لماذا تركت البودكاست؟
أهيم وأُفتن في جهود الكُتاب وإنتاجاتهم الأدبية والبحثية والملحمية، أكثر من قدرة مقدّمي البودكاست على السكوت والإنصات دون كحّات.
من أغرب الأمور التي تكررت معي مؤخرًا هي تعريف بعض الأحبة لي أنني مقدّم بودكاست؛ وهو ما توقفت عنه منذ قرابة العام (بعدما نشرت خمس عشرة حلقة فقط)، مع عدم تعريفي ككاتب (أكتب المقالات والكُتب منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا بانتظام)، أو كرائد أعمال بدأت مسيرتي منذ عام ٢٠٠٨م (أي قبل سبعة عشر عامًا)، إلا كاستكمال ثانوي للتعريف، بعدما يرون تعابير وجهي ليكملوا: «وكمان كاتب!». كل ذلك مع حرصي على تعريفي في بايوهات التواصل الاجتماعي بوضوح: «كاتب وشريك في منشآت صغيرة».
ربما وجد الأحبة تعريفهم لي «كبودكاستر» أكثر إغراء لهم ولمن سيعرفني عمّا قريب لأسباب معروفة.
هذا التعريف يُشعرني بالضيق لأكثر من سبب، وهي نفس الأسباب التي أسهمت ربما بتطليقي للبودكاست (مؤقتًا أو للأبد).
أولها – وأرجو ألا يكفّرني أحد – أن عمل مقدّم البودكاست في عالمنا العربي - على أقل تقدير - لا يخرج عن كونه شخص يجلس ليسأل أسئلته لضيفه وينطم حتى يكمل الضيف إجاباته، ولا يعترض، ولا يعارض ولا يقاطع، ولا يعطي آراءه الشخصية حتى وإن كانت منطقية، حتى وإن كان الضيف ليس ذو سالفة! وهذا قالب وسياق لم أرتضيه لنفسي. إلا أن المتلقي العربي بالمجمل يرى أن الضيف هو من يملك الحق بإمساك الميكروفون لتسعين بالمئة من اللقاء، ولا يود أن يستمع لتحديات المستضيف وأسئلته مهما كانت مشروعة أو مجدية. ولذا قررت مؤقتًا أن أكتفي بظهوري كضيف يتفلسف على الخليقة دون أن يقاطعني المستضيف كثيرًا، مستغلًا ما ذكرته لصالحي، ومدّعيًا أن لدي شيئاً أقوله.
ثانيًا، أن هناك فرق جوهري بين مهنة مقدم البودكاست التي تستدعي – بعيدًا عن الأمور اللوجستية – تحضيرًا وبحثًا خفيفين، بالمقارنة مع حِرفة صعبة نسبيًا كالكتابة، وبالأخص كتابة الكُتب، وأميل شخصيًا إلى الوقوف على الطُّرُق الصعبة والشاقة التي تتطلّب البحث والتأني وشيء من الانعزال، وعدد كلمات هائل! لأنني على قناعة بأن هذه الجهود هي ما تُغير حياة الآخرين أو شيء منها على المدى الطويل. وهي ما تغير شيئًا ما بداخلي، فالكاتب يتأثر قبل غيره بما بحث وكتب.
ثالثًا، محبتي الطاغية للكتابة والقراءة أكثر بكثير من الحِرص على الظهور الإعلامي، الذي قد يُكسِب صاحبه بعضًا من الشهرة دون قيمة اجتماعية أكبر. القراءة والكتابة سلوكيات تسهم في تغيير من يمارسهم شيئًا فشيئًا ليكونوا أشخاصًا أفضل. لم أود يومًا أن أكون مشهورًا بالمعنى الحرفي، ولكنني حريص كل الحِرص على أن يكون لدي شريحة من القرّاء المخلصين والمتفاعلين، وهم من أبحث عنهم وسط الظُلام وبين الزحام. وأود أن أكون صديقًا لهم جميعًا إن استطعت.
رابعًا، قرأت مقالة الصديق العزيز فؤاد الفرحان بعنوان «القناعة كنز عظيم، هل يهم إذا كانت بإرادتك، أم لأنك عجزت أن تستبد؟» وعندما توقّفت وفكّرت كما فعل هو ومن ذكره في مطلع المقالة (ديريك سيفرز) فإنني وجدت أن معظم أبطالي الشخصيين هم في الحقيقة أيضًا كُتّاب، وليسوا مقدّمي بودكاست. بلا شك أنا أحد المعجبين بكثير من المقدّمين في العالم العربي وخارجه، ولكنني لن أخاطر بتصنيف أحدهم كبطل شخصي أود أن أكون مثله في يوم من الأيام. وبصدق، أود أن أموت ويذكرني الناس ككاتب، ويذكرون أكثر كتاباتي التي ربما غيّرت شيئًا فيهم. أهيم وأُفتن في جهود الكُتاب وإنتاجاتهم الأدبية والبحثية والملحمية، أكثر من قدرة مقدّمي البودكاست على السكوت والإنصات دون كحّات. وأؤمن أن التاريخ سيذكر أعمال الكُتاب – حتى رغم وجود ثورة الذكاء الصناعي – أكثر من اليوتيوبرز والبودكاسترز.
خامسًا، دوري كشريك فعّال في أعمالي التجارية أصبح يعطيني وقتًا محدودًا لاهتماماتي الأخرى، فإن كانت لها الأولوية القصوى لكي أعيش مع أسرتي حياة كريمة عفيف اليد، فإن أولويتي ستتبدل مع الوقت لتنصب على المزيد من الجهود الكتابية التي لطالما حلمت أن أكون متفرغًا لها مثل الكثيرين من الكُتاب. وقد وجدت أن أعظم الكُتاب المعاصرين والذين أقتدي بهم، لا يملكون أي برامج بودكاست أو ظهورًا إعلاميًا غزيرًا ومنتظمًا على نحو أسبوعي، وكم خشيت أن أصبح مقصرًا لما أحب في سبيل ما يحبه الآخرون هنا. أعلم تمامًا أن شريحة متابعي البودكاست أضعاف القرّاء المنتظمين، إلا أن هذا السبب ليس كفيلًا ليجعلني جاحدًا للكتابة، وقبلها للقراءة.
نشر الكاتب الأنيق كال نيوبورت كتابه الخامس العظيم «العمل العميق» عام ٢٠١٦م، ليقرر بعدها أن يصبح مقدمًا منتظمًا لبودكاسته الخاص إضافة إلى عمله كأستاذ جامعي ومدون، وبالكاد اليوم أصبح كاتبًا للكتب! وقد أصابني الحزن بعدما قرأت كتابيه الأخيرين (عالم من غير إيميلات والإنتاجية البطيئة) اللذان كانا بمنزلة سقطات؛ في المقارنة بكتبه الأولى التي كُتبت بروحه بدلًا من أياديه. وافترضت أن السبب الحقيقي خلف هذا الأمر هو عدم إخلاصه لحِرفته الذي صنعت منه أحد أبطالي وبطلًا لآخرين، ليجحدها ويتّجه أكثر للظهور البودكاستي الغزير. مثله أيضًا الكاتب المثير للجدل مارك مانسون الذي أصبح بالكاد ينشر كتابًا كل خمسة أعوام، هو مشغول اليوم بنشرة بريدية فقيرة كل يوم اثنين، ومحتويات مختصرة مشتتة وغزيرة على اليوتيوب وحساباته على التواصل الاجتماعي، وبودكاسته الذي قررت التوقف فيه عن الاستضافات بعد أن أجرى خمس وسبعين حلقة ليتّجه إلى صنع فيديوهات «سولو» بدلًا من اللقاءات. هذا الكاتب هو نفسه الذي كتب مقالات مطولة متفحّصة عن ضرورة تركيزنا غير المنقطع والابتعاد عن المشتتات وفهم النفس البشرية التي يجب أن تكترث لما هو أهم، وبعد كتابيه اللذان أصبحا ملأ السمع والبصر «فن اللامبالاة» و«خراب».
رايان هوليدي، الذي كُنت أجد فيه أحد أهم الكتّاب الشباب بين جيله، تحوّل إلى يساري مسعور، شديد الغرور والاعتداد بنفسه، قليلًا ما يبتسم، وغارقًا في تسويق «الرواقية» على نحو مبتذل عبر كتاباته، ومقاطعه التي أصبحت مختصرات لثلاث بودكاستات يقدّمها سوية. كما أن كتبه الأخيرة، يستطيع أي شخص أن يكتشف بسرعة أنها كُتبت بأرجله بدلًا من يديه، كما يصف أحد أصدقائي العاملين في الصحافة الصحفيين المستعجلين؛ لا تحمل نصوصًا أو أفكارًا عميقة بقدر تجميعات لقصص سطحية واقتباسات مختزلة. قررت أن أنهي متابعتي التامة له ولكل جهوده، بعد سنوات من الولاء. لا أعرف إن كان ميله للبودكاستات سببًا خلف هذا الهبوط، إلا إنني أعرف أن ثلاثة بودكاستات ستسهم بلا شك في تعطيل كثير من الأمور الأخرى، والكتابة العميقة بلا شك ستكون إحداها.
من المعيب أن يخاطر الإنسان باعترافات ومواقف كبيرة أمام الملأ، ولا يلتزم بها، وما زلت خجلًا من الوقوف على اتخاذ هذا القرار وكتابة مقالة مطوّلة عنه تحمل عنوانًا قد يكون جريئًا بالنسبة إلى القارئ المخلص. إلا إنني أمارس اليوم ما لا قد أُجيده في حلقات البودكاست؛ الصراحة الفاضحة، والجرأة التي قد تجعلني أندم عليها، وأؤاخذ عليها في المستقبل.
ومن المعيب أيضًا ألا يعود الإنسان إلى طريق مصلحته وخيط الصواب إن كان هو الأحق بأن يتّبع. وحتى ذلك الوقت، لا أعرف طريقًا مختصرًا يجعل البودكاست مغريًا بما يكفي للانضباط في حِرفته.
يخبرني الصديق العزيز عبد الله العلاوي (وهو أحد اليوتيوبر السعوديين وصانعي المحتوى اللذين أُكن لهم احترامًا خاصًا لجودة فيديوهاته ومحتوياته القيّمة) أن الأمر – شبه الوحيد - الذي يجعل من أي بودكاست ناجحًا هو فقط: الاستمرار. الاستمرار بغض النظر عن الجودة، وعن المحتوى، وعن الضيوف. الاستمرار لفترات طويلة جدًا هو الذي قد يسهم بجعل أي بودكاست ناجحًا، هذا الأمر في رأيي ينطبق على كثير من الفنون، وفي الكتابة على وجه الخصوص (على الأقل في تجربتي)، إلا أن الشيء الوحيد الفارق في الكتابة هو ضعف الحصول على مكاسب قصيرة الأمد أيًا كان نوعها، أو مكاسب مادية طويلة المدى. يبحث الكاتب أكثر عن خلواته ليكتب المزيد، في الوقت الذي يبحث فيها البودكاستر عن رعاة. يضطر البودكاستر أن يضحي حينًا، ويسيطر حينًا آخر من أجل البقاء، بينما يحتاج الكاتب نوعًا آخر من الصملة، التي تُحاك وتُبنى داخله دون تأثيرات خارجية. يظل الكاتب يبحث عن حظه واهتمام قارئيه به، وهو يعلم يقينًا أن ما يقوم به يزاد صعوبة يومًا بعد يوم. البودكاستر يعيش مع قائمة خفية طويلة من الضيوف المحتملين، يحاول أن يقنع نفسه وفريقه بأن كل ضيف فيها يستحق الاهتمام أكثر من الذي قبله. تتمثّل صملة البودكاستر في قدرته على الصبر في إبعاد من لا يستحقون الظهور بشكل مستمر، ومحاولة أخرى جدية إقناع أصحاب الكفاءة بأنهم أصحاب كفاءة، وعليهم الظهور مع بعض الترجّيات وبعضًا من التملّق.
تتشابه حياة الكاتب والبودكاستر بأن الاثنين يعيشون حالة من الصراع المستمر. الكاتب يصارع نفسه ومزاجه الذي لا يخرج من بين أضلعه وعقله حتى يخرج بقطعته التالية المكتوبة، بينما يصارع البودكاستر ليقنع فريق إنتاجه، وضيوفه، ومعلنيه، ولوغاريتمات اليوتيوب بأنه يستحق مساحة إضافية لحلقته القادمة. كلاهما يثابران، وكلاهما يحتاجان إلى الوقت.. كثير من الوقت للوصول. وإن كان وصول البودكاست أسرع وأقوى على المدى القصير، فإن وصول الكاتب أبطأ وأكثر مللًا على المدى الطويل، إلا إن فرصته أكبر في الخلود.
أرى ذلك اليوم – وهو بمثابة حُلم – يقترب أكثر. ذلك اليوم الذي أملك فيه الكثير من الوقت والمساحة لكي أركّز على الفنون من أجلي، ومن أجل بناتي، ومن أجل كل شخص يهمه أنني كتبت شيئًا مفيدًا في يوم من الأيام. وعندما يأتي ذلك اليوم، الذي أتخفف فيه من العمل التجاري مثلًا، سيكون – ربما- للبودكاست مساحته الخاصة في حياتي.
وحتى ذلك اليوم لا أعرف إن كان هناك خط عودة.
حتى ذلك اليوم، سأقف في المنتصف ناظرًا إلى الكتابة، ومعطيًا ظهري للبودكاست.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.