تخطى الى المحتوى

الاقتطاع من السياق: ظاهرة فردية أم ثقافة متجذّرة؟

مقالة ضيف

عمر وليد عاشور
عمر وليد عاشور
2 دقائق قراءة
الاقتطاع من السياق: ظاهرة فردية أم ثقافة متجذّرة؟
Photo by sajjad soltanpoor / Unsplash

في صباحٍ عادي، اتصل بي صديقٌ يفضفض.

لم يكن منزعجًا من رأي مختلف، ولا من نقدٍ موضوعي، بل من مئات التعليقات التي هاجمته بناءً على مقطع مبتور من لقاء طويل. جملة واحدة أُخرجت من سياقها، فصار معناها نقيض ما قُصد منها.

لم يسأل أحد: أين المقطع الكامل؟ ما السياق؟ ما الفكرة الأصلية؟

وكأن السؤال عن السياق صار ترفًا لا يمارسه أحد إلّا مَن تحلّى بالإنصاف!

وقبل إنهاء المكالمة، قلت له لأواسيه:

«لا تحزن، لا اعتقد المسألة شخصية… فمع الأسف الشديد الاقتطاع من السياق جزء لا يتجزأ من ثقافتنا».

وحينها أدركت أن المشكلة ليست في مقطعٍ عابر، بل في عادةٍ مؤسَسة، تمتد جذورها أبعد مما نظن.
الاقتطاع ليس حادثة؛ بل نمط.

ما حدث لصديقي ليس استثناءً، بل هو السائد والشائع.

كل يوم نرى:

• رأيًا يُبتر
• جملة تُحرّف
• كلمة تُستخدم ضد صاحبها
• قصة تُبنى على مقطع لا يتجاوز ١٧ ثانية

ولا أحد يسأل: ما قبلها؟ ما بعدها؟

وكأننا نتعامل مع المعلومة كما نتعامل مع العناوين الصفراء؛ نكتفي بما يثيرنا لا بما يبيِّن الحقيقة.

الجذور: كيف أصبح الاقتطاع جزءًا من ثقافتنا؟

القول ثقيل، لكنه واقعي:

حتى النصّ القرآني — وهو أوضح بيان — لم يسلم من الاقتطاع من سياقه النصّي. كثير من الآيات جرى التعامل معها كجُمل مستقلّة، مع أنها جزء من بنية متكاملة تتقدمها آيات وتتبعها أخرى، وتشكّل جميعها وحدةً موضوعية واحدة. حين تُفصَل الآية عن سياقها النصّي، يُحمَّل معناها ما لا تحتمله، وتُبنى عليها أحكام لا يقرّها النصّ نفسه لو قُرئ كاملاً. فإذا كان هذا يحدث داخل نصّ إلٰهي محكم، فكيف بكلام البشر؟

لماذا نفعل ذلك؟

برأيي هناك أربعة دوافع رئيسة تُفسّر الظاهرة:

  1. سهولة الحكم السريع
    السياق يحتاج قراءة بينما البتر فيحتاج نقرة.
  2. رغبة التصيّد
    منصات التواصل الاجتماعي تكافئ السخرية، لا الفهم.
  3. التأكيد المعرفي
    نبحث عما يؤكد الصورة التي كوّناها مسبقًا، لا ما يغيّرها.
  4. تشييء الإنسان
    حين نرى الشخص «رمزًا» لا إنسانًا، يسهل بتر كلامه وتحريفه.

الثمن الذي ندفعه جميعًا:

  1. نخسر الحقيقة
    نعيش على قصاصات مشوّشة، لا على فهم ناضج.
  2. نخسر الثقة
    لا أحد يجرؤ أن يتكلم لأنه يعرف أن كلامه سيُستخدم ضده.
  3. نخسر العمق
    نتحول إلى مجتمع يتعامل مع الأفكار كما يتعامل مع المقاطع القصيرة: سريع، انفعالي، بلا قراءة.
  4. نخسر التراحم
    الاقتطاع يجرد الإنسان من سياقه، وبالتالي من إنسانيته.

الخاتمة

كل ما طلبه صديقي — وكل ما يطلبه أي إنسان — ليس التصفيق، ولا الاتفاق، بل الإنصاف:
أن يُفهم قوله في سياقه، لا في مقطع بُتِر منه. ولو أردنا أن نبدأ بإصلاح ثقافتنا، فالخطوة الأولى بسيطة:
اسأل عن السياق قبل أن تصدر حكمًا.
فالسياق ليس «تفصيلاً مكمّلاً»…

بل هو المعنى نفسه.

شؤون اجتماعية

عمر وليد عاشور Twitter

معماري وأخصائي تصميم، مؤسس دار عمر عاشور للثياب، وعضو مؤسس في جمعية الأزياء السعودية. مهتم بقضايا اللسان العربي وتحولات المشهد الثقافي.


المنشورات ذات الصلة

للأعضاء عام

نصيحة للآباء: اقبل كل أنواع الهداية من والديك!

خصوصًا إن كانت للأحفاد.

نصيحة للآباء: اقبل كل أنواع الهداية من والديك!
للأعضاء عام

تسلية الرجل في محاولة الإنجاز وليس الترفيه.. ربما!

مقالة بونص بمناسبة عيد ميلادي: عندما يقفز العمر فجأة من العشرين إلى التاسعة والثلاثين.

تسلية الرجل في محاولة الإنجاز وليس الترفيه.. ربما!
للأعضاء عام

جمال الأصدقاء عديمي القيمة

كلما زاد عددهم زادت سعادتك.

جمال الأصدقاء عديمي القيمة