عن الصمت العقابي من الشعور بالذنب
أنا هسيبكم بدري، خلي بالك من أمك وأخوانك، مكنتش عايز احطك في الموقف دا
مقدمة:
تلقّيت العشرات من التعليقات حول المقالة الأخيرة (هنا الصمت العقابي)، كانت تتحدّث معظمها عن ممارسة الصمت عليهم من مدراء وأزواج، والكثير من الأصدقاء، اجتمعت العديد من التشابهات بينها، إلا أن إحدى الرسائل (وهي رسالة من صديق وأخًا عزيز عليَ جدًا) كانت فارقًا؛ لأن منبعها إحساس بالذنب! وليس عقابًا أو تأديبًا.
ارتأيت أنها تستحق أن أسرد لها مقالة منفصلة. فضّل الصديق عدم ذِكر اسمه الكامل.
عزيزي أحمد،
لقد قرأت مقالاتك عن الصمت العقابي، لقد كانت مقالة ثقيلة جدًا على كما كانت على الكثيرين أيضًا، تجربتي مع الصمت العقابي مؤلمة؛ مؤلمة للغاية، كنت أبكي في كل ليلة، وفي طرقات الشوارع، وعلى كراسي سيارات الأجرة التي تقلني من المستشفى للمنزل، وعلى سلالم منزلنا التي كنت أصعدها في قرابة النصف ساعة مع أنها لم تتخط التاسعة وعشرون درجة سلم، حتى لا تراني أمي وإخواني، وأنا في تلك الحالة، كطفل رضيع يبكي بلا انقطاع بلا سبب تكاد عينيه أن تقترب من النوم لكني لم أكن أتمناه أبداً، ولا كان يزورني سوى سويعات قليلة، لا أدري لماذا أكتب لك الآن، ولكن انتابني شعور قوي بالكتابة والتعبير عن هذا الموقف بل تلك الفترة الصعبة التي انتهت بحزن شديد مستمر، وعزائي الوحيد راحة والدي من مرضه الأليم الذي استمر معه قرابة ثلاث سنوات إلى أن استقر به الحال في المستشفى منذ اليوم الأول في شهر رمضان عام 1426، خلال تلك الفترة كان والدي رحمه الله من غيبوبة متقطعة، كلما فاق منها تواصل مع الجميع بما فيهم الأهل والأطباء والممرضات أمي وأخواني إلا أنا، كان يتحاشى النظر إلى أو في عيني، استمر الأمر قرابة العشرين يومًا، وأنا أزوره يوميًا، وأجالسه طيلة اليوم حتى يحل منتصف الليل، ويطلب مني الأطباء مغادرة المستشفى لعدم سماحهم بوجود مُرافق مبيت معه، طوال العشرين يوم بلا تواصل، ولو حتى بنظرات الأعين بلا سبب واضح ومفهوم لي، وفي يوم طلب مني أن أرافقه للمشي في طرقات المستشفى بين الغرف، وكان ممنوع من المشي نظرًا لحالته الصحية إلا أنه ألح على الأطباء، ووافقوا على طلبه، واصطحبته للمشي بين طرقات المستشفى إلا أنه بعد أقل من دقيقة سقط على الأرض من التعب والمرض والإجهاد، وعندما ساعدي بالهم والوقوف مره أخري ومساعدة التمريض طلب من التمريض إحضار كرسي متحرك ليجلس عليه، وطلب مني أن أصطحبه إلى حديقة المستشفى، كل هذا، وأنا أتساءل ما الذي حدث حتى يبدأ بالتواصل بهذا الإصرار وإصرار أكبر على وجودنا منفردين وإذ به يحدثني قائلا «حقك علي أنا هسيبكم بدري، خلي بالك من أمك وأخوانك، مكنتش عايز احطك في الموقف دا، ومن ساعة ما دخلت المستشفى مش عارف أواجهك بالكلام ده، خلي بالك منهم».
هذه أول مرة أرى والدي يبكي، بل كانت آخر مرة أراه في وعيه وبعدها بساعات دخل في غيبوبة متصلة يتوفاه الله بعدها بخمسة أيام.
لم أكن لأقدر على الحياة ليوم واحد إذ لم يكن صارحني بشعوره، وكنت سأتساءل دائما لماذا الصمت العقابي، وفي هذا الوقت تحديدًا!
لم يكن صمت عقابي يا صديقي، بل كان شعور أب تجاه أسرته، وهو على فراش الموت.
ربنا يرحم والدك ووالدي، ويجعلهم من الأبرار بإذنه.
أخوك/ أحمد.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.