دع الغريب يقنعهم نيابة عنك
هذه مأساة قديمة ومضحكة، عندما لا يستمع الآخرين ما يقوله المقرّبين، وينصتون لنفس الكلام من الغرباء. يحكي لي العزيز عمر عاشور (وهو الذي طلب مني كتابة هذه المقالة) قصة صديقه الذي كلما يحاول إقناع زوجته بموضوع بمهم، يقوم بالاتصال على صديقتها المقربة، لتقوم هي بهذه المهمة.
قريب لي جلس مع زوجته جلسة مطوّلة مع ابنتهما المراهقة، يحاول أن يربيها على آلية التعامل مع صديقاتها في المدرسة (التي كانت مسببة لأزمة لها)، لتخبرهم أنها بحاجة إلى استشارة متخصصة نفسانية؛ ليقوم الوالدان فعلًا «بخرط» خمسمئة ريال قيمة الجلسة يتيمة، أعادت الأخصائية «بالحرف الواحد» كل ما قاله الوالدان للبنت، لتقتنع بما سمعته من الأخصائية، مع تناسٍ تام للجلسة التي كانت مع والديها.
شخصيًا، أنا متصالح تمامًا مع هذه الطبيعة البشرية الغريبة؛ فلا يزال «مغنِ الحارة لا يُطرب» مثلما كان يُحكى أن والدة الإمام أبو حنيفة كانت تذهب مسافات طويلة لاستفتاء شخصٍ آخر، دون أن تُعطي اعتبارات حقيقية لابنها: أحد الأئمة الأربعة.
كُنت مثلًا جلس جلسة مطولة مع طُلاب الماجستير (في جامعة نوفا في فلوريدا) عام ٢٠١٩م، أُفتيهم عمّا يجب أن ينتبهوا له ويكتبوا عنه في المقالة التي طُلبت منهم من قِبل أستاذهم الجامعي، في حين أن زوجتي -زميلتهم- قامت بحجز ساعات مع «مركز الكتابة» في مكتبة الجامعة لتستشيرهم حول تقنيات الكتابة. أفتيتهم ليس حبًا للفتوى، بل استجابة لطلبٍ كريم من أحد الشباب الجالسين بجواري قبل إحدى أوقات العشاء «أبو سيرين، عندنا واجب كتابة طويل، ساعدنا الله يرضى عليك» لأقوم بمحاولة الفتوى بعدما اعتقدت إنني أهلًا لها، بكتابة ما يقارب الخمسمئة مقالة وأكثر في حياتي آنذاك.
المضحك أن نفس الشباب أخبروا زوجتي بعد إحدى المحاضرات أنهم كتبوا مقالات لطيفة لاقت استحسان الأستاذ، بعدما استشاروا كاتبًا قبل أسبوع كان جالسًا معهم في عشاء السعوديين، دون أن يعلموا أنني زوجها.
تتكرر هذه الحالات مع الأهل والأصدقاء المقربين كثيرًا. نظل لا نبحث عن إجابات داخل الكنوز المدفونة بجانبنا، وفي حالتي، لا يزال الغريب يعطيني قدرًا من الانصات، في نفس الوقت الذي يعتبروني أهله الابن الصغير الذي لا يملك «سالفة» أو «خبرة في الحياة». طبعًا كل ذلك بحسن نية. وهو ما ألزمني بفكرة التصالح، فالحقيقة ستظل تُعيد نفسها بكوني الابن والأخ الأصغر لهم.
في نفس السياق، تعتقد شقيقتي أروى في حالة النساء مثلًا، أن المرأة الحكيمة التي تشاكلت مع زوجها لا يجب في معظم الحالات أن تستشير صديقاتها، وبدلًا عن ذلك، يجب عليها أن تستشير إما رجلًا آخر يشرح لها «آلية» عمل أمخاخ الرجال ويساعدها في إيجاد الحلول (من وجهة نظر الرجل)، أو، امرأة كبيرة في السن لشرح نفس «الآلية»، أو بالطبع إنسانة متخصصة في العلاقات الأسرية. فالصديقات قد يحوفهن الكثير من الظروف غير الملائمة لإعطاء الاستشارة، كنقص الخبرة، أو الترابط العاطفي الدفاعي مع الصديقة، وطبعًا لكل قاعدة شواذ.
على كل حال، أعتقد أن نفس هذه الطبيعة هي التي تُعطينا الإحساس بأن الحال دومًا «أكثر اخضرارًا في الجهة الأخرى»، نعتاد أن نتمنى ما ليس في يدنا، حتى في مصدر النصيحة أو الاستشارة. وهذه طبيعة يحتاج الإنسان ترويض نفسه على مقاومتها.
نحاول تارة أن نُنصت قليلًا للمقرّبين، وتارة نذهب للمتخصصين الذين يملكون تاريخًا ناجحًا في تخصصهم. وكلمة السر هنا هي «الانصات» وليس الاستماع. ويظل التصالح عمومًا أمرًا محمود لكيلا نفقد الثقة في أنفسنا مهما حاولنا مشاركة أفكارنا التي يُنصت لها أحيانًا، وتُهمل أحيانًا كثيرة.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.