تخطى الى المحتوى

تأمُل في حياة نصفها جنون ونصفها حكمة

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

«تتشكل حياتنا نصفًا في الجنون ونصفًا في الحكمة: وكل من يكتُب عنها [عن الحياة] يتجاهل أكثر من نصفها بدافع من الاحترام والقواعد السائدة» يقول الفيلسوف مونتين؛ ويعلق على هذا الاقتباس آلان دو بوتون: «ولكن لو تقبّلنا زلاتنا، وتوقفنا عن ادعّاء وجود تفوق لا نملكه حقًا، سنكتشف (حسب فلسفة مونتين) أننا لا نزال ملائمين في نهاية المطاف (كنصف حكماء ونصف مجانين).»[١]

… وأُعلِّق: عند تقبّلنا لعدم وجود تفوق دائم لا نملكه، سنستوعب أنه «لا بأس بنا والله!» في هذه الحياة. وبلغة أُخرى سنُحب أنفسنا ونتقبلها أكثر.

نصف الجنون ينعكس في الإخفاقات، ونصف الحكمة تنعكس في النجاحات.

إن استوعبنا بشكل حقيقي أن الحياة عبارة عن زلات ونجاحات صغيرة فإننا سنكون بخير.. ببساطة. وعندما أقول استوعبنا، فإن ترجمة هذا الأمر على أرض الواقع هو عدم الخوف من الاعتراف أو الكشف عن الأخطاء والجنون والزلات، دون الاكتراث كثيرًا لردود الأفعال، فنحن نعلم في داخلنا أن هذه هي سُنّة الحياة، نصف جنون ونصف حكمة.

نتحرك من خلال تصرفاتنا اليومية على إظهار صورتنا بأبهى حالة، وبالتأكيد ليس هناك عيب في هذا الأمر، لكن تتشكل المشكلة عندما يستنزف هذا الإظهار جهدًا ذهنيًا ومجموعة لا حصر لها من التضحيات من أجل ألّا تتغير صورتنا أمام فلان، وبالأخص إن كان متغطرسًا.

  • إن كُنت أقود سيارة فخمة طيلة حياتي، فلا بأس أن أخبر الآخرين أنني لا أستطيع قيادة نفس السيارة هذه الأيام بسبب ظروف الظروف المادية. لما الخوف من هذا الاعتراف المباشر؟
  • أبدو أكثر شحوبًا وأحمل وزنًا زائدًا، لا بأس بالاعتراف للصديق (الملقوف) بأنني لا أجد محفزات أو رغبة حقيقية الآن لأغير حياتي.. حياتي أنا!
  • لا تستطيع ابنتي المشاركة في حفلٍ ما، لماذا أدعي انشغالها؟.. وكل ما في الأمر أننا لا نستطيع إيصالها إلى مكان الحفلة البعيد لسببٍ ما.

عندما نستوعب تمامًا أن كل هذه التغييرات -المفروضة علينا- بين نصف الحكمة ونصف الجنون أمر طبيعي جدًا، سيحدث سحرٌ غريب في كلامنا وتصرفاتنا. سنصبح فجأة أكثر اعتناءً بنفسياتنا وهمومنا وتحدياتنا، وليس بالآخرين. سنكتشف فجأة بأن هناك مخزونًا كبير من الجهد الذهني والنفسي كان قد استُنزف في غير محله طيلة سنوات، استُنزِف على تلميع حالتنا، تمامًا كما نلمع سياراتنا وننسى أخذها للصيانة.. لماذا؟.. لأن نظرة الاخرين أهم.

لا أدعو اليوم إلى عدم الاكتراث للسمعة أو المكانة، بقدر التركيز على الاكتراث للحقائق، الحقائق التي نعيشها يومًا بيوم، دون إضافة ضغط ليس له داعٍ عليها بالبحث عن أنفسنا من خلال عيون الآخرين.

الحياة ببساطة يجب أن تكون بين نصف إخفاقات ونصف إنجازات. ويجب أن تظهر كذلك.. كما هي.. للآخرين. فمن شاء بعدم تقبّلنا في الحالتين، سيكون من الأجدر بنا أن نرحب بهذا الرفض، لأننا سنبتعد بأنفسنا أكثر عن إخفاقات إضافية من علاقات غير سوية.


١. دو بوتون، آلان، عزاءات الفلسفة، ط٢، دار التنوير، ص١٥٠-١٥١

شؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم

مطاعم: * قبل ثلاثة أسابيع، شرّفنا أخيرًا أحد أبناء إخوتي الذي يزورنا بشكلٍ موسمي كل ثلاثة أشهر، في اجتماع العائلة الأسبوعي. وحكى لي القصة التالية: اقترح عليه صديقه أن يزوروا مطعماً يقدّم ألذ لحم أوصال في العالم، وموقعه في مدينة جدة، خلف سوق الشعلة، اسمه «مشويات بيت الشهباء»

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم
للأعضاء عام

بعض الأفكار لتحدّي النفس

أسهل طريق للتخلّص من شخص مزعج، أو شكّاء، أو سلبي في حياتنا هي مقاطعته. لكنه ليس الطريق الأصح.

بعض الأفكار لتحدّي النفس
للأعضاء عام

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن

كان من المثير للدهشة بالنسبة إلي، أن اقتراحات يونيو ٢٠٢٤م قد لاقت تفاعلًا من القريبين أكثر من القرّاء، وهذا أمرٌ لطيف في الحقيقة، لكيلا يشعر المُقترِح أنه «يكلم جدار» مع اقتراحاته. عمومًا، لا يمكن أن أُعطي اقتراحات خارجية، قبل أن أحصل على شيء من

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن