تخطى الى المحتوى

عن العيش كشخص عادي في المنتصف

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
عن العيش كشخص عادي في المنتصف
Photo by Tai Jyun Chang / Unsplash

أحد أصدقائي العزيزين والمسؤولين في شركة «المحتوى» في البودكاست أخبرني الجملة التالية: «أداؤك عادي، ولا تملك قبولًا كبيرًا كمستضيف». لم يقل أداؤك سيئ، ولم يقل أداؤك خارقاً للعادة، قال بما معناه: «أنت مستضيفٌ عادي».

«العادي».. هو شكل معظم حياتي. وهو موضوعي اليوم.

وُلدت أصغر إخوتي، ولكنني اعتدت أن أعيش في المنتصف، في مكانٍ ما بين الاستثناء الخارق وما بين الفشل الذريع. طوال سنواتي الدراسية لم أكن ضمن العشر الأوائل، ولم أكن ضمن العشر الأواخر، كُنت دومًا هناك، في مكانٍ ما في المنتصف. في المرحلة الابتدائية في المدرسة الخاصة، كان عدد الطلاب في الصف قرابة الخمس وعشرون، ودائمًا ما يأتي ترتيبي ما بين الخامس والخامس عشر، تمامًا كما كُنت أجلس في الطاولة في منتصف الفصل، لستُ مع الدوافير في الصفوف الأولى، ولستُ مع المهملين في الصفوف الأخيرة، حتى آخر سنوات الجامعة، التي اكتفيت بها كمحطة أخيرة. لم يجذبني بعدها أي إغراء للماجستير، أو قبول قبلها بالمرحلة الثانوية.

في الابتدائية، كُنت أحلم - بطبيعة الحال - أن أكون ضمن الثلاث الأوائل، ولو لفصلٍ واحد، طمعًا في التكريم فترة الإذاعة، والحصول على لعبة «الپزل» التي كانت توزعها إدارة المدرسة على الأوائل. في مرة واحدة يتيمة في الرابعة ابتدائي حصلت على ترتيب الثالث على الفصل، كان وقتها مسرح المدرسة في فترة صيانة، وكانت الإذاعة متوقِّفة مؤقتًا، مما جعل أحد المعلمين يلف على الفصول ليُعطي شهادات التكريم لكل طالب على حِدة، دون تكريم على الملأ وهدية. طبعًا كررت عليه مرتين «هل أنت متيقن إنني ضمن الثلاث الأوائل؟»، ليعطيني الشهادة مستعجلًا دون اكتراث لسؤالي، وهو ذاهب لإكمال رحلة التوزيع على الفصول الأخرى.

مرحلة المتوسطة لا تبتعد كثيرًا عن هذا الوضع، كان متوسط عدد طُلاب الفصل أربعين طالبًا، ودومًا ما كان ترتيبي من ضمن العاشر إلى الخامس والعشرين، هناك في مكانٍ ما في المنتصف. وبالطبع بالكاد تخرّجت من الثانوية، وأكملت الجامعة بالدفدفة، وتنقّلت بين الوظائف حتى وصلت إلى آخر وظيفة في أحد البنوك السعودية، قبل الانضمام إلى رحلة ريادة الأعمال عام ٢٠٠٨م. كان يُطلَب من مدير الفرع أن يقوم بتقييمنا كل ثلاثة أشهر على أداء خدمة العملاء ومبيعاتنا، وأذكر تمامًا مضمون تلك الجلسات: «أداؤك عادي» أو «جيد جدًا؛ قليل من التطور لا يضر، ولا يجب أن تنزل عن هذا المستوى».

لستُ من أفضل الموظفين تحقيقًا للأهداف البيعية، ولستُ أسوء واحدٍ فيهم. بل أن في إحدى التقييمات، ناب عن مدير الفرع مسؤول علاقة في الخدمات الخاصة، وأخبرني أن ما ينقصني هو: «أن أكون دكتورًا مثله في الإلمام بالمنتجات التمويلية»، في إشارة إلى إبداعه المطلوب حتى أصل إلى ما وصل إليه كمسؤول علاقة بعد أن أمضى أكثر من عشر سنوات في البنك.

عندما بدأت بالعمل الخاص، كان وضعي المادي دائمًا متوسطًا، أخسر أحيانًا، وأكسب أحيانًا، لكنني لم أنضم أبدًا إلى نادي الأثرياء من ريادة الأعمال، ولم أشعر بويلات الإفلاس التام. أُقفلت معظم مشاريعي في البدايات لأنها كانت «ليست رابحة بمعنى الكلمة، وليست خاسرة فعليًا». اعتدت أن أتطلّع لما هو قادم في الصفوف الأولى، وفي الوقت نفسه كُنت أعرف مكاني، الذي لم يقدني إلى أي نتيجة محزنة بسبب إهمالٍ مفرط.

يُلهمني كثيرًا بعض أصدقائي القرّاء الذين يأكلون الكُتب، حاولت أن أكون مثلهم، إلا إنني عندما أنظر إلى الخلف، لا أجد نفسي سوى قارئ أقرأ نفس عدد الكُتب التي تقرأها إنسانة عادية. نفس الأمر ينطبق على حِرفة الكتابة، كتبت الكتاب الأولى الذي ذاع صيته لدرجة لم أتخيلها في حياتي، وتأتي الإصدارات التالية لتؤكد لي مكاني. أذكر أن أحد مسؤولي مكتبة جرير طلب في نفس المكالمة الهاتفية عدد نُسخ كبير من أحد كُتبي لأن مبيعاتها مرتفعة، وطلب منّي أن أسترجع بعض النُسخ من عناويني الأخرى لأنها لم تبع الحد الأدنى، علمت وقتها أن أحد الكُتب قد نجح فعلًا! إلا إنني ككاتب، كتبت كُتبًا أخرى لم تلقَ نفس القبول، ليعود إليَ مكاني هناك، في موقعٍ ما في المنتصف. عرفت بعد كل هذه السنين إنني لستُ كغازي القصيبي، ولستُ ضمن نادي الكُتاب المعتزلين الذين لم تلقَ كتاباتهم أي قبول.

أعترف إنني اعتدت هذا المكان. أن أكون في منتصف كل شيء، مهما حاولت. منتصف السلم الاجتماعي، وفي منتصف السلم المهني، ومنتصف القبول في العمل الإبداعي، وأيضًا، حتى في منتصف القبول لخياراتي الخاصة المحببة. أُحب مدينة إسطنبول مثلًا أكثر من حبي للكثير من المدن الأوروبية الفارهة، وأكثر من بعض عواصم الدول العربية. اسطنبول تقع في مكانٍ ما في المنتصف، منتصف العالم وفي المنتصف بين الخيارات الفارهة والمتواضعة، وهي أيضًا في مُنتصف المسافة حتى عبر السفر بالطائرة.

حتى وزني. لا يُعتبر بلغة الأرقام مُفرط السمنة، ولستُ ضمن نادي الرياضيين المحترفين، أقف هناك مع بعض الأجناب وقليلٌ من البطن في المنتصف، رغم كل الرياضات ومحاولات الالتزام الغذائي. طولي ١٧٢سم، أحد أقاربي يلقبني بالقزم، وإحدى قريباتي تجعلني أجلب طلباتها من الخزانة العلوية.

لا يمكن أن يكون المنتصف أكثر وضوحًا من ذلك. ولا يوجد شخص عادي أكثر من ذلك.

تأملت مؤخرًا لسببٍ أجهله هذا المكان. أهو مكانٌ أدعى لأن يعيش معه الإنسان بقناعة وهدوء؟ أم أن عليه السعي ليحصل على المزيد؟ ماذا إن كان المزيد لآخرين؟ ماذا إن كان هذا النمط هو الأساس، وبعض الاستثناءات استثناءات؟ أعرف يقينًا أن الكثيرين تروقهم شخصيتي وكتاباتي، وأعرف بنفس القدر أشخاصًا لا يملكون رأيًا تجاهي. وربما القليلين الذين يكرهونني، وحقيقة أستغرب ألا يحب الرجل شخصًا عادي، ليس أفضل منه وينافسه؛ ولا أقل منه ليستحقره. أتأمل أحيانًا كنوع من البحث عن المعنى والمكانة حال معارفي، أعود لأذكِّر نفسي أنه لا داعي لهذا التأمل، فأنا هناك في مكانٍ ما في منتصف حياتهم، لستُ في أعلى الهرم، ولستُ أسفله. في المكانة وفي القدوة، وحتى المعزّة.

أحد أساتذتي اعترف مرة لي عن سبب امتلاكي علاقة مثالية طويلة معه (بشكلٍ استثنائي). لأنه – حسبما يقول – إنني كُنت جيدًا جدًا في لعبة المسافات طوال السنين، لستُ ملتصقًا به حد الملل (مثل كثيرين حوله)، ولستُ بعيدًا عنه حد القطيعة. كُنت دائمًا أقف هناك في حياته، في مكانٍ ما في المنتصف.

هذا المُنتصف – من ناحية إيجابية – أسهم في استمرار الكثير من العلاقات الطويلة في حياتي، مع كل الأجناس والطبقات. اعتقدت دومًا أن الحفاظ على مسافة آمنة تجاه كل شيء هو أكبر ضمان لاستمرار أي علاقة. فلو كُنت شديد الالتصاق بأحبائي، لملّوا مني، ولو كُنت بعيدًا طيلة الوقت لنسوني.

وعن المساعي الأخرى، لو كُنت شديد الشغف بالنجاح في التجارة، لدخلت ربما في تحديات مادية ونفسية كانت ستحرمني من عائلتي والمقرّبين، ولو كُنت متعلقًا بالنجاح المهني في الكتابة، لتركتها من البؤس والإحباط ولنقمت على الجميع، ولو لم أكن أملك شيئًا فيها من الانضباط لكُنت مثل من ينفخ في الهواء مؤمنًا بأن أنفاسه ستعود إليه.

يؤمن المستثمر المعروف تشارلي مُنجر أن أحد أفضل الوسائل للنجاح في الاستثمار هي «الاستثمار في شركات جيدة جدًا بسعر عادل، مع الاحتفاظ بهذا الاستثمار لأطول فترة ممكنة»، لم يقل «الاستثمار في شركات خارقة النجاح في نتائجها»، ولم يقل بالتأكيد «الاستثمار في شركات رخيصة». لطالما كانت كلمة السر الخاصة به وشريكه وارن بافت هي: «الاستثمار على المدى الطويل في شركات جيدة، وتجنّب الخسائر مهما كلف الأمر»، هناك اختلاف بين جيدة وبين استثنائية. الجيدة جدًا تعني مكانًا ما في المنتصف.

هذه الفكرة لا تُناسب المضاربين اليوميين الذين يسعون إلى المكاسب السريعة، ولا تُناسب المستثمرين التقليديين. ينطبق هذا الأمر حتى على البرامج الغذائية، حينما يؤكد معظم اختصاصي التغذية على ضرورة الحفاظ على نمط حياة متوازن (في المنتصف) لأطول فترة ممكنة، عوضًا عن محاولة الحصول على مكاسب سريعة.

يرتبط المنتصف بسِمة جيدة، وهي طول المدى. يستطيع أي إنسان أن يبقى في المنتصف لأطول فترة ممكنة، لأن الاعتبارات النفسية والاجتماعية تجعل من الصعب أن يحافظ الإنسان على مكانته العُليا أو الدوُنية طويلًا بسعادة، أو بتعاسة. اسأل المشاهير مثلًا عن حياتهم بعد أن اعتادوا الشهرة! واسأل الخاسرين عن حالهم. وبنظرة فلسفية، يعتقد آلبير كامو أن الطبقة المتوسطة مثلاً هي بشكلٍ لا شعوري مقاومة للتغيير؛ وقد وصف مجتمع الطبقة الوسطى بأنه مجتمع جامد، ويعيبه مقاومة التغيير، وقد يمنع – بحسن نية – عدة مكاسب لنفسه، بسبب هذا الجمود.

لا أعرف إن كُنت شخصيًا أعد نفسي ضمن هذا الجمود، إلا إنني تعلّمت (دون أن أشعر) أن البقاء فيه يساعد على البقاء فيه لفترة أطول بعدها.

يرتبط المنتصف بشكلٍ إيجابي بالتوازن أيضًا، فلا يميل أصحاب المنتصف مع كل ريح، ولا ينعقون مع كل ناعق، كما قال أحد الأئمة في وصفه للعوام.

هذه التأملات تقودني تارة إلى القبول، وتارة أخرى إلى الطموح، ولكنها أيضًا بنفس القدر كانت قد قادتني إلى شيءٍ من روح التواضع والتسليم والقناعة، لأن كل من عرف نفسه قد عرف ربه كما تقول بعض الأدبيات الإسلامية. ربما يكون البقاء هناك في مكانٍ ما في المنتصف أسلم للنفس والروح، وربما يكون هذا القبول فيه شيء من استحضار القناعة؛ الذي يجعل الحياة تسير على وتيرة، لا همًّا كبير فيها، ولا فوضى عارمة.

وحتى ذلك اليوم الذي أنتقل فيه إلى مكانٍ ما، سأكتفي بهذه المرتبة التي وضعت نفسي بها، أو اختبرتني بها الحياة. أميل قليلًا إلى الأعلى، وأخاف كثيرًا من القاع. أكتفي مع نفسي وخيري وشري ليكونوا في دائرة ضيقة، لا أرمي فيها بشرر، ولا أخلق الأوهام لآخرين.

حتى ذلك اليوم، ربما أجدد التعارف مع هذا المكان الذي يحصِّن صاحبه من الحسد، ولا يكترث كثيرًا للمطامع.

هناك.. في مكانٍ ما في المنتصف، حين يكون الإنسان عاديًا، ربما تكون الجنة. 

شؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟

مقالة ضيف

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟
للأعضاء عام

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم

مطاعم: * قبل ثلاثة أسابيع، شرّفنا أخيرًا أحد أبناء إخوتي الذي يزورنا بشكلٍ موسمي كل ثلاثة أشهر، في اجتماع العائلة الأسبوعي. وحكى لي القصة التالية: اقترح عليه صديقه أن يزوروا مطعماً يقدّم ألذ لحم أوصال في العالم، وموقعه في مدينة جدة، خلف سوق الشعلة، اسمه «مشويات بيت الشهباء»

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم
للأعضاء عام

بعض الأفكار لتحدّي النفس

أسهل طريق للتخلّص من شخص مزعج، أو شكّاء، أو سلبي في حياتنا هي مقاطعته. لكنه ليس الطريق الأصح.

بعض الأفكار لتحدّي النفس