أكتب لصديقي الفلسطيني عن حقّه
عندما عرّف نصر حامد أبو زيد مصطلح «المقدّس» في إجابته على سؤال: ماذا يعني أن يكون الشيء مقدّسًا؟ أردف بقوله: «لا شيء مقدّس ما لم يكن حوله عنصر بشري»، فالبشر هم من يعطون قيمة للجمادات والأشياء، وليست وحدها ما تستمد قيمتها من نفسها.
سيارتك التي تُحبها أنت من أعطيتها هذه القيمة، ربما لأنك تعبت على شرائها، وربما لأنها كانت حلم طفولتك، وربما لأنك فقط تحبها لأنها ملكك وحدك، وربما تحبها هكذا من دون سبب!
خاتمكِ الذي تحبينه قد لا يسوى الكثير إن حاولتِ بيعه، لكنكِ تُحِبِّيه لأنه كان ملك والدتك أو جدتك في يومٍ من الأيام، بالنسبة لكِ قيمته المعنوية لا توازيها قيمة أخرى، أنتِ من أعطيتيه إياها، في حين إن وقع هذا الخاتم في يد سارق، قد يبيعه عند أقرب محل مقابلة بضع مئات من الريال، هذه المئات هي أغلى ما سيمتلكه في هذا الوقت، ولذى، في عالمه سيكون كل شيء مسخّر لتبرير السرقة.
هذا التقدير للأشياء والذي يصل إلى مرحلة القدسية يكون تارة بسبب تعلّق عاطفي، وتارة لأبعاد أكثر عمقًا.. كارتباطنا الديني والروحي، وقبلهم كلهم: الارتباط الإنساني، فلا يحتاج الإنسان (أيًا كانت ملّته أو هويّته) مبررًا لتعلّقه بأطفاله، وإن قال إنه متعلقًا بهم «لأنه يحبّهم» فهو قد اختزل التعلّق في شعور الحب، وإن قال لأنهم أبنائي، أيضًا سوف لن يُفسّر أصالة التعلّق الذي يشعر به.
نتعلّق بأطفالنا لأسباب عديدة وعميقة؛ لأننا نحبهم مثلًا أكثر من حبنا لأنفسنا، أو لأن لا حول ولا قوة لهم إلا بنا. وربما نتعلّق بهم لأننا نرى فيهم الامتداد التاريخي والبيولوجي لحاضرنا ومستقبلنا، وربما نتعلّق بهم لأن ليس هناك خيارًا آخر غير التعلّق عند البعض! أو لكل ما ذُكّر.
يذهب مع الحق الأصيل إن أُنتزِع شيئًا من الإنسانية؛ الكرامة مثلًا؟ الإحساس بأن لا شيء مقدّس نستطيع امتلاكه؟ حتى الذكريات قد تذهب خزائنها في يومٍ وليلة، هكذا بسرعة. ولا نقول هنا الحق الأصيل في الأرض والرائحة، والورث، والذكرة، والجيرة، والتي هكذا ببساطة من الممكن أن تُنتزع -دون مقابل- ودون اكتراث. يتعلّق الإنسان بأرضه لأسباب عاطفية، نعم، ولكن قبلها لأسباب إنسانية أصيلة، وهي حقه فيما يملك. مثل حقه برؤية طفله الذي يكبُر؛ ليختفي من حياته فجأة.
منذ صغري كُنت أعلم أن قضية واحدة هي أم قضايانا، تربيّت معها على أن «الحق أحق أن يُتّبع»، وهو ما يدافع عنه. أُمْ القضايا قضية عندما كُنت محافظًا وحافظًا مع الجميع، وعندما أصبحت أكثر انفتاحًا، وعندما انتهيت بكوني أكثر توازنًا. لأن نظرة الحياة وإن تغيّرت، فلن يتغير الواقع: الحق أحقْ أن يُتّبع، حتى وإن انتُزعت كل المقدّسات الإنساني: الطفل والأرض والروح والمستقبل، يبقى الحق طالما بقي آمال يعلل الإنسان نفسه بها «فما أضيق العيش لولا فُسحة الأملِ».
حق الأرض حق إنساني قبل أن يكون دينيًا وعاطفيًا، هو حقٌ وكفى.
أجلس أمام صفحتي التي أكتبها ولا أحاول البحث لقضيتنا عن دفاعات سياسية أو مناورات وتحليلات لا أملك ذهنًا وطاقة لها، أجلس وأكتب حبًا لأصدقائي الفلسطينيين. أكتب وأُذكّرهم أن الحق أحق أن يُتّبع، أقف معهم لأنني أعلم يقينًا أنهم أصحاب حق، أكتب لهم لأنني عاشرتهم في طفولتي، ومراهقتي وشبابي، وفي أعمالي. ولا أملك شجاعة النظر إليهم دون اكتراث لحقهم. أحاول أن أكتُب كما يكتب الصديق الأصيل، الذي لا يملك من أمره شيئًا سوى المواساة.
أكتب لصديقي مهنّد -رحمه الله- والذي كان دومًا ما يشاركني سريرته حول هذا الحق المنزوع، وعن والده الذي استقبلته المملكة بكل حب قبل عشرات السنين تاركًا حقّه لمن لا حقّ له.
أكتب لك يا صديقي لأنني لا أملك إلا أن أكتب.
وعند الله تجتمع الخصوم.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.