موعد مع طلال
«لماذا تكتب؟» كان هذا هو السؤال الخطير والأخير، وأنا أهِمْ بالخروج مستعجلًا للذهاب إلى عشاء بالقرب من أُبحر.
دعاني البارحة أخي وصديقي العزيز ناصر السريّع إلى منزله. تُحفة الجلسة كان ابنه طلال (١٣ سنة)، الذي ناقشني، وعارضني في حزمة كبيرة من الأفكار. ما أثار إعجابي ليست محاولاته المستميتة للإقناع والفوز في النقاش، بقدر ما هو التسلّح بالشجاعة وإبداء الرأي والوقوف على ما يراه حقًا، دون أن يهز رأسه على غرار «إللي تشوفه يا عمي».
«لماذا تكتب؟» كان هذا هو السؤال الخطير والأخير، وأنا أهِمْ بالخروج مستعجلًا للذهاب إلى عشاء بالقرب من أُبحر. أجبته إجابة مختصرة تقليدية: «لكي أعبّر عن أفكاري وشعوري بانتظام»، دون توقعي لسؤال آخر بعدها: «عبّرت. وبعدين؟». بالتأكيد لم يسعفني الوقت لكي آخذه في رحلة الفكر ما بين الكتابة والقراءة التي (كما وصف نفسه تجاهها) بقوله: «الله ما كتبلي حب الورق». وهذا ما سيستدعي بطبيعة الحال موعدًا آخر للجلوس معه، نرى فيها ما يمكن الخروج منه لكي نُحببه في الورق.
يعمل هذا الشاب الطموح (المسكون في جسد طفل) بدوام جزئي فترة الصيف في أوك بيري، فرع شارع البترجي. محب للخيول، ومطّلع على نحو جيّد لأسواق تجارية مختلفة، ولا يملك وقتًا كبيرًا للتفاهة. حرص والده على إجلاسه معنا ربما من باب التعليم، وهذا أمر لم يزعجني في الحقيقة، بل جعل الجلسة أكثر جمالًا وإثارة.
من المفارقات الغريبة في حياتي إنني - وللمرة الأولى أقولها - قد رسبت مرة واحدة بشكلٍ غير متوقع، في مادة النحو في صف الثالث متوسط، ونجحت فيها بطبيعة الحال في الدور الثاني، كانت نسبتي جيدة جدًا ذلك العام (إن لم تخن الذاكرة كانت ٨٥٪)، وهي نسبة غريبة لشخص رسب في مادة أسهل من العلوم والرياضيات بكثير.
إن أخبرت شخصًا في الشارع إنني كُنت ضعيفًا في مادة النحو، لا أعتقد أنه سيتنبأ بتحوّلي لشخص يكتب للعوام، ويتفلسف عليهم باللغة العربية الفصحة كل يوم. لن يحسب حِساب أن المحاولات المستمرة والعمل المتواصل تحول الفاشلين مثل حكايتي إلى أشخاص لا بأس بهم.
شاهدي، إنني ما زلت على نفس القناعة القديمة التي تُشير إلى أن التعليم الحقيقي يتلخّص في تعليم الأبناء «المهارات الناعمة» أكثر من الحرص على الحصول على درجات مرتفعة. أقصد أن نحرص كآباء بزرع الثقة في النفس، والتواضع، وحب التعلم، والمثابرة، والصبر والوقوف على المبادئ بنفس القدر وأكثر من الوقوف على المذاكرة اليومية وصمْ الكُتب.
هذه المهارات - التي رأيتها في طلال - هي التي ستقود حياته بإذن الله إلى مستقبل أفضل. فمثل طلال، لن يبكي إن خسر، أو أخفق في مشروع مستقبلي. بل سيبحث عن حلول لنفسه، وسيجلس مع أصدقاء والده غير خجلٍ من طلب المساعدة والمشورة، وسيأخذ المخاطرة حتى يخرج من أعناقٍ مختلفة من الزجاجات. وبالتأكيد، حس رجولته سيعطيه مساحة لينتبه، ويرعى من حوله من أسرة وأصدقاء.
حفظه الله ورعاه لوالديه، وبارك الله في والدته التي أحسنت تربيته، ووالده الذي أخلص في رعايته.
زوروه إن سمحتم، وأخبروه أن عمك أحمد مشرف يسلّم عليك.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.