تخطى الى المحتوى

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟

مقالة ضيف

هاشم النابلسي
هاشم النابلسي
1 دقيقة قراءة
عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟
شهاب رحمه الله

مقدمة

كان تعبير أخي العزيز هاشم النابلسي في رسالة مقتضبة عبر الواتساب عن فقده الجلل للإبن شِهاب ملامسًا للقلب. حاولت تشجيعه بكتابة نص طويل نسبيًا، لعلّه يواسي فيه نفسه وكل من يقرأه. يعلم المقرّبين أن حساسيتي عالية تجاه أي فقد، لتكون قصة اليوم فيها شيءٌ من شد الأزر. وها هو أخي هاشم يشاركنا تأملاته والعبر - كما يحب أن يسميها - بعد مرور أكثر من شهر على رحيل ابنه الأصغر شِهاب رحمة الله تغشاه.

أحمد


نحدث أنفسنا كمجتمع عن السعادة والغرض من الحياة. لا نعيش بشكلٍ عشوائي على الأرض بل نقول لأبنائنا نحن خلفاء الله في الأرض. نحن هنا لنصنع الفرق، ونسهم بالإضافة؛ بدل أن نكون عبئًا على حياة الآخرين. وفي هذه السطور أشارك بتعجب بعض العبر الخفية من ابني الصغير شهاب الذي توفي في حادث يوم الجمعة 30 أغسطس 2024 الساعة 7:16 مساءً قبل أن يكمل عامه السابع.

قبل دقيقة واحدة من وفاته كان يلحق بأخته ياسمين بالدراجة، ويقضي وقتًا رائعًا، وكأنه يعيش أبدًا. تقول لي ابنتي أنها تعلمت إن قدره مكتوب، وانتهت حياته حتى لو كان في سريره تلك اللحظة.

قبل سبع دقائق من وفاته، رأته أمه سعيدًا، وهو يقول لها: انظري ماذا اشترى لي يوسف (أخوه الأكبر) من البقالة! كانت آخر هدية. هذه الهدية ‏على بساطتها فأن يوسف كان أسعد الناس بها، وكانت آخر عهده بأخيه. فما أجمل العطاء، حتى وإن كان عبوة بسكويت لم تفتح بعد.

كل نفس لن تأخذ إلا رزقها المكتوب؛ فلما نتعجل الرزق إذا كنا لن نأكل لقمة إلا إذا كتبها الله لنا.

قبل ذلك بعشرين دقيقة، انضم إلي في صلاة المغرب، وسألني إذا كان يجب أن يحضر سجادته الخاصة أم يصلي بجانبي. يا تُري، ما الخشوع الذي سيأتينا إن كنا نصلي، ونشعر أنها ربما تكون آخر صلاة؟ هل سنؤخِّر صلاة حتى لا ندركها؟

وقبل أذان المغرب، دفن الطائر الذي وجده في شرفتنا، كان شديد الشفقة عليه. وصورته أمه وهو يصب الماء ليحسن دفنه، وهي لا تدري إننا من غدنا صببنا الماء على قبر عصفورنا شهاب؛ وتساءلنا من سيكون رحيمًا بالعصفور أكثر من الله سبحانه، الذي أرانا حنان ولدنا على عصفورٍ بالكاد تعرّف عليه، فكيف برحمتها علينا، وهو الذي خلقنا؟

شهاب أثناء دفن العصفور

وفي حوارنا بالسيارة، ونحن عائدون إلى البيت سألنا الأبناء من يشبه والده ومن يشبه والدته. من نابلسي أكثر؟ ومن منكم جمجوم أكثر؟ فإذا به يقول أنا شهاب النابلسي. طبعًا قالها على طريقته الخاصة وأضحكني أنا وأمه معًا؛ سبحان من أعطاه الله رقة في كل كلمة يقولها، زو كما كُنّا نسمعها. قبلها في المطعم، وأثناء تناول الغداء، تنازع معه أحد أقربائه فباعدت بينهما، ليأتيني شهاب بعدها بدقائق يطلب مني دعوتهم لبيتنا لاستكمال اللعب، متناسيًا ما حدث قبل لحظات فقط؛ هل حاول دون أن يدري أن يعلمنا التسامح باستعمال صفاء القلب الذي حباه الله إياه؟

قبل الحادث بثمان ساعات، كان أول من استعد لصلاة الجمعة في بيتنا وأول من ارتدى ثوبه، وأقفل أزرار أكمامه بالكبكات كعادته كل أسبوع. التقطت زوجتي لنا صورة تذكرنا بتوقيره لهذه الشعيرة لنقتفي أثره كل أسبوع.

بعد الاستعداد لصلاة الجمعة

وقبل ذلك بيوم أعد مع والدته كعكة التوت الأحمر، وما ألذّها كانت من كعكة، كنت أسأل نفسي هل أشاركها مع أحد أم آكلها كلها وحدي؟ ذهبنا في رحلة برية بعد هطول المطر، وبينما نسير في الوديان حاول صديقي حاتم تحذيره من المشي على حافة الطريق فرد عليه شهاب قائلاً: «لا مكافأة من دون مغامرة» (No Risk No Reward).

No Risk, No ٍReward

وكم كان جميلاً منه تقدير الوقت مع والديه بالدقيقة والثانية، إذ كان يفضل صحبتي عن الانشغال مع الأطفال في سنه، ربما كان يعي أو لا يعي إن الوالدين أساس رضا الله سبحانه، على كل حال، أصبحت افتقده الآن كلما خرجت مثقلاً بذكرياته للجري أو السباحة، وأحمد الله الآن على الدقائق مع أبي وأمي، وأسأل الله أن يبارك لنا فيهما ويسعدهما في الدارين.

لا أدري إلى متى سأعود بالذكرى المؤرقة، إذ يمكنني سرد ذكريات كل واحدٍ من أبنائي وابنتي عودة إلى يوم ولادتهم، ولكن ما الفائدة ومالذي أجنيه من ذلك؛ هل هدفنا في الحياة أن نسترجع؟ أم لنعيش بهدف؟

لماذا نحن هنا؟ هو السؤال الجديد الذي ابحث عن الإجابة عليه. لماذا نتزوج؟ لماذا نسافر؟ لماذا نستيقظ كل يوم، ونذهب إلى العمل؟ ولماذا نصلي إلى الله، ولماذا نحب بعضنا البعض؟ لماذا نساعد الناس؟ لماذا نشعر بهذا الحزن؟ لماذا نتنافس؟

تأمّلت أن أفعالنا لا تخرج عن ثلاث: نيّات، وأعمال، ونتائج.

علمتني هذه الأزمة التفريق بين القدر والحادث (أو الأسباب). وفاة ابني شهاب هو القدر وإرادة الله، حتى لو كان قاعدًا في البيت، أو ممدًا على سريره كما قالت ابنتي ياسمين. نحن نعقد النية تجاه كل ما نود أن نفعله في المستقبل، ونبذل الأسباب، إلا أننا لا نملك النتائج، ولا جزءًا طفيفًا منها. وردة فعلنا حمداً أو سخطاً على النتائج هي الابتلاء والاختبار الدنيوي كما أعرف. وعندما تُصلح النية لا ننظر إلى الأسباب، بل نتوجه إلى مدى قبولنا لإرادة الله تعالى في النتائج.

لعبة الحمد

بعد بضعة أيامٍ من الحزن، والنظر في مئات الصور الجميلة في هواتفنا، وفي ذاكرتنا، واستذكار حواراته البريئة معنا؛ هدأت نفوسنا، وحمدنا الله، بدأنا نعد النعم التي غمرنا الله بها؛ كيف لا، وكانت من ألعابه المحببة أن نجلس في حلقة نتبادل الأدوار في تعداد نعم الله علينا. فقد ترك لنا الله ثلاثة من الأبناء، وأخذ واحدًا، أنعم علينا بصحتهم، وبصحتي أنا وزوجتي، وجميع المقرّبين، فالحمدلله.

قضينا قرابة السبع سنوات مع شهاب في أتم سعادة من لحظة ولادته وحتى وفاته، ومما يجعله بإذن الله من طيور الجنة، فكرم الله يمتد إليه وإلى والديه، وكأنما أعطانا الله هذه الهدية والمكانة والمنزلة على غير علمٍ أو استحقاق منا. فالحمد لله.

ما أن سمع الأهل والأصدقاء في جدة بالحادثة حتى وصلوا إلى الرياض أفواجًا ليكونوا معنا. مما كان له أطيب الأثر. الحمد لله على ذلك. تعلمّت إننا نحتاج إلى بعضنا أكثر من أي وقتٍ مضى، فالحمدلله على الأحباب والمقرّبين.

ما زلنا قلقين من الأثر النفسي علينا، ولا سيما على أبنائنا. فإذا بالأبناء يسمعون من أصدقاءنا وأقربائنا كلاماً جميلاً عن الرحمة الإلهية في أثناء العزاء، وعن بيت الحمد، وعن شفاعة السبعين من أهله لمن مات من حادث كمن مات من هدم، وإذا باليوم التالي وأبنائنا يتكلمون، ويتحدثون إلينا عن القضاء والقدر، وكيف أن إرادة الله فوق كل شيء وقبل كل شيء، وإنما حصل لم يكن خطأ بل هو قدرنا، وهو مكتوب من قبل، ولا نملك إلا التسليم؛ وذهب يوسف ( شقيقه الأكبر) بفهمه إلى أن أخاه أصبح في مكان أفضل وضمن مقعده في الجنة، ونحن علينا أن نجتهد في العمل للحاق به. سبحان من عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فالحمد لله.

في القاموس الغربي يمر أصحاب المصائب بعدة مراحل، ويلجؤون إلى العلاج النفسي في غياب الجانب الروحي. تبدأ المراحل بالصدمة ثم الاستنكار وعدم التصديق، ومن ثم الدخول في الإحباط والاكتئاب، وأخيرًا النقاهة والخروج من الأزمة. وبمقارنة التعامل مع الأزمات في ديننا الحنيف فأننا أمرنا باستقبال أول المصيبة بالحمد والاسترجاع والتسليم إلى إرادة الله. وجعل سبحانه المكافآت المجزية لكل من عاد أو زار أو تواصل أو حضر جنازة أخيه المسلم مما يشد أطراف المجتمع المسلم للتعاضد والتآزر حتى يشد بعضه بعضاً كالبنيان، حتى أولئك الذين يدعون لنا بظهر الغيب.

تعلمنا من الحادثة إن قوة الثبات بعون الله تأتي من الإنسان نفسه أولاً، وممن حوله ثانياً فلا يجب أن نتحرّج من طلب الدعم من الأصدقاء والمقربين. أحياناً هم ينتظرون إشارتك وسماحك لهم، وقد يتحرجون من حاجتك إلى الخصوصية، والمشكلة أنك في هذه الظروف أنت نفسك لا تعلم ما تريد. تواصل معي الكثيرون ممن مرّوا بمثل ظرفنا، وشاركونا تجاربهم وتعاطفهم وأحاسيسهم الصادقة، وكم أسعدني كل طارقٍ ومكالمة هاتفية، وبرد علينا وقوفهم وعزاءهم ، فالحمد لله.

مضى ثلاثون يومًا، ولا أعرف كم من الوقت احتاج من أجل الارتداد والعودة إلى نفسي وهمتي. إلا أني على يقين إنني أسير في ذاك الاتجاه. الطريق وعرة، ولكن الله معنا، أعطانا أكثر مما أخذ.

قد ننظر إلى المرآة، ونرى صورة مظلمة، حزينة، إلا أن في خلفيتها صورة جميلة، مغمورة بنعم الله في الدنيا، غير ما أعده الله في الآخرة للصابرين يوفيهم أجرهم بغير حساب، فضلاً عن كفالة سيدنا إبراهيم وبيت الحمد في الجنة للصابرين، وغيرها من بوادر الفرج والنعمة، فالحمد لله.

لقد كنا نحسبه أصغرنا، ونأخذ بيده بمقياس الدنيا، ولكن مقياس الآخرة يعلمنا أنه هو الآن أكبرنا وشفيعنا وحديث أنسنا، كلما انصرف الناس عنا، وستبقى ذكراه في قلوبنا، وفي أعمالنا إلى أن نلقاه في بيت الحمد بإذن الله.

شؤون اجتماعية

هاشم النابلسي Twitter

يشغل حاليًا منصب المدير المالي لشركة ناشئة رقمية لامركزية للذكاء الاصطناعي، أحد أوائل مؤسسي مسرعات الأعمال في المملكة، مع خبرة تجاوزت العشرين عامًا في الاستثمار الجريء، مقيم في الرياض وأب لأربعة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم

مطاعم: * قبل ثلاثة أسابيع، شرّفنا أخيرًا أحد أبناء إخوتي الذي يزورنا بشكلٍ موسمي كل ثلاثة أشهر، في اجتماع العائلة الأسبوعي. وحكى لي القصة التالية: اقترح عليه صديقه أن يزوروا مطعماً يقدّم ألذ لحم أوصال في العالم، وموقعه في مدينة جدة، خلف سوق الشعلة، اسمه «مشويات بيت الشهباء»

اقتراحات أغسطس ٢٠٢٤م: ألذ مطعم لحم أوصال في العالم
للأعضاء عام

بعض الأفكار لتحدّي النفس

أسهل طريق للتخلّص من شخص مزعج، أو شكّاء، أو سلبي في حياتنا هي مقاطعته. لكنه ليس الطريق الأصح.

بعض الأفكار لتحدّي النفس
للأعضاء عام

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن

كان من المثير للدهشة بالنسبة إلي، أن اقتراحات يونيو ٢٠٢٤م قد لاقت تفاعلًا من القريبين أكثر من القرّاء، وهذا أمرٌ لطيف في الحقيقة، لكيلا يشعر المُقترِح أنه «يكلم جدار» مع اقتراحاته. عمومًا، لا يمكن أن أُعطي اقتراحات خارجية، قبل أن أحصل على شيء من

اقتراحات يوليو ٢٠٢٤م: بودكاست وكُتب وأماكن