوائل والأرحام، وأتذكر الألعاب والمغامرات التي كانت برفقة ابن عمتي وبنات عمي، ولا أتذكر في تلك الإجازة مناصب أو ثروات أو مقتنيات أحدٍ فيهم.
الدروس والقيمة والتأثير يُصنعون من البشر، وليس من مقتنياتهم أو أموالهم أو مناصبهم.
الذكرة والتكوين تُصنع من الكلمات.
وأعلم اليوم أن بناتي سيبحثون عن الكثير من الوقت برفقتي، وسيتذكرون لحظات هذه الرفقة ويحكوها لأبنائهم.. وربما إن كان لديهم فائض من الذكرى، سيعلمون كم صرفنا أو اشترينا لهم.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.