تخطى الى المحتوى

ماذا يعني أن تكون مصابًا بمتلازمة الدجّال؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
1 دقيقة قراءة

كتبت هذه المقالة بالتعاون مع العنود الزهراني

هل شعرت في يوم من الأيام بنقصٍ حاد في الثقة بالنفس لأنك ترى أنك إنسان غير منجز؟ أو أنك لا تملك إمكانيات أو مؤهلات تجعلك تبدع في وظيفتك، مشروعك، أو فنك، أو أيًا كان بالرغم من وجود أدلة واضحة تثبت أنك صاحب إنجازات وأداء متميز؟ هل شعرت يومًا بعدم استحقاقك للتكريم أو التقدير أو الفرص الذهبية التي قدمها الناس إليك؟

تتفاوت الإجابة على هذه الأسئلة – وهذه الأحاسيس – عند كل شخص، إلا أنها تظل موجودة، تظهر وتختفي من حينٍ لآخر، تزداد وتنقص مع الوقت، خاصةً عند مقابلة أي شخص نشعر أنه يتفوق علينا، أو آخر نشعر تجاهه أنه أقل منّا بكثير في قدراته.

مجموعة الأحاسيس هذه تشكل ما يُسمى بحالة أو متلازمة «الدجّال» (Imposter Syndrome/Phenomenon)، وهي بحسب تعريف عالمتي النفس الإكلينيكي، بولين كلانس وسوزان إميز، الحالة التي يكون فيها الشخص غير قادر على استيعاب وقبول نجاحه، غالبًا ما يعزي إنجازاته إلى الحظ أو الظروف الخارجية بدلاً من قدراته وجهده، يشعر بأنه أشبه بالـ “محتال” أو “المخادع” الذي يخشى من أن يكتشف الآخرين أنه غير مؤهل بما فيه الكفاية لهذا النجاح من وجهة نظره [١]، وعادة ما تتجلى هذه الحالة عندما نقارن أنفسنا بالآخرين وإنجازاتهم.

 

المثير للاهتمام أن هذه الحالة أو هذا الشعور شائع أكثر مما نظن، حتى وإن لم ندركه بوضوح أو نتحدث عنه علنًا، فبحسب بعض الدراسات، حوالي ٧٠٪ من الناس يعيشون هذه الحالة/المشاعر في فترة أو فترات معينة من حياتهم [٢]، وبحسب إحصائيات جوجل، هناك أكثر من مليون نتيجة بحث لمصطلح (Imposter Syndrome) وهو ما يشير إلى وجود عدد هائل من الناس الذين يتداولون أمر هذه الحالة [٣].

لكن، لماذا تصيبنا متلازمة الدجّال؟

هناك عدة تفسيرات لهذه الحالة من أهمها: المقارنة بالآخرين، وهوس الكمال، والتشكيك المستمر.

  • المقارنة: هل أنا مثلهم؟

إذا كنت صاحب همة عالية وأداء متميز وتعيش في بيئة مليئة بالأقران الناجحين وأصحاب الأداء العالي سواء في الجامعة أو مكان العمل، فغالبًا ستشكل إنجازاتهم نوعًا من الضغط الذي قد يقودك إلى التشكيك في قدراتك، وتجعلك تعلق في أفكار لا أساس لها من الصحة مثل: «ربما لستُ بنفس مستواهم الاحترافي» أو «لا أعتقد أني أملك خبرة كافية مثلهم»، «لا أستطيع أن أقوم بما قام به فلان فهو أفضل مني»، بالرغم من أنك فعلاً تمتلك إمكانيات مثلهم أو ربما حتى تفوقهم في المستوى.

  • الكمالية: أي غلطة = نهاية الكون!

هوس الكمالية (Perfectionism) والمحاولة القصوى للإتقان، تُعد أحد أهم المؤثرات التي تساهم في إصابة الإنسان بمتلازمة الدجال. هي التي تجعله يشعر بنقصٍ ما في عمله دومًا. وهي النزعة لوضع معايير شبه مستحيلة في الاستمرار بمحاكاة الكمال، وطبعًا لأن الوصول إلى الكمال مستحيل، فالنتيجة تكون سلسلة من خيبات الأمل والشعور بالإحباط وجلد الذات، بالرغم من أن الإنجازات تكون مذهلة بالنسبة للآخرين، إلا أن صاحب الإنجاز هنا يكون دائمًا غير راضٍ عن أدائه أو ما حققه ويشعر أنه دون المستوى أو حتى قد يشعر بالفشل.

  • التشكيك: غزارة المعرفة كنقمة!

المدهش في الموضوع أن أكثر من يصاب بمتلازمة الدجّال هم أصحاب الأداء المتفوق والإنتاجية العالية والإنجازات الاستثنائية، وبطبيعة الحال، هذه الفئة تمتلك معرفة وإمكانيات متفوقة مقارنة بأقرانهم، ومع ذلك هم أكثر الناس تشكيكًا في المعرفة والمهارات التي يملكونها. وفي هذا السياق، يقول الفيلسوف إيريك هوفر في كتابه (المؤمن الصادق، ١٩٥١م):

من العجيب أن الناجحين، بدورهم، مهما كان اعتزازهم بحصافتهم وخبرتهم.. يؤمنون في قرارة أنفسهم، أن نجاحهم جاء نتيجة المصادفات والحظ السعيد، إن ثقة أكثر الناس نجاحًا في أنفسهم ثقة ناقصة؛ لأنهم ليسوا متأكدين من أنهم يعرفون كل العوامل التي كانت وراء نجاحهم

وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال: ماذا عن العكس؟ ماذا عن حالة الأشخاص غير المنجزين الذين يشعرون بثقة مفرطة في أنفسهم؟

يُطلق على هذا النوع من السلوك المعاكس «تأثير دنينج-كروجر» Dunning-Kruger Effect، وتعريفه باختصار: هو انحياز معرفي (cognitive bias) يجعل الإنسان صاحب المعرفة البسيطة والمؤهلات الضعيفة يعتقد أنه صاحب أداء ممتاز وبالتالي تكون ثقة بنفسه وبما يفعل عالية، وفي المقابل، الشخص صاحب المعرفة الغزيرة والمؤهلات العالية، يشكك في أدائه وبالتالي تقل ثقته بنفسه [٤].

هذه الفكرة تجدها أيضًا منتشرة كثيرًا في الحكمة القديمة في معظم الديانات والثقافات المختلفة، فمثلاً جاء في الأثر «من قال إني أعلم فقد جهل»، وقيل في الإنجيل «إذا افترض أي شخص أنه يعرف شيئًا، فهو لا يعرف بعد كما ينبغي عليه أن يعرف» (If anyone supposes he knows something, he does not yet know as he ought to know) – أي أنه لا يعرف حق المعرفة، ونقل عن بوذا: «أولئك الذين لديهم معرفة محدودة لديهم اعتزاز كبير بذواتهم، ولكن عندما يصبحون حكماء، فإنهم يهدؤون» – أي يصلون إلى مرحلة توازن. وقد فسّر تشارلز داروين هذا الموضوع من ناحية سلوكية عندما كتب في كتابه (نسل الرجل، ١٨٨١م) بقوله: «يولِّد الجهل كثيرًا من الثقة؛ أكثر بكثير عمّا تولده المعرفة».

وتأثير دينينج-كروجر يفسر ظاهرة وهم الثقة بالنفس التي يمكن أن تساهم بشكل غير مباشر في تفاقم حالة متلازمة الدجّال من جهتين:

١- من جهة الآخرين: نجد الكثيرين حولنا وخصوصًا على قنوات التواصل الاجتماعي يحرصون على الظهور باستمرار ومشاركة آراءهم وتفاعلاتهم وأحاديثهم معنا، وبعض المشاهير منهم يتحدثون عن جوانب كثيرة في شؤون الحياة، آخذين الحق في ذلك بسبب الشهرة؛ ليعتقدوا أنهم على إلمام كافي في كل ما تحدثوا عنه. وهذا ما قد يعطي انطباعًا مغالطًا داخلنا لعدم امتلاكنا الحق أو القدرة أو المعرفة التي يملكونها، وربما نغامر برأي مفاده أن الكثيرين منهم مصابين بتأثير دينينج-كروجر بدرجات مختلفة، وهذا الوهم مع الأسف قد يساهم بالتأثير علينا وجعلنا نعتقد أننا مهما بذلنا من جهد، فلن نكون مثلهم، فبالتالي نحن لا نستحق الإطراء أو المديح.

٢- من جهتنا: نحن نعلم أن سُنة الحياة تتطلب المثابرة والجهد وتطوير الذات كي ننمو، إلا أننا إن حصلنا على بعض المديح في مراحل مبكرة من بذل المجهود قد يكون مؤشرًا مهمًا على اقترابنا من الإحساس بوهم الإنجاز، وبالتالي قد يقود هذا الأمر إلى التكاسل والتقاعس.

ماذا يعني كل ذلك؟ هل يجب علينا أن نتخلص من متلازمة الدجّال إن كنا نعاني منها؟

إذا سيطرت علينا مشاعر وأفكار التشكيك بالنفس والقدرات فإن ذلك سيحد من إقدامنا على المبادرة وانتهاز الفرص المهنية والحياتية التي قد تصنع فارقًا كبيرًا في حياتنا، عندما يتلبّسنا إحساس عدم الاستحقاق لما قمنا به من نجاحات وإنجازات (مهما بدت صغيرة)، فإن شيئًا من السلبية قد يطغى على نظرتنا لأنفسنا وتقديرنا لذواتنا وهو ما قد يقود إلى سلسلة من حالات القلق والاكتئاب [٥].

لكن، القليل من التشكيك بالنفس والقدرات مطلوب وضروري من ناحية أخرى، لأن ذلك يشكل دافعًا كي نستمر في تطوير أنفسنا وتحسين أدائنا. تخيل أن تنتفي هذه الحالة وكنا واثقين في قدراتنا ومعرفتنا تمام الثقة؟ سنقع وقتها في فخ وهم الثقة ووهم المعرفة.

وحتى نسيطر على متلازمة الدجّال ولا ندعها تسيطر علينا، هذه بعض الاقتراحات العملية:

  • البحث عن الحقائق والمشورة

بدل من أن نغرق في التشكيك في أنفسنا وقدراتنا، يمكننا أن نبحث عن الحقائق التي تدعم قصص نجاحنا، مثلاً عندما يعلق شخص بأن عملنا كان استثنائي، بدلاً من أن نعتقد أنه يبالغ ونحن لا نستحق هذا “الادعاء” ونشعر أن ما قمنا به ليس له قيمة تذكر، ربما سيساعد أن نسأل هذا الشخص «ما الذي يجعلك تعتقد أن هذا العمل متميز أو استثنائي؟».

عندما نقع في مأزق حالة الدجّال ونشعر أننا عالقون في مكان ما بسببها، فإن أول ما يمكن القيام به هو طلب المشورة ممن يمكننا تسميتهم بـ «شبكة الأمان» (Safety net)، هذه الشبكة تحتوي على عدد قليل من الأشخاص الذين يدعمونا من خلال إنصاتهم واعطائنا آرائهم الصادقة حول ما نمر به ويساعدوننا على تقييم المشكلة/الأمور. شبكة الأمان هذه لا يجب أن تتكون من المقربين لمجرد أنهم “مقربين” مثل الأهل، الأصدقاء، الأحباب، يجب أن يشكلها أشخاص يحملون معايير خاصة وهي:

١- أن يكون الشخص صاحب خبرة في المجال أو المسألة التي تستشيره فيها. على سبيل المثال، إذا كانت لديك شكوك في قدراتك الكتابية، لا تسأل صديقك الذي لم يكتب يومًا مقالة عن رأيه أو مشورته حول ما تكتب؛ حاول أن تختار شخصًا قد وصل إلى المستوى الذي تسعى للوصول إليه، فقد يعطيك نصيحة أو رؤى لم تحسب حسابها، كتوقعاته عن استقبال القراء لما تكتب، أو شرحه لتقنية كتابية أو درس تعلّمه وكان قد وصل إليه بعد ممارسة طويلة.

٢- أن تستشعر اهتمام من تستشيره تجاهك بصدق. فأنت لا تريد أن تطلب نصيحة من شخص تشعر بغيرته أو عدم اكتراثه لك، ولن تفيدك تلك المشورة التي تُعطى لك مغلفة بمحاولة إقناعك أنك ما زلت بعيدًا عن تحقيق مسألتك. استشعار الاهتمام هنا من قِبل الناصح، يلعب دورًا جذريًا على الصعيدين النفسي والعملي.

٣- أن تضمن بأن يكون هذا الشخص جريء بما يكفي ليقول لك الحقيقة في وجهك (ولن يحدث ذلك دون أن تعطيه الأمان بصدق)، وهنا نقطة مهمة: ليس كل شخص يحبك بالضرورة يملك الجرأة لمصارحتك. عنصر المحبة أو المعزة يلعب دورًا كبير هنا، فمن الأسهل على الشخص العزيز الذي تطلب منه المشورة أن يجاملك (ويسلك لك) على أن يتسلّح بالجرأة ويخبرك بالحقيقة التي تحمل معها نسبة من المخاطرة تجاه علاقتكما.

  • التركيز على الجهد.. دون توقف

إحساس الإنجاز رائع.. وإحساس المديح أروع. مشكلتهم أنهم أحاسيس، لا ينعكسون بالضرورة على الواقع. وإحساس عدم التشجيع أو الانتقاد لجهودنا وأعمالنا مخيب للآمال، ويجعلنا نمارس المزيد من الجلد للذات بعدم استحقاقنا للتقدير. ناهيك عن تعرضنا لمن هم أفضل أو أسوأ منّا ليساهموا هم الآخرين بدورهم على تعزيز هذه المشاعر.

حلقة الوصل بين هذه الأحاسيس؛ شيء يُسمى «الإنجاز»، وهو جهد كان قد بُذل على عمل أو مشروع أو تطوير للذات أو المساهمة في تحسين حياة الآخرين. وطبيعة النفس البشرية تميل للبحث عن المديح، وتتأثر سلبيًا من الانتقاد، إلا أن متلازمة الدجال حالة قد تكون غير عقلانية ألا وهي التأثر سلبيًا من مديح الآخرين بالرغم من وجود إنجاز حقيقي، إحساسها وإن كان يربك النفس، فإن أحد أهم الحلول المثالية لهذا الإرباك هو التوازن. التوازن بعيدًا عن محاولة الانتباه بشكل أكبر للإطراء أو الانتقاد، إنما البحث عن المزيد من الطرق التي تقودنا إلى إنجاز المزيد من العمل.

تضيع الأحاسيس التي قد لا تعكس الواقع مع العمل المستمر، أو كما يقول التسويقي المعروف سيث جودين «إن كان عملي سيئًا سأقوم بتحسينه في المرة القادمة، وإن كان جيدًا سأعيده مرة أخرى»

التركيز على الجهد بشكل مجرّد ومستمر، مفتاح مهم للابتعاد عن التأثر بمتلازمة الدجّال.

كان الله في عون الجميع.

— انتهى–


المصادر:

[١] Feel like a fraud? Kirsten Weir, American Psychological Association, 2013

[٢] The Impostor Phenomenon, International Journal of Behavioral Science, 2011

[٣] [٥] Are you suffering from imposter syndrome? Lydia Craig, American Psychological Association, 2018

[٤] The Dunning-Kruger Effect Shows Why Some People Think They’re Great Even When Their Work Is Terrible, Mark Murphy, 2017

*مصدر صورة المقال: Medium

سيكلوجيا الإنسان

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع