تخطى الى المحتوى

كيف أصبح النساء يدخّن؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
كيف أصبح النساء يدخّن؟
Photo by Tan Kaninthanond / Unsplash
 «إن التسويق الوحيد الذي لا يؤثر حقًا هو ذلك الذي يتعلم المرء تجاهلها أو عدم الإنصات له؛ ولهذا السبب قال جاك إيلول: إن المنعزلين فقط – سكان الريف أو الفقراء عمومًا – هم الذين يتمتعون حقًا بالحصانة ضد الدعايات، في حين أن المثقفين، الذين يقرؤون كل شيء، ويصرون على أن تكون لديهم آراء، ويعتقدون أنهم محصنون ضد الدعاية، هم في الواقع: أسهل من يمكن التلاعب بهم»،

– «تيم وو» (Tim Wu) في كتابه «تجّار الانتباه».

ليست مهمة التسويق والدعايات هي إقناعك «بشراء شيءٍ جديد». بل هي على العكس تحاول «إقناعك بعدم قدرتك على العيش؛ دون شراء أشياء جديدة». هذا ما يفسّر حجم التضحيات المالية الكبيرة التي يقوم بها البعض تجاه الحقائب والساعات والآيفون ذو الإصدار الأحدث كل عام. حتى وإن كان صاحب التضحية واعيًا ومثقفًا ومقتدرًا، فإنه سيكون أول ضحايا الانضمام للمجموعة التي ينوي الانضمام إليها من النسيج أو النخب الاجتماعية، أو فقط الاكتفاء أن يكون مستهلكًا طبيعيًا غير متقشّف. فنحن ضمنيًا نشعر بنقصٍ حاد تجاه بعض الأشياء أو الأمور التي نسعى لشرائها، ولم نستطع لأي سبب.

«لا أحد يولد، وهو يريد شاشة (4K) أو محفظة تحمل علامة Hermès، أو منتج مزيل الرائحة Febreze. بالنسبة إلى المعلنين، فإن الوظيفة الأكثر قيمة للإعلان، هي «خلق» أو «إعادة تشكيل» احتياجات الناس التي لن تكون موجودة من أساسها.»، يعلق «تيم وو»: «لقد رأينا أمثلة عديدة في خلق الطلب على عصير البرتقال، أو غسول الفم، أو سيارات كاديلاك، أو السجائر (بين النساء)، وفي عشرينيات القرن العشرين، وصف المسؤولون التنفيذيين للإعلان بأن [اختراع احتياجات جديدة للناس] هي في الحقيقة وظيفتهم. ولاحظ ستانلي ريسور: «إن إنجازات الإنتاج الضخم الأمريكي ستسقط، من دون آلة التسويق الجبّارة التي توفرها الإعلانات».

في الأسوأ من ذلك، كما جادل «تشيس وشلينك»، يحاول الإعلان في الواقع مهاجمة وتشويه آليات الاختيار، من خلال تقديم معلومات إما خاطئة تمامًا (كما هو الحال في بعض إعلانات طب براءات الاختراع)، أو خادعة، على سبيل المثال من خلال الفشل في الكشف عن حقائق مهمة (مثل حقيقة أن السجائر تسبب السرطان في الماضي). وعندما يربك الإعلان العملاء أو يضللهم أو يخدعهم، فإنه لا يساعد عملية التسوق، أو أي عملية تقوم على الاختيار المستنير، ولكن بدلا من ذلك يلغيها».

يجب أن نعي مثلًا أن منظمة «الغذاء والدواء» الأمريكية قد أُسِّست عام ١٩٠٦م، ليس فقط لتنظيم مخازن الأدوية ومراقبة الأطعمة على الرفوف، ومراقبة جودة اللقاحات (التي كانت قد تم التعامل معها بنوع من المهنية قبلها بأربعين عامًا)، بل لمكافحة الكذب التسويقي المباشر من قِبل المسوّقين للأطعمة والمنتجات الاستهلاكية الأخرى. التي سنأتي على ذكرها.

استغلال المثقّفين:

يتسلّم «جورج واشنطن هيل» إدارة العلامة التجارية «Lucky Strike» الخاصة بالسجائر من والده المالك لأحد أكبر شركات التبغ في الولايات المتحدة (شركة التبغ الأمريكية)، وأصبح فور تسلّمه (كما يصفه آلبرت لاسكر) ينام، ويأكل ويشرب من أجل هدف واحد: كيف يبيع المزيد من سجائر «لاكي سترايك».

كان هيل ربما يحاول أن يهزم المعتقد التقليدي بأن ابن العائلة، قد يوازي أو يهزم أسلافه في قدراتهم التجارية. واستهداف بيع المزيد من السجائر، كان مسألة لا تقبل أي نقاش بالنسبة إليه. فهو رجل أعمال فذ، مثل والده، وربما يفوقه في القدرات التجارية.

استغل (هيل) موضوع بزوغ نمو الإعلانات التجارية فترة العشرينيات الميلادية. بدأ بصرف ما يقارب عشرون مليون دولار سنويًا على دعايات السجائر ابتداءً من عام ١٩٣١م متزايدة كل عام بعدها، بعدما كان متوسط الصرف على الإعلانات هو أربعمئة ألف دولار فقط في عام ١٩٢٥م، العام الذي توفي فيه والده (بيرسيفل هيل) الذي انتقلت فيه ملكية الشركة بالكامل للابن.

قبلها، كانت شركات السجائر تعاني أمرٍ غريبًا، وهو صعوبة ممارسة التدخين بالنسبة إلى الرجال عمومًا، فقد كانت السجائر ساخنة جدًا على الحلق، مما خلق نسبة قليلة من الرجال الذين يدخنون السجائر، حتى استقرت شريحة المدخنين لمستو عالٍ في أواسط العشرينيات بعد أن ابتكرت «لاكي سترايك» حملة تصف فيها تبغ سجائرها بأنها «محمّصة!» (It’s Toasted) في دلالة على ثراء نكهتها؛ مع إعلانات فرعية، بأنها «سببٌ لعلاج آلام الحلق» أو «سجائر تُلغي الكحة». ويذكر «جاري توبز» الكاتب الاستقصائي المعروف عن الصحة، أن مزج التبغ بالسكر كان قد أسهم بنقلة نوعية في تقبّل الناس للتدخين، حيث إن هذه العملية جعلت حرارة التبغ المحترق أكثر برودة لاختلاطها مع السكر على الحلق.

تطور الأمر بعدها لتشمل الإعلانات إقران الأطباء لإلغاء الشكوك حول أضرارها، كان أحد أشهر تلك الإعلانات في العشرينيات ينص حرفيًا على أن: «٢٠،٦٩٧ طبيبًا يقولون إنَّ سجائر لاكي سترايك تعطي تهيّجًا أقل للحلق».

الأمر الآخر، لم يكن تدخين السجائر متداولًا لدى النساء – في الأماكن العامة – في ذلك الوقت، وكان ابتكار طريقة فعّالة لكسب هذه الشريحة الكُبرى من المجتمع مهمًا لزيادة حجم المبيعات. فالنساء ينجذبن لسلوكيات أصحاب المناصب الرفيعة (وتم هذا الأمر جزئيًا مع الأطباء والمشاهير عندما دخلوا سوق الإعلانات)، وأيضًا، ينجذبن على نحو أكبر للنساء الأخريات صاحبات الامتيازات الاستثنائية.

شعلة الحرية:

حتى نهاية العشرينيات، كان تدخين النساء في أماكن عامة غير مسموح قانونيًا. وهذا ما جعل «هيل» أكثر تمسكًا بفتح باب كسب الشريحة غير المخدومة تسويقيًا بشكلٍ جيد من قِبل المجتمع. كان يعي أن إقناع النساء بالتدخين سيفتح عليه بابًا من الثراء الذي لم يسبقه مثيل، خصوصًا إن تم هذا الأمر في الأماكن العامة. قاده هذا الأمر إلى اللجوء لأحد أشهر رجال العلاقات العامة في الولايات المتحدة «إدوارد بيرنيز»، (Edward Bernays) وزميله لاسكر (Lasker)، الذي حكى في مذكّراته عن نية هيل تجاه هذا الموضوع: «اتصل بي هيل. وسألني: كيف يمكننا أن نجعل النساء يدخن في الشارع؟ إنهم يدخنون في الأماكن المغلقة. لكن، اللعنة، إذا أمضوا نصف الوقت في الهواء الطلق، وجعلناهم يدخنون، فسنقترب من ضعف سوقنا النسائي. افعل شيئا. تصرف!».

بعدها استحضر بيرنيز – رجل العلاقات العامة – أمرًا شديد الحيوية في ذلك الوقت، وهو: «روح تحرير المرأة» (أو النسوية المعاصرة)، وقد: «لاحظوا أنه من الممكن الاستفادة من هذه الحركة» كما يصف «تيم وو».

أخذ بيرنيز الفكرة على محمل الجد. في الوقت الذي كان في الواقع منتقدًا للإعلانات التقليدية، التي تحاول التسويق على نحو مباشر من خلال صور وجمل رنانة في الإعلانات. وصف هذا الأمر في مذكّراته:

«ما هي الأسباب الحقيقية التي تجعل المشتري يخطط لإنفاق أمواله على سيارة جديدة بدلًا من البيانو الجديد؟ هل لأنه قرر أنه يريد «الحركة» أكثر مما يريد «الموسيقى؟» ليس تمامًا. يشتري العميل السيارة بالدرجة الأولى لأن الجميع حوله أصبحوا يشترون سيارات، لذلك يجب أن تكون مهمة الإعلانات الحديثة هي خلق ظروف من شأنها تعديل العادات».

استوعب أن تغيير العادات الشرائية يبدأ من خلال خلق قناعة اجتماعية ضرورية لهذا الأمر، وهذا كما قاده لابتكار أحد أشهر حملات «العلاقات العامة» في التاريخ الحديث التي سُميت: «شعلة الحرية».

سعى بيرنيز – قبل التسويق – إلى الإطاحة بقانون «تجريم النساء» اللواتي يدخن خارج المنزل، من خلال وصفه على أنه «انتهاك لحريتهن» بما في ذلك فكرة السجائر التي كانت يجب أن تُصبح أمرًا حيويًا واعتياديًا يومياً، تمارسه النساء مثل الرجال، في أي وقت وأي مكان.

وقع بيرنيز مع النسوية البارزة والمتحمّسة «روث هيل» (Ruth Hale) على وثيقة تدعو النساء إلى الانضمام إلى مسيرة سُمّيت: «مشاعل الحرية: أشعل شعلة أخرى من الحرية.. حارب ما هو محرّم على الجنس الآخر»، وحيث قام من جهة أخرى باستئجار كثير من النساء الحسناوات للانضمام إلى موكب المسيرة التي حُددت في عيد «يوم الفصح» في مدينة نيويورك.

في الوقت نفسه تقريبًا كُلِّف لاسكر بهندسة طلب أكبر بين النساء على سجائر «لاكي سترايك». كانت هذه بداية حملة دعائية كبيرة وضع فيها صور عديدة لنساء فاتنات سُميت: «الوصول إلى محظوظ» أو (Reach for Lucky).

تطوّرت الحملة الدعائية الشاملة تجاه النساء بعد أن اكتشف كلًا من لاسكر وبيرنيز أن أكبر هوس كان موجوداً عندهن هو الوزن. مما قادهم بعد فترة بسيطة إلى خلق رسالة دعائية جديدة «اشْتُرِيَ لاكي سترايك بدلًا من الحلوى»، وفي نسخة أخرى: «للحفاظ على شخصية نحيلة، لا يمكن لأحد أن ينكر أن الوصول إلى الحظ (Reach for lucky) بدلًا من الحلوى، سيساعد على هذا الأمر».

تضاعفت معدلات التدخين بين النساء ثلاث مرات من عشرينيات القرن العشرين إلى منتصف الثلاثينيات. بهذه الطريقة، حصل جورج واشنطن هيل على ما يريده. وبحلول نهاية العقد، تجاوزت لاكي سترايك جميع منافسيها، بسبب الإعلانات المنظّمة واستغلال النخب من المثقّفين، للتلاعب بالعوام. دعت بعدها لجنة التجارة الفيدرالية هيل ولاسكر إلى التحدث عن تلك الشهادات الطبية التي شاركوا بها في الإعلانات المضللة. أخذ الأمر سنوات عديدة حتى يتغير العقل الجمعي المتأثر من الإعلانات التجارية بجمال عادة التدخين، لاكتشاف أنه في حقيقة الأمر، ليس كما يظهر فيها. كما أخذ الأمر قرابة المئة عام حتى تُمنع إعلانات التدخين رسميًا في قنوات الإعلان الرسمية في كثير من الدول.

سيكلوجيا الإنسان

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع