عن فن إرسال رسائل صوتية شخصية في الواتساب
الكلمات عندما تكون صادقة تتحول إلى ذِكرى أكثر من كونها كلمات عابرة
-١-
استقبلت رسالة صوتية مدتها ثلاث دقائق على الواتساب في وقتٍ ما بين فصلي الشتاء والربيع قبل قرابة سبع سنوات من أخي وصديقي العزيز هيثم الرحبي من سلطنة عُمان، يخبرني فيها - بعد أن مسّى عليَ بالخير - التالي:
«أجواءنا هذه الأيام في السلطنة جميلة. وها هو موسم الرمّان قد أتى. لا شيء ساحر مثل الذهاب إلى الجبل الأخضر هذه الأيام، مع الرفقة الحبيبة، وحول الورود التي بدأت تنضُر، والرمان اللذيذ في كل مكان. نسمات الهواء فاتنة، والروائح أخاذة..»
ثم أكمل مسهبًا في وصف كل الجمال الربّاني الذي صاحب تلك الأجواء، مشيرًا أيضًا إلى الأكل اللذيذ ونسمات الهتّان، وغيرها، ثم ختم رسالته: «لكن للأسف، رغم كل ذلك الجمال، إلا إنه ينقصه شيء واحد.. وجودك يا صديقي».
وما لبثت أن أرسل إليه ردًا يليق بهذه الرسالة العفوية الحميمية، إلا كان قد أرفق بعدها مقطعًا مصورًا له، وهو يغني خلف أغنية (أحببتها من بعده) لملحم بركات يقول فيها:
«إنت غيابك طال، وأنا حالي حال.
قلبي ناطر يا حبيبي، ولا غيرك عالبال.
العذاب يا حبيبي شو بيعمل بالعاشق.
والفراق صعب وقاسي عالقلب الي مفارق».
استوعبت منذ ذلك الوقت أنني كُنت أدّعي معرفة تأثير الكلمات في الآخرين، ولكن الأمر الذي لم أستوعبه أن الكلمات والتعبير الحقيقي يمكث تأثيره سنواتٍ طويلة على الآخرين. سلبًا كان أو إيجابًا. كل ذلك الكلام الجميل من أخي هيثم مضمونه شيء واحد فقط، دعوتي لزيارته في وقتٍ قريب!
جرّب أن تتغزّل أو أن تمدح شخصًا بصدق لم تعتد أن تمدحه، ستُفاجأ بحجم الإرباك الذي سيُصيبه، وستشاهد تغييرات تعبيرية لأول مرة تشاهدها في حياتك، وربما سيحكي للآخرين عن مدحك وغزلك الذي كان وقعه كالسحر على مزاجه ونفسيته.
هذا الكلام الذي أقوله ليس فيه مبالغة، ثم إنَّ تأثير الكلمات اللطيفة الصادقة تعطي طاقة إيجابية خارقة لنفسية أي إنسان يتلقّاها. تعبير أخي هيثم مكث في نفسيتي سنواتٍ طويلة، وأعد أبا سالم بحق أستاذًا في التواصل البشري مع من يعرفه، ولذلك دائمًا ما ينزعجون من حوله من كثرة معارفه عندما نخرج إلى الأماكن العامة في مسقط، فهو شخصية اجتماعية محبوبة، من البسطاء قبل الوجهاء، وأعتقد أن السبب واضح. ولا يوجد صديق عرّفته عليه، إلا واستمرّت علاقته به في أفضل حال.
-٢-
في موقف شبيه بهذا اللطف كان في شعبان الماضي، عندما زُرت إسطنبول، وقررت أن ألتقي بأخي وصديقي العزيز عاصم عصام الدين، الذي جمعتني به علاقة قديمة عبر الهاتف دون لقاء، لولا أن الله كتب إحياءها بعد أن قرأت له روايته الأولى العظيمة «عرب في بي أوغلو» التي أنهيتها في يومين من شدة جمالها، لأرسل له رسالة واتساب مذكّرًا فيها بنفسي، وبأنني قرأت الرواية، واستمتعت بها أيما استمتاع، ليُسعد بالرسالة ثم تتوالى لقاءاتنا بشكلٍ شبه منتظم في كل فرصة أزور فيها إسطنبول (حيث اختارها مكانًا له ولزوجته بعد التقاعد) أو عندما يزورنا في جدة.
ما حدث، إنني عندما زرت إسطنبول وقتها، أرسلت إليه رسالة معبرًا فيها عن وحشته ورغبتي الكبيرة في لقائه، ليرد عليَ بهذا المقطع الصوتي (الذي استأذنته في نشره):
ذكرني هذا المقطع بمقالة قديمة كُنت قد كتبتها بأن إحدى أجمل نِعم الله علينا في هذه الحياة هي امتلاكنا لصديق يدندن. حينما يحوّلك فجأة بدندنته وصوته إلى طور المُنصت والمطرّب، ثم يعود بك إلى الحياة العادية، في دقائق قليلة.
من شدة حبي وولعي بمقطع أخي عاصم أبو عمر، لم أترك بني أدمًا إلا وأرسلت إليه هذا المقطع، في محاولة مني لإعطاء درسًا تربويًا يخص التواصل الإنساني، وأيضًا من جانب أناني، إخبار الجميع مدى حظوظي الكبيرة في هذه الحياة لامتلاكي مثل هؤلاء الأصدقاء.
ثم قررت أن أرسل المقطع نفسه إلى صديقي العزيز المغني عبد الله عبد العزيز، صاحب الصوت الجميل والخُلق الرفيع، ليرد عليَ بمقطع صوتي وهو يغني الجزء الثاني لنفس أغنية طلال مدّاح التي غنّاها لي أخي أبا عمر، وهو واقف أمام كاونتر طلبات شاي في مكانٍ ما:
أكرمني أخي عبد الله بعدها بفترة بدعوتي لأمسية غنائية راقية، كُنت مع الأسف مسافرًا ومستاءً لأنني لم أستطع حضورها.
كل الكلمات الكتابية (والمنطوق منها) يستشعرها المتلقي بسهولة إن كانت حقيقية وصادقة. ولذلك، ما زلت من ألد أعداء مستخدمي الذكاء الصناعي في التواصل الإنساني الكتابي، حتى وإن كان يعطيني كلمات منمّقة وخالية من الأخطاء المطبعية، إلا إنها لا توصل معها نفس طاقة الصدق والتعبير الحقيقي عمّا بداخلنا.
تأثير التعابير الحميمية والأخوية لا يماثلها شيء، ربما تحول رتبة الآخرين إلي أعزاء في وقتٍ قياسي أن حسُن استخدامها، واستحضرنا الصدق فيها. كل كلمة تلقي بها على مسامع الآخرين تزيدك درجة أو تنقصك درجة، وكلما على شأنك في درجات الآخرين، ارتفع شأنك في الحياة، لأن الآخرين هم مرآتنا في التعامل، وهم حاجتنا وعزوتنا التي لا نفارقها، خصوصًا المقرّبين، ومن الأجدى أن نكون قبلها خير رفقاء، بألسنة ساحرة.
استلهمت هذه المقالة بعدما قرأت مقالة أخي العزيز والصديق فؤاد الفرحان عن رسائل الواتساب السيئة والمستخدمة في العمل من قِبل المديرين، وهي بعنوان: «الواتساب في العمل: كيف تغرق فريقك في الفوضى؟»، وكأنني أحاول اليوم إبراز الجانب الشخصي المشرق الآخر للتواصل بين بعضنا البعض.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.