تخطى الى المحتوى

ظاهرة الوشم على الأجساد

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
2 دقائق قراءة

أجلس وحدي في إحدى المقاهي في إسطنبول الصيف الماضي، وأنا أتأمل جميع الزبائن، لأكتشف شيئًا مشتركًا لدى كل الذكور: وجود وُشوم ظاهرة على أجسادهم. وأقول هنا «كل الجالسين دون استثناء. كلهم»، ولا أعلم بطبيعة الحال عمّا خُفي منها، ولم أتجرأ صراحةً أن أتأمل أجساد الفتيات، لكيلا أتعرّض للضرب.

يبدو من الواضح أن نحت الوُشوم هو إحدى صرعات هذا العصر لدى المجتمعات الغربية على وجه الخصوص، والتي تبنّتها المجتمعات الأكثر محافظة مثل المجتمع التركي الذي تحوّل – كما رأيت على الأقل – إلى امتصاص كبير لما يقوم به الغربيين، الذي يملكون شيئًا يقولونه للآخرين من خلال رسوماتٍ على جسدهم، أكثر بكثير مما يُقال شفهيًا.

أما في مجتمعنا، أصبح الكثيرون يملكون وشمًا أو وشمين على أجسادهم، أعرف أحدهم كان قد قام بوشم كل جسده من أسفل رقبته إلى قدميه، دون مبالغة، على ما يبدو أن الصرعة قد وصلت إلينا، وبدأت تنتشر.

لن أُلفت النظر اليوم إلى الصفات التعبيرية الشكلية الأخرى مثل الأقراط اللافتة كبيرة الحجم التي يضعها البعض على أنوفهم وحواجبهم، أو التطرّق لألوان الشعر الفسفورية، وقصّاتها الحادة، وذلك لكيلا يشعر القارئ الكريم إنني أخذته عشر سنوات إلى الوراء في انتقادي، ولكيلا يظهر له إنني نصبت نفسي في خانة الناصح أو الواعظ. فسياقي هنا ليس دينيًا. كما إنني لا أحاول جعل كلامي انتقادًا، بقدر محاولتي لفهم وتحليل هذا السلوك من ناحية نفسية واجتماعية.

شخصيًا، لا أتقبّل فكرة الوشم، خصوصًا على النساء، ويعلم المقرّبين إنني أشعر بنوع من الاختناق والغثيان عندي رؤيتي له، ومع ذلك، سأقول إنَّ هذا الأمر تفضيلٌ شخصي، وسأتمسّك بحبل التوازن محاولًا الابتعاد عن الانتقاد ما استطعت إليه سبيلا.

يقوم الواشم بوشم جسده لأحد خمسة أسباب:

  1. لكي يُعبّر عن نفسه تجاه أمرٍ ما.
  2. ليذكّر نفسه بحدثٍ أو مناسبة، أو قصة ما.
  3. لاعتقاده أن الوشم يُضيف عنصرًا جماليًا لشكله أو لجسده.
  4. للإشارة بانتمائه إلى مجموعة ما (مثل المنتمين للعصابات).
  5. للإشارة على تمرّده من أمر ما.
  6. وأسباب أخرى (ربما تكون تجميلية).

يشترك في جميع هذه الأسباب عنصر واحد، وهو: التعبير الصريح (Making a statement) من خلال رسم شيء في الجسد، يعلم صاحبه أنه لن يختفي لبقية العُمر. هذا السلوك القوي، ربما يكون ردة فعل أكثر من كونه حاجة نفسية أصيلة، التي تسعى إلى فهم الآخرين لها وتقبّلها وإعطاءها الإحساس بأنها جزءٌ منها. بل ربما هو فرضٌ بالقوة للرأي بشكلٍ بصري، عوضًا عن التعبير كتابيًا أو شفهيًا عنه، مع تذكيرهم أن هناك شيء فيهم قد يوصل رسالة لم يتم استقبالها في الماضي.

عندما يقوم أحدهم برسم اسم حبيبته، أو شكل ابنته المتوفاة على جسده، فهو يقول بلغة أخرى: «أنا حزينٌ على فقدها، ولا أريد أن أنسى إنني حزين، وأريد أيضًا أن أخبرك بحزني من خلال ما تراه في جسدي، شئت ذلك أم أبيت». هذا التعبير الذي يُشير صاحبه إلى تعلق بحدث أو شخصية أو فكرة، لا يرغب – من خلال الوشم – أن ينسى، ولا يُريد أن يتبدّل حاله، ولا يريد أن يتذكّر أن طبيعة الإنسان هي النسيان، مهما كانت قسوة الحياة، حتى وإن كان نسيانًا مؤقتًا.

ثلثي قناعاتي وقراراتي الشخصية الصلبة تبدّلت، وتغيرت مع السنين، ليس لأنني استيقظت، وقررت تبديلها، بل لأن سنة الحياة وحكمة الله هي التي تفرض علينا التطور والتغير، أو كما نُحب أن نُردد دائمًا: الثابت الوحيد هو التغيير. رسم شيء يعبر عن أي شيء من المحتمل أن يتبدّل مع الوقت في جسدي، هو شكلٌ من أشكال محاولة إيقاف عقارب الساعة. أصبحت اليوم ذلك الشخص الذي كُنت أطلق عليه النِّكَات قبل سنوات، وأنا نفس الشخص الذي كنت أحارب قناعاته قبل سنين قليلة، ونفس الشخص الذي لم أتخيّل أن ينتهي به المطاف به كما أصبح، وفي حقيقة الأمر إنني سعيد ومحب وممتن لكل هذه التغييرات (مثل الكثيرين ممن هم في عمري)، فالحال – كما قلنا – متغير رغم ما نؤمن به من ثوابت، وإلا لما كان هناك قيمة للنضج على أي حال، الوشم، حتى وإن كانت القناعة خلفه «إضافة عنصر جمالي» فإن احتمالية الشعور بالندم تجاهه واردة.

من ناحية نفسية، أؤمن دومًا أن العوام من الناس يميلون إلى القرارات الأسهل في حياتهم أكثر من ميلهم إلى القرارات الأصلح. فالأخيرة في الغالب تتطلب جهدًا أو مستوى ما من الانضباط؛ يعلم الجميع مثلًا أين تقع مصالحهم خلف قراراتهم، ولكن ليس كل «الجميع» مستعدين لبذل الجهد والانضباط لكي يحققوها. ويظل توازننا يتأرجح بين المصالح والتقصير والتوازن، حتى نقترب أكثر من الموت. وكلما اختار الإنسان الاستقامة في جانبٍ من حياته، كلما استقام له ذلك الجانب، آخرين من العوام لا يودون الوقوف على القرارات الأصلح، بل للطريق الأقصر للإحساس بالرضا.

أتفهّم أن الوشم هو أحد تلك الطرق، ولكن لا أشجّع، ولا أتعاطف، ولا أملك قدراتٍ للقبول به (شخصيًا)، على الأقل هذه الفترة من حياتي. فأنا من فئة البشر التي تؤمن بالطرق الطويلة لحل المعضلات النفسية، الطرق الطويلة التي تتحول من طولها إلى طُرقٍ مستدامة، تحمل داخلها تغييرًا حقيقيًا لمن أراد التغيير. أميل للاعتقاد أن الاستشفاء والتوازن النفسي لا يأتي دون صبر، ودون تأمل حقيقي للنفس وسلوكها وعواطفها، وقبلهم مخاوفها. وأعد أن الوشم في أحيانٍ كثيرة هو «رُقعة» لتغطية «شُق» من المعضلات النفسية، صغيرة كانت أم كبيرة، وربما يملك القارئ الكريم الحكمة في توليف شكل «الشق» من خلال الأسباب الخمسة التي ذكرناها.

التعبير!

لا شيء مثل التعبير المنتظم عن الأحاسيس والأفكار.

لا شيء يعادل حجم الصفاء النفسي للإنسان الذي يستطيع أن يعبر بانتظام. ومُهمة الإنسان المستمرة هي البحث عن وسيلة للتعبير؛ بعيدًا عن الإيذاء واختيار طُرق للتعبير، لا رجعة فيها من الندم.

لا شيء يوازي الإقدام على استمرار تربية النفس وتهذيبها، ومحاولة الانتباه لها، ولما نحاول القيام به، وكأن الإنسان ينظر إلى نفسه في المرأة، وكم هو أمرٌ صعب! إلا أن صعوبته هي ما جعلت منه أمرًا يستحق العناء.

الطرق المختصرة، مع الأسف لا تدوم. في حين أن أصعب الأمور تأخذ وقتها لكي تدوم بعدها.

كذلك هي النفس التي تتغير، وتنمو لتُصبح أفضل.

وأخشى أن الوشم ليس وسيلة مثالية للتغير أو الرضى.

سيكلوجيا الإنسان

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع