كل الناس لهم ذكرياتهم السيئة بطريقتهم؛ أما أنا فكانت مع الأكل
عن عدم القدرة على التواصل الفعّال مع الأهل في سن صغير
كل البشر يملكون ذكريات سعيدة وحزينة بطريقتهم الخاصة، أما أنا فإن معظم ذكرياتي السيئة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالأكل، وهذا ما قد يفسّر بشكل مباشر زيادة وزني بعض الشيء، فحاضري عبارة عن ردة فعل تشكّلت بأن أصبحتُ محبًا للأكل بشكل لا شعوري لدرجة تجعلني مقتنعًا أن كل وجبة لذيذة آكلها هي وجبتي الأخيرة على وجه الأرض، وكأن عقلي يحاول القيام بما يسميه علماء البيولوجيا: آلية الدفاع الذاتي (Self Defense Mechanism) تحاول حمايتي من فكرة «عدم إمكانية الوصول لهذه الوجبة مرة أخرى».
1. عندما كنت في الصف الأول متوسط، كان معظم زملائي في الفصل يتحدثون عن مطعم لذيذ يزورونه بانتظام في نهاية كل أسبوع، كنت أجلس وأتفرج عليهم واحدًا واحدًا وهم يستعرضون أفضل الطلبات في حديثهم: «أنا وأبي نطلب برجر لحم عادي..»، «أنا لا أطلب غير ستيك..»، «عندهم ألذ هوتدوج في التاريخ..» وتعليقي على الأمر الأخير: أنني كنت ولا زلت – دون خجل – من محبي الهوتدوج، وأعتقد أن السبب يعود لمثل هذه المناقشات.
كانت مشكلتي التنسيقية هي أن والديّ كانا كبيرين نسبيًا في العمر بالنسبة لعمري (فوالدي أنجبني وهو في سن السادسة والأربعين) ولا تغريهم مثل هذه الاقتراحات (الجَنك) لعشاء نهاية الأسبوع، فقد حاولت مرتين أن أقترح «فدركرز» لينتهي بنا الحال في «الطازج» فرع التحلية، أو بيتزا هت. أحد زملائي وقتها (والذي أصبح اليوم طبيبًا قديرًا، ونسيبًا لنا)، أخذني على جنب وأعطاني بعض الإرشادات التي يلتزم بها شخصيًا في كل زيارة له لفدركرز وهي: «أن أطلب ستيك برجر وأشدد على النادل بأن يجعله very very well done، وأن أطلب خبزًا بريال لآكله مع الجبنة السائلة التي اشتهر بها المطعم». طبعًا اكتشفت بعد عشرين سنة أن النصيحة كانت أسوأ نصيحة لأكل الستيك، وأعزو الأمر لنقص الخبرة وقتها، وتأثير الأهالي الذين يأكلون اللحم وهو شبه محروق.
2. صديق آخر ذو مستوى اجتماعي أعلى، كان يذهب برفقة والده وزوجة والده إلى مطعم كان واقعًا في شارع صاري في جدة، اسمه «تيمبلويد» (أو كما أتذكر نطقه باللغة العربية)، هذا الصديق كان يعطيني تقرير الطلبات كل سبت عندما ألتقي به مع وصف دقيق للمتع التي حظي بها، مع تنمر خفيف تجاه أهلي الذين لا يفهمون في الأكل. وقد حسمت الأمر بأن أتولى زيارة المطعم بنفسي عندما أكبر قليلًا. وقد عشت بطبيعة الحال خيالات الحرمان تجاه هذا المطعم أيضًا حتى قدت السيارة وأصبح لي مصروف شبه محترم في مرحلة الثانوية، وعندما قررت الذهاب إلى المطعم، اكتشفت أنهم أغلقوه منذ سنتين، لتنتهي القصة مع بقاء إحساس الحرمان يهيم في وجداني.
3. صديق ثالث في نفس مرحلة المتوسطة البائسة (أو قبلها قليلًا)، كنت عندما أزوره كل مرة، كانت والدته تطعمنا على العشاء أكلًا بالكاد يكفي للأطفال الرضّع، وقد فسّر لي الأمر لحظتها بسبب بروز عضلات الصدر والظهر عند أولادها، طبعًا دون ذكر أن كل زيارة كنا نقوم بها لهذا الصديق كنا نصرف فيها قرابة الأربع ساعات في لعب كرة القدم، لأكون بعدها في حالة متقدمة من الجوع الشديد، وأكتشف أن العشاء عبارة عن «فخذة دجاج» أو «فخذة وجناح»، آكلها وأنا ساكت لأعود إلى البيت.
في أحد الأيام، عدت إلى المنزل بعد العشاء من عندهم، وسألتني والدتي «هل تعشيتم؟» وأخبرتها طبعًا أننا تعشينا، ولكنني لا زلت جائعًا جدًا، لأدخل إلى المطبخ لطبخ حبة أو حبتين إندومي، لتوبخني والدتي بأن «معدتي قد تتوسع» من فرط الأكل، ولا يمكن لي أن أتعشى مرتين! حاولت أن أبرر بأن كل ما أكلته هو دجاجتين (قاصدًا قطعتين صغيرتين جدًا من الدجاج) لترد: دجاجتين! .. اذهب إلى النوم! لأبات يومها وأنا أتضور من الجوع، مع سوء فادح في التواصل من جهتي. قررت على إثرها أن أنهي زيارتي كل مرة لهذا الصديق قبل العشاء مباشرة لأتجنب إحساس المجاعة المقيت.
4. لم يستوعب أهلي أن متطلبات من هم في عمري آنذاك كإنسان يافع؛ أنني أحتاج بعض الانتباه والفهم، فقد كانت ألعاب الكمبيوتر مثلًا غالية نسبيًا، وكنت كل مرة أزور فيها المسجد النبوي الشريف أو الحرم المكي الشريف، لا يخرج دعائي عن أمر واحد: «يا رب أشتري نيو جيو».
نيو جيو كان غاليًا لدرجة أن متوسط سعر ألعابه كان ألف ريال للعبة الواحدة، وهي غالية جدًا حتى بمقاييس اليوم. ولأنني ابتليت ببعض الأصدقاء الأثرياء، فإن انتشار هذا الجهاز وألعابه كان دارجًا وقتها، مما شكّل نوعًا آخر من الحرمان إلى جانب الأكل. نيو جيو مات بسرعة وخرج من السوق رسميًا عام ٢٠٠٤م لنقص المبيعات الحاد وأسباب أخرى، وللأمانة لم أتحسف كثيرًا على خسارة الشركة، بسبب العذاب النفسي الذي أوقعتني فيه. وعودة إلى الأكل، تداركت الأمر مع العيديات، فأذكر أن أول عيدية حصلت عليها في الصف الأول متوسط، اضطررت إلى دعوة أخي للعشاء في مطعم فدركرز «فرع سوق حراء»، منها توصيلة للمطعم الذي طالما حلمت به، ومنها إمكانية طلب العديد من الطلبات التي يستطيع أكثر من شخص أن يأكلها. وكانت الزيارة باختصار لا بأس بها، خصوصًا إنني صرفت ثلث قيمة العيدية في وجبة واحدة، كان من الأجدى لها أن تُصرف في مكانٍ آخر.
كنت أتفاخر على صديقي قبل يومين، مدعيًا أمامه أنني لم أواجه – ولله الحمد والمنة – أي عقد نفسية و«تروما» في طفولتي، ومهما عدت بالذاكرة إلى الخلف فإنني لا أجد سوى العديد من الذكريات الجميلة بصحبة أهلي ووالدي غفر الله له، الذي أكرمنا بحياة سعيدة وسفرات عديدة، فقد جبت معه العالم، وقد حسبت في إحدى المرات عدد وأماكن سفراتي لأكتشف أنني زرت عشرين مدينة في دول مختلفة قبل أن أصل إلى العشرين من عمري. وكل الفوارق العمرية والتفضيلية كان مصدرها ما تعود عليه أهلي من خيارات في الأكل مقابل ما كان دارجًا وقت بلوغي، فلم أكتشف الأكل الجاوي إلا في المرحلة الثانوية (لأن والدايّ كانا لا يحبانه) ولم أتناول أي أكل بحري غير السمك والجمبري إلا في مرحلة الجامعة أيضًا، في حين أنني كنت ولا زلت مولعًا جدًا بالمطبخ الهندي (لأنهم كانوا يحبونه بشغف).
بالتأكيد بعض الذكريات لا تدخل قائمة العقد بقدر ما هي في قائمة المواقف الكوميدية، ولعل أكثر شيء قيم يمكن لأي إنسان أن يعطيه لأبنائه هو: طفولة سوية في كنف والدين متحابين، وهذا لعمري هو ما عشتُه.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.