الفرق بين مشاهير «السوشل ميديا» وعمرو دياب، وماذا تعلمت من الأخير
هذه مقالتي الأخيرة المنشورة على هافينجتون-پوست عربي.
“إنت على طول على طول كده.. مركّز في شغلك!”، كان هذا تعليق واستفهام مذيعة قناة روتانا قبل بداية حفلته عام 2009، حاولت من خلال هذا التعليق أن تعاتبه بلطف على اختفائه شبه التام من جميع المقابلات والظهور الإعلامي.
مَن يعرف عمرو دياب معرفة سطحية سيعلم أن هذا الإنسان يكاد ينسى الجميع صوته في غير الغِناء! وأزعم أن مقابلة روتانا، قبل دخوله الحفلة في ذلك العام، كانت تحت ضغط ما، أو اتفاق معين أحرجه ليقبل الجلوس مع المذيعة الكريمة على مضض وهو يكرر للجمهور أكثر من مرة: “أهوه.. أهوه.. جيلكو دلوقتي.. بس أخلص!”.
يغني عمرو دياب منذ عام 1982 (34 سنة)، ولا أود أن أستغل هذه المقالة في تضييع وقت القارئ الكريم في ذكر إنجازاته وأرقامه القياسية التي حققها. أكثر ما عُرف عنه -خارج الإطار الغنائي- أمران وهما: قلة مشاركته أموره الخاصة مع الإعلام، وهيئته الجذابة التي تبدو أصغر كثيراً من عمره، والأخيرة لم تأته دون الأولى في رأيي.
لم نسمع -تقريباً- أي مشاكل جذرية من عمرو دياب طوال السنوات الثلاثين الماضية، كان كل معجبيه يتلقون منه الكثير من الأعمال بعيداً عن الانشغال في المشاكل التي لا يُفترض بهم الانشغال بها. أجد نفسي اليوم مثلاً أحد معجبيه ولا أود ولا يجب عليّ بصراحة، أن أشاهد تنقلاته ومشاكله الشخصية والمواقف الحساسة التي مر بها في حياته، فأزعم أنني كثير الانشغال ولدي أُسرة وأعمال أهتم بها، ولن تمنعني هذه الانشغالات بطبيعة الحال، عن الاستمتاع بأغانيه.
تابعت مؤخراً حسابه على الإنستغرام، لأفاجأ بأن معظم مشاركاته وهو يصور نفسه يتمرن في “الجيم”، ولو قررت أن آخذ هذا الأمر بشكل إيجابي -غير حيادي- فسأقول أن من في عمره (55 سنة) ووضعه الجماهيري يستحق أن يشارك مع الآخرين ذهابه اليومي إلى الجيم، لعل وعسى أن يكون هذا الأمر دافعاً لي شخصياً ولغيري من المعجبين للذهاب أيضاً.
يملك عمرو دياب أغلبية أعضاء فريق العمل نفسها منذ أكثر من 15 سنة، والعائلة نفسها (والزوجة) دون تغيير، ونفس الروح واللياقة والزخم، أيضاً دون تغيير! وعند تحليلي الشخصي لإنجازاته وأعماله، وجدت أن هناك الكثير من الأمور البسيطة والصعبة كانت قد اجتمعت خلف نجاحه. فهو شديد التركيز بالفعل على عمله، ويعي جدياً أن معجبيه تعودوا كل عام أعمالاً جديدة، ولن يحصل ويقبل منه أعمال “نص كُم” مخالفاً بها تاريخه الثقيلة، وإن لخصت كل ذلك في كلمة واحدة فستكون “الاستمرارية”.
لاحِظ أن أعماله تقريباً لم تنقطع منذ بدأ مشواره الفني، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر على المستوى نفسه، إن انشغل بأمور تُشغل أي إنسان عادي في هذه الحياة (مثل إدمان قنوات التواصل الاجتماعي، وإدمان الكلام أكثر من العمل).
أعتقد شخصياً أنه قسَّم حياته بالشكل التالي:
الأولويات (مع اختلاف الترتيب):
1. الأسرة (أو دائرته الخاصة)
2. الاستديو (وكل ما يتعلق بعمله وإنتاجاته)
3. الأكل الصحي، والجيم (صحته بشكل عام)
الأمور غير المهمة في حياته:
1. كل شيء آخر غير الأمور المذكورة في النقاط السابقة.
ويسأل سائل: هل جميع أغاني عمرو دياب رائعة؟ بالطبع، لا! لكن غزارة الإنتاج غطت على عيوب الأغاني التي لم تلقَ استحسان الجميع، أو كما يقول الكاتب الشهير راي برادبوري “Quantity Produce Quality”: “الغزارة تولد الجودة”. لا يمكن لأي فنان في أي مجال أن يحصل على جائزة مرموقة من العمل الأول -إلا بالطبع في بعض الحالات- ولكن سُنة الكون هي المثابرة من أجل النجاح، وسُنة البشر عدم تقبّل كل عمل يظهر بشكل مباشر يخرج به أي فنان في مجاله، وسُنة الإنجازات الاستثنائية أن يتبعها الكثير والكثير من الفشل.
أجد شخصياً أن تهاتف “مشاهير السوشيال ميديا” على الظهور بشكل يومي دون توقف، ودون العمل بتركيز “Deep Work” على أعمال تستحق الوقت والجهد لتُضيف إيجابياً إلى حياة المتلقي، قد خلقت معضلة في تركيبة الإنجاز، فيرى الواحد فيهم أنه بظهوره المستمر ودون توقف، سيكسب المزيد من الانتباه، والمزيد من أخذ المساحات من أشخاص آخرين كانوا يستحقونها.
ومشكلة الإعلام في هذه الأيام، أنه يتحملنا جميعاً، وأكثر ما أخشاه شخصيةً من الظهور المستمر (على السوشيال ميديا) دون عمل أو قيمة حقيقية، أمران؛ الأول: أن تقديم محتوىً تافه (بغض النظر عن مجال المحتوى) أصبح شديد الانتشار، يأخذ الكثير من التركيز والانتباه منّا خلال اليوم دون أن نشعر بمضي ساعات متفرقة على سناب شات وتويتر وفيسبوك، وعندما تسأل نفسك في النهاية: ماذا تعلمت؟ أو ماذا استفدت؟ سأجيبك وأقول، إن قضاءك وقتاً أطول في قراءة كتابٍ ما كان أفضل لك بكل تأكيد! والأمر الثاني، وهو أن المحتوى الجيد قد لا يأخذ بسرعة تلك المساحة نفسها من الزخم، ما يتطلب جهداً مضاعفاً لصاحبه للعمل عليه وإخراجه، بغرض سرقة مساحة أكبر من الأعمال غير الجيدة. ولكن عزائي الوحيد، أن الأمر الأخير هو الذي يشكل الفرق الحقيقي في حياة المتلقين، وهو الذي يبقى فترة أطول.
أجد أن الدروس المهمة التي خرجت بها باطلاعي البسيط على حياة عمرو دياب تمثلت بـ:
1. التركيز على العمل؛ بل والتكرم على الجمهور الكريم بعدم إشغالهم بأمور لا طائل منها!
2. الاستمرارية في العمل.. كل يوم.. وكل عام.. ودون توقف.
3. الفشل المستمر للخروج بعمل حقيقي.
4. خلق دوائر صغيرة من الأولويات، والاستغناء عن الأمور أقل أهمية.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.