تخطى الى المحتوى

الرجال الحسّاسين

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
الرجال الحسّاسين
Photo by Mariya Georgieva / Unsplash

يغرد أحد أصدقائي في عيد الفِطر المبارك الماضي تغريدة ينتقد فيها تعليقات البعض السلبية التي تحدث في زيارات العيد على أشكال الآخرين، على غِرار «تخنان، نحفان، صلّعت، إلخ»؛ معبرًا أن هذا الأمر فيه عدم لطافة وثقل دم ليس لهما أي داعٍ.

وقد قام كاتب هذه السطور بالتعزيز له وإعادة التغريد مع تعليق على غِرار: «أتفق تمامًا». لتقوم إحدى السيدات بالرد علينا نحن الاثنين:

«استحوا على وجيهكم إنت وياه، رجال بشنبات تغردون مثل هذه التغريدات؟».

حتى هذه اللحظة لا أعرف لما صدمني هذا الرد. هل لأن السيدة فعلًا صادقة وعلينا «أن نسترجِل أنا ويّاه» ونبتعد عن التحسُس العام الذي ليس لهُ داعٍ هو الآخر؟ أم أن صدمتي كانت استنكارًا على ردها القاسي؟ أم اعتقاد يقف في المنتصف بينهما، وأميل إليه اليوم: بأن مجتمع الرجال في عصر السيولة أصبح أكثر حساسية من أي وقتٍ مضى فعلًا.

يعتقد بعض النفسانيين (منهم روبرت قلوفر) بأن الرجال بشكلٍ عام عندما يزيد احتكاكهم اليومي من ناحية اجتماعية بالنساء (على أرض الواقع أو على التواصل الاجتماعي) فإنهم لا يتأثرون فقط بأفكار الجِنس الآخر واهتماماتهم، بل حتى ببعض الطِباع (إن افترضنا أن رهافة المشاعر سمة أكبر عند النساء من الرجال). ويُشجِّع على فكرة أن يقضي الرجال معظم أوقاتهم الاجتماعية والترفيهية مع بعضهم البعض، أكثر من حِرصهم على الاختلاط بلقاءات منتظمة ومستمرة بالجنس الآخر، حماية لهرمون «التستوستيرون» داخلهم. ولكيلا تتحول فجأة مشاكل النساء وهروجهم إلى هروج ومشاكل متعلقة بهم.

كاتب هذه السطور لا يود أن يقف مع هذا الرأي ضده بالمُجمل حتى لا يستقبل نوعًا من التوبيخ الذي لا يرضى استماعه.

على كل حال، يشير (قلوفر) بأن كثيرًا من الرجال في مجتمع الولايات المتحدة مثلًا والذين ولدوا في الخمسينيات (Baby boomers) أصبحوا حسب وصفه ضمن فئة الـ Nice Guys، وهم فئة الرجال الذين يحرصون على إرضاء الجميع حولهم دون الاكتراث لحاجاتهم النفسية. يحبهم الكل من أصدقاء وزملاء وأقارب ورؤساء، بما فيهم زوجاتهم للُطفِهم البالغ وطيبتهم، لكن دون امتلاكهم حسّا عالٍ في القيادة، أو الحزم، أو الحسم، أو الحضور، مع تشكّل أزمة نفسية حقيقية (مثل عدم التعبير على الرغبة في الجنس أو التعبير عن المشاعر خوفًا من ردة فِعل الشريك). ويعتقد أن نتيجة هذه الشخصية كان سببها كونهم تربوا على أيدي أمهات عزباوات (Single Moms) بشكلٍ غير اختياري، دون وجود رجال أقوياء في محيطهم، مع افتقار واضح للقدوة الرجولية. لأن تلك الفترة كانت قد اتسمت باختفاء الكثير من الرجال بسبب الحروب (الحرب العالمية الثانية قبلها، وبعدها حرب فيتنام)، ليكبُر الرجل محاولًا إرضاء الإناث أكثر من الحِرص على الالتفات للمشاكل الذكورية التقليدية. يكبُر محاولًا أن يجعل والدته التي ربته سعيدة، «ووالدته» الجديدة التي ارتبط بها سعيدة أيضًا.

يتصف مجتمع الرجال بالمُجمل بتنافسية -غير معلنة- حادة. ولذى تجد لدينا الكثير من بشكات البلوت تحمل داخلها أصواتًا مرتفعة، وتنمرًا غير متوقف، ومحاولة جدية لاستجلاب أقصى درجات الابداع في الرد والتريقة، وشحذ ذخيرة الكلمات القاسية بين الجميع. يعي الرجال هذا الأمر تمامًا، ولذا يشعر كثير منهم بحس ذكوري عالٍ أثناء الجلسات الاجتماعية وبعدها، خصوصًا إن حصل على بعض الانتصارات الكلامية ضد منافسيه.

كما أن نفس الأمر يجده الرجال في مجتمع النوادِ الرياضية، حيث يستعرض الكثيرين عضلاتهم وصراخهم وهم يحملون المئة كيلو جرام من الأثقال كنوع من التغلّب الضمني على الرجال الآخرين وعلى أنفسهم في المنافسة. هذا المجتمع الذي لا يشعُر فيه المشترك حديثًا بأي نوع من أنواع الراحة، قد يكون أحد الأعباء النفسية التي تتخزن في عقله ولا تجعله يواظب على الحضور، لأنه في مكان يشجّعه على الالتفات على عيوبه الجسدية أكثر من الالتفات على فكرة أن بإمكانه أن يكون مثل هذا الوحش الذي يقف بضعة أمتار عنه وهو يحمل عشرات الكيلوجرامات من الحديد بيدٍ واحدة.

تُسقِط «فاليري» أخصائية التغذية المشاغبة في تويتر تهزيئًا مبطنًا على الرجال (وهي من سُكان كندا) بقولها «كرش حوامل، وأيادِ نحيلة. هو شكل الرجل المعاصر» في إشارة لنمط الحياة السيء لهم، وأيضًا، عدم رغبتهم كما في السابق بتناول حصة أكبر من البروتين الحيواني أو اللحوم الحمراء بالتحديد، والذي لطالما كان يفضّله الرجال على النساء؛ فانتشار «النباتيين» من الرجال اليوم بلا شك، أصبح أكثر من أي وقتٍ مضى، ونفس الأخصائية تعتقد أن الأمر أصبح «أشبه بالدين» في تغريدة لاحقة معقبةً بتهكّمها.

أعرف تمامًا أن اللُطف ضروري في أي علاقة صحية متوازنة بالنسبة للرجال. بين الرئيس ومرؤوسيه، بين الرجل وعائلته وأصدقاءه، لكن المشكلة تتشكل عندما يكون اللُطف هو طريقة التعامل الوحيدة التي لا يعرف غيرها الرجال طيلة الوقت وتحت أي ظرف، حتى تتحول إلى حساسية مفرطة تُهدر حقه وحضوره، يصمت أمام من يستهزئ به، ولا يرد على من تجاوز حدوده عليه.

وأعرف أيضًا أن الرحمة لا تأتي إلا من الأقوياء، الذين يرحمون بدافع الخيار والتأكد أنهم يستطيعون أن يرحموا الآخر. أما الرجل الرحيم الذي لا يملك أصلًا أي خيار، فهو (ويؤسفني القول) أنه لا يُحسب ضمن فريق الأقوياء. فالرحمة لا تأتي من شخص لا يملك خيارًا في إعطائها أو أخذها.

حساسية بعضنا نحن الرجال ربما تحتاج إلى بعض الاسترجال؛ الاسترجال بلا شك ليس البطش، بل عكسه تمامًا، وتحتاج بعض التأقلم والاقتناع بأن العالم ليس على مزاجنا لنحكمه ونجبر الآخرين بأن يقولوا أو لا يقولوا ما نريد. التوازن واستشعار الحكمة بأننا في عالم ليس مثالي هو الأمر الأهم، مع الإبقاء قدر الإمكان بأعلى رصيد من التأدب واللطف الذي يحبب الآخرين لنا. ولكن عندما يجد الجد، فإنه من الأجدى أن يجعل سلاح الرد بالكلام مصقولًا. فالدفاع عن النفس، ليس كالهجوم.

سيكلوجيا الإنسان

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع