تخطى الى المحتوى

لماذا لم يشجع القرآن على الحب؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
2 دقائق قراءة

أنا من المدرسة التي تؤمن أن كل علاقة في هذه الدنيا مشروطة بأمر ما، ولا يوجد حب يستمر بين إثنين أو بين أمرين دون عملة مدفوعة.

عملة الصداقة هي الاهتمام والوقوف عند الأزمات والمراعاة والرحمة والود وقبل كل ذلك .. النية الحسنة.

وعملة العشق (ربما) هي العطاء … والصبر وتحمل العيوب.

يذهب الموظف إلى عمله ليس بالضرورة حباً لرئيسه أو شركته، وإنما مقابل الراتب، والذي يجعله يصبر على كل أمرٍ سيء آخر، حتى يستوعب أنه أصبح مجرد آلة تؤدي العمل، فإما أن يستسلم ويبقى في عمله، وإما أن يترك.

الحب … (كشعور) ينقص ويزداد ويتأثر باختلاف الظروف والحاجة إليه. فعندما تُحبني إنسانة ما في هذا العالم، سينقص هذا الحب تدريجياً عندما أصفعها (كف) على وجهها عدة مرات، وسيختفي تماماً بعد العديد من التصرفات السيئة التي ستخرج مني. وأيضاً الصداقة بين كل طرفين، ستنقص تدريجياً عند بُعد المسافات، وربما تختفي عند ازدياد سوء التصرفات من أحدهم أو عند تقلب المزاج بشكل مستمر، أو وإظهار عدم الاكتراث حتى تصل إلى تلك الدرجة التي يكون فيها الانفصال أفضل لجميع الأطراف.

في أهم العلاقات الإنسانية وأسماها في هذه الحياة، لم يراهن القرآن على الحب، وإنما راهن على أمور في يد الإنسان.

في حالة التزاوج مثلاً راهن على المودة والرحمة في قوله تعالى «وجعلنا بينهم مودة ورحمة …» وفي العديد من المواضع التي تخص بر الوالدين لم يحث القرآن ولو لمرة واحدة مباشرة بضرورة حبنا لوالدينا (ولو أن الحب والبر أمران مختلفان تماماً في رأيي، وربما يطول شرح هذا الأمر هنا).

يضع القرآن العلاقات الاجتماعية في إطارها الصحيح والموضوعي دون أي مبالغة أو عاطفة لا يستطيع الإنسان العادي التعاطي معها، فلم يراهن على حبنّا لزوجاتنا، بل راهن على «المودة والرحمة» وعند الوالدين «بالبر والإحسان». ولعل قرأتي الشخصية -دون إفتاء- أن المودة والرحمة سلوكيات يمكن للإنسان حتى عديم الإحساس تبنيها، فلا يمكنك مثلاً أن تُلزمني بحبك، ولكن أنا ملزم (إنسانياً) معظم الوقت وعند معظم الظروف أن أحترمك، وأن أعاملك بود، وقبلها أن أكون رحيماً عليك وتكون رحيماً علي كما أتوقع منك.

يتحول الشغف والحب بعد مراحل البداية إلى أمر آخر نطلق عليه مجازاً «العِشرة» ويحسم تسميتها القرآن بـ «المودة والرحمة». ولا أستطيع في مثال آخر أن أطلب من إبن أن يحب والده القاسي والمجرم والمهمل حباً غير مشروط، لكن يمكن لي أن أستخدم بطاقة «البِر» لأجبره على مداراته والتعامل معه بود ولطف. ولعل مأخذي الشخصي هنا تاريخياً واجتماعياً أن الآباء بالغوا في استخدام بطاقة البر لتمرير ما يرونه مناسباً في حياة أبنائهم بذريعة «أن البر سيقودهم إلى الجنة، وقبلها إلى التوفيق».

أزعم شخصياً أن علاقتي بوالداي رائعة ولله الحمد، أحبهم جداً … ليس لأنهم أبي وأمي بالدرجة الأولى، بل لأنهم بالفعل أغدقوني بالحب والحنان والتربية الحسنة والمال والاهتمام (العملة التي استخدموها في علاقتنا) حتى اللحظة، وسيظلون كذلك لبقية العمر. أحبهم لشخصهم، وأبرهم لأنهم والداي!

أجد شخصياً أن العلاقة الإنسانية الوحيدة غير المشروطة هي علاقة الأبوين تجاه أبناءهم (وليس العكس)، بل أن الأمر طال لأن ينبهنا الله في كتابه «إنما أموالكم وأولادكم فتنة فاحذروهم …». لا أعلم ما هو السر الإلهي الكبير خلف هذا الأمر، فبصدق تحولت حياتي تماماً لتدور حول مصلحة بناتي، ولا أعرف لماذا يزداد هذا الحب يوماً بعد يوم، لكن ما أعرفه بالتأكيد أن تنبيه القرآن والمشاعر التي أشعر بها شخصياً خارج المشاعر الإنسانية الاعتيادية التي تتطلب الموضوعية بالتعامل معها.

أجد أن علاقة الحب بيني وبين أي أمر أهتم له، تعود إلي في المقام الأول، فإن أهملت .. سيهملني الأمر/الإنسان الذي أهتم له والعكس صحيح، وبالتالي ستبدأ العلاقة بالبرود، وسينتهي الحب. جربت هذا الأمر مثلاً مع مهنة «الكتابة» ومع بعض الأصدقاء القدماء وحتى مع سياراتي، وقد وجدت بالفعل أن الاهتمام المستمر ربما يكون العملة الأهم في مداراة شمعة الحب واستمرار العلاقة والعطاء.

لاحظ أنني تطرقت لمداراة الحب وليس لظهوره، لأنه أصلاً شعور في أغلب الحالات لا يكون بيد الإنسان، ولكن مداراته والتي تتحول لأمر آخر فيما بعد (المودة والرحمة ربما) هي التي ستكمل اشتعال الشمعة.

أختم هذه الكلمات والتي حاولت أن أبتعد فيها عن التطرق لأمر ديني بالدرجة الأولى ليكون أمراً نفسياً، بأن السر خلف نجاح العلاقات مع أي شيء آخر يكمن في كلمة «المُداراة» … أو «المودة والرحمة!» … مع أي شيء وأي شخص.

 

سيكلوجيا الإنسانشؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

عن العيش كشخص عادي في المنتصف

أحد أصدقائي العزيزين والمسؤولين في شركة «المحتوى» في البودكاست أخبرني الجملة التالية: «أداؤك عادي، ولا تملك قبولًا كبيرًا كمستضيف». لم يقل أداؤك سيئ، ولم يقل أداؤك خارقاً للعادة، قال بما معناه: «أنت مستضيفٌ عادي». «العادي».. هو شكل معظم حياتي. وهو موضوعي اليوم. وُلدت أصغر إخوتي، ولكنني اعتدت

عن العيش كشخص عادي في المنتصف
للأعضاء عام

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟

مقالة ضيف

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟
للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟