كلنا نعيش مع أسرارنا الصغيرة
عن أغاني التسعينيات وطلب صحنين كبدة

أقف اليوم صباحًا في الطابور أمام الكاشير في مطعم كبدة المعلّمي في أبحر، وقبل أن يحين دوري بنفرين، قام رجل ستيني يقف على جنب بالصراخ على موظّف الكاشير لأن ساندويتش الكبدة الذي طلبه قد تأخر، وما أغضبه تحديدًا أن شخصًا آخر كان قد جاء بعده، وتسلّم طلبه قبله. استمر الصراخ والتوبيخ لدقيقتين أخريين مشيرًا أن ما يحصل «قلّة أدب، وقلة حيا، وكلام فاضي» واختتم صراخه وهو ممسكًا بساندويتشه مغادرًا ومصرّحًا أن «عليه الطلاق والحرام إن عتّب باب المطعم مرة أخرى». كان المضحك بالنسبة إلي ليس المبالغة في ردة الفعل، إنما سماعي لرجل سبعيني يقف خلفي بثلاثة أنفار محاكيًا نفس نبرة الصوت بزعيقه «إيوة. لا تعصّبونا!».
حان دوري وتوقّفت أمام لائحة الطلبات محتارًا بين طلب الكبدة الغنمي أو اللحم المقلقل، واكتشفت أنهم طوّروا قائمتهم واخترعوا طلبًا جديدًا وهو: «مِكس لحم مقلقل وكبدة»، وبالطبع وقع الاختيار عليه. واكتشفت أمرًا لطيفًا آخر، وهو إضافتهم لعدة مقاسات جديدة لصحونهم (صغير، وسط، كبير). وخشية العين استقررت على الوسط.
وكما هو متوقع، كان قرار الطبق واختيار المعلّمي أفضل قرارة افتتاحي لنهاية الأسبوع، إلا أن هناك مشكلة حصلت: لم أشبع.
جلست لمدة خمس دقائق على أمل يوصل دماغي رسائل الشبع كما هو شائع لمثل هذه الحالات، وعلِمت أن لا أمل في ذلك، خصوصًا أن اليوم السابق كان معبأةً بمهامه العملية، ولم آكل فيه مثل الخلق.
نظرت إلى جميع من في الطاولات حولي خوفًا من أن يراني أحد وأنا أشرع في طلب صحنٍ ثاني، ثم خشيت على نفسي من النادل نفسه الذي أوصل لي الطلب الأول، ولهذا السبب قررت أن أستعبط وأُنادي النادل البعيد، ليرد وهو على بعد خمسة أمتار: «إيش تبغا؟»، طلبت منه أن يقترب، لأنني لن أعلن عن معضلتي أمام الملأ هكذا. اقترب ووشوشته بهدوء إنني أُريد صحنًا آخر من المقلقل صغير الحجم، ومن حسن الحظ أن النادل كان مؤدبًا، ولم يُعطني أي نظرات مريبة أو يخبر كل من في المطعم أن لدينا عميلًا مميزًا اليوم.
جاء الصحن الثاني بهدوء، وطلب أن يُزيل الأطباق القديمة – ربما – محاولًا تخفيف ما أمر به من معضلة أخلاقية داخليًا. دفعت الحساب الثاني وغادرت.
كان الصحن الثاني يفترض به أن يكون سرّي الدفين، إلا إنني حكيت عنه لسببٍ سيستوعبه القارئ الكريم بعد قليل.
عندما ركبت السيارة، واشتغلت معها أغانٍ عشوائية من التسعينيات في قائمة «يوتيوب ميوزيك»، تذكّرت فجأة أغنية - لا يوجد أي سبب يجعلني أتذكرها - وقررت تشغيلها، واكتشفت كيف أن لها تأثير السحر المعروف في أغاني التسعينيات، وهي لمغنٍ ربما لا يعرفه الكثيرون اليوم، وهو عبد الهادي حسين وأغنيته التي يقول مطلعها: «صاحبي بنشدك عن سر الهوى، وعن حبيب باع روحه في هواك، وعن جروح مالها غيرك دوا، وعن سنين تبتسم لي من غلاك. لك حبيب ما ملى عينه سوا، حسنك الفتان يا أغلى ملاك، ولي خفوق من عشقتك ما نوى، يزعلك لا شك بيدور رضاك».
أخذتني الأغنية إلى مكانٍ بعيد في الذاكرة، وهذه الحالة ربما هي ما تُفسِّر تمسّك الكِبار بالأغاني القديمة، مع ازدراء مستمر لكل ما هو جديد، فهم لا يزالوا في الحقيقة متمسّكين بالأيام القديمة، وها هي الأغاني آخر شيء ملموس يمكن أن يبقيهم في تلك الذكرى. طبعًا اكتملت القائمة بسلسلة ساحرة من الأغاني التي أبدعت اللوغاريتمات باختيارها، وهي أغانٍ وصفها صديقي الملحّن وحالها مع مطربيها «جعلت لهم بريقًا اختفى اليوم مع أغانيهم الجديدة»، كان منها: كيف أسيبك وانت نظر عيني، وأنا حبيبك لعبد المجيد عبد الله (١٩٩٤)، غبت يوم وعذرناك وبولهنا انتظرناك لراشد الماجد (١٩٩٩)، علمتني وشلون أحب علمني كيف أنساك لراشد الماجد (١٩٩٨) وهي إحدى روائع المرحوم طلال الرشيد، عسى ما جيت في وقتٍ لغيري.. عسى ما جيت لك صدفة؟ لعبد المجيد (١٩٩٤)، وعلى رأس القائمة إحدى أغانيَ المفضلة على الإطلاق، وهي: تصوّر لو خلت هالديرة من عينك ولا تعود، لا عدم صوتك، ولا خلا منك مكان لعبد الله الرويشد (١٩٩٩) رائعة الشاعرة البحرينية العظيمة فتحية عجلان. وطبعًا تقوى الهجر لخالد عبد الرحمن (١٩٩١) التي يُشاع إنها كُتبت ردًا على أغنية محمد عبده «أبا اعتذر عن كل شي، إلا الهوى ما للهوى عندي عذر» (١٩٨٩) للمرحوم الأمير بدر بن عبد المحسن.
وهناك حكايتين طريفة تخص خالد عبد الرحمن: يحكي لي صديقي الأنيق والمتفرِّد عن قصته مع أغانيه التي كان يستمع لها في مراهقته كما يصف: «بالسر»؛ خشية أن يراه والده، أو أحدٌ من أفراد أسرته الذين يتّسمون بذوق موسيقي مختلف، يميل إلى الأغاني الغربية أو لأغانٍ لا تقترب كثيرًا من لون الفنان القدير خالد عبد الرحمن. الأمر نفسه معي بالنسبة إلى أغاني الثمانينيات والتسعينيات، التي لطالما كُنت أستمع لها بالسر خشية تهمّم الأصدقاء والأهل، حتى إنَّ صديقًا كُنت معه في أحد الأيام نتجوّل في واشنطن العاصمة، وقررت أن أشغّل أغنية «إيه بس اللي رماك تعشق تاني يا قلبي» لعمرو دياب (١٩٩١)، ليقرر على إثرها استلامي في كل مرة يراني فيها بتهكّم صارخ وتريقة غير متوقفة، بسبب اختياري لتلك الأغنية.
في مشهد آخر، أُجريت في أحد الأيام مقابلة هاتفية مباشرة في إحدى قنوات الراديو، وسألني المذيع عن أسباب نقمي الحاد على كُتب الخواطر والنصوص النثرية المنتشرة، وأجبته «إنَّ مشكلتي مع هذه النصوص تكمن في سياق كتابتها، فالكاتب الخيالي أو كاتب الرواية عمومًا يصرف جهودًا كبيرة لحياكة شخصيات رواياته وأحداثها، وكاتب البحثي (كحالتي) يميل إلى تكريس جهوده في رسم حجج خلف كتاباته مدعومة بشيء من البحث، وأما كاتب الخواطر فهو يكتفي بكتابة نصوص غير مترابطة، وموزعة على الصفحات، وهي محاكاة لما كان يُكتب في بعض المنتديات الشعبية في الماضي، مثل أن يكتب أحدهم نصًا غرامي مبعثر، ويلقب نفسه بـ «مخاوي الليل»، ارتبك المذيع ارتباكًا واضحًا ليقاطعني، ويخبرني أن هذا اللقب هو لقب الفنان القدير خالد عبد الرحمن، وعليَ أن أسحب كلمتي خشيةً من زعله إن سمع اللقاء، أو من محبيه الكُثر، وبالطبع لم أكن أعلم أنه يحمل هذا اللقب، وبالطبع قدّمت اعتذاري فوراً.
يتحامل الإنسان ضد نفسه أحيانًا باحتفاظه لبعض الأسرار السلوكية الصغيرة خشية الآخرين، في حين أن الوضع في الحقيقة كما يقول المثل الحجازي «محد شافك يا اللي في الظلام تغمز»، لأن البشر بالكاد يكترثون لما بين أيديهم من ظروف ومواقف.
حتى إن اكتشف كل المطعم إنني طلبت صحنين كبدة، فإن الواقع يقول إنَّ لا أحد مهتم، لأن المخاوف – حتى المضحك منها – لا يُعد سوى وهم محض. وكل الأسرار الصغيرة في المُتع كالأغاني القديمة، تستحق أن تُعاش طالما أن صاحبها لا يضر بنفسه وبمن حوله.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.