المكان الخاطئ للنصيحة الخاطئة
طبيعة الإنسان تقوده للإدلاء بدلوه في أي موضوع يُسأل عنه. تخفُت غريزة الإفتاء كلما كان موضوع السؤال نوعيًا أو إن كان يتطلب خبرة محددة لا يمتلكها بقية العوام.
إن سألت أي إنسان عن رأيه في مطعم معروف سيُجيبك برأيه السلبي أو الإيجابي إن جرّبه من قبل (كزبون)، لكن تفاصيل الإجابة قد تكون مختلفة إن سألت طبّاخًا محترف، والذي قد يُعطيك رأيًا تقنيًا بحت، قد يخدم وقد لا يخدم الزبون العام للمطعم. عند رغبتك بزيارة المطعم اقترح أن تسأل زبونًا سابق، وعند رغبتك في افتتاح مطعم مشابه عليك الطبّاخ المحترف والزبون السابق.
وإن سألت أي بني آدم في الشارع في مسألة تخص الدين أو الشأن الاجتماعي أو الكرة أو الكورونا، قد يتحمس بالإدلاء برأيه بغض النظر عن إلمامه الكلي لموضوع السؤال، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه يعتقد أن مجرد ارتباطه لفترة طويلة بهذه المواضيع وانتشارها في الفضاء الإعلامي يعطيه حقًا غير معلن ليقول رأيه، بينما لا يستطيع أن يعطيك أي إجابة إن كان سؤالك سؤالًا نوعيًا يخص مثلاً الهندسة الفيزيائية أو تغيُر المناخ أو المقامات الموسيقية. ببساطة لأنه لن يسعى بشكلٍ متعمّد لهز صورته أمامك.
أي شخص يُسأل أو يُطلب منه استشارة يشعر بشيء من النشوة والفوقية، مهما كان السؤال بسيطًا أو معقدًا، وفي رأيي هذا ما يحفز الإنسان للميل إلى الإدلاء بدلوه في كل شاردة وواردة.
إلا إنني اليوم أود أن أُلفت النظر لنوع معين من الأسئلة، والتي أجدها بالغة الخطورة في تأثيرها أحيانًا على السائل والمسؤول.
وهو أن تسأل شخصًا في تخصص يعتقد أنه مُلِم فيه، لاقتراب تخصصه الرئيسي منه.
تقاطع التخصصات يجعل الإنسان حتى صاحب الخبرة النوعية أحيانًا يعتقد أنه يفهم أكثر من مجاله المحدود. أضرب على سبيل المثال صنعة «نشر الكُتب»:
مهنة «الكاتب» تختلف كليًا عن «المحرر» وعن «الناشر» وعن «الموزع» ما يتقاطع معها جميعًا الكتاب المنشور طبعًا، إلا إن كل واحد فيهم له عالمه الخاص وتحدياته المختلفة. ولا يعي أحيانًا الكاتب الجديد الفرق بينهم، وغالبًا ما يتجه لطلب النصيحة في المكان الخاطئ؛ كأن يسأل الكاتب عن العنوان الأفضل لكتابه القادم.. بدلًا من أن يسأل الناشر والموزع واللذان يتعرضان لعدد أكبر من الزبائن، وهم مُلمّين بذائقة المتسوقين القراء الذين يتمشون في أروقة المكتبات ومعارض الكُتب.
هذا النوع من الأسئلة نجده كثيرًا في حياتنا اليومية مثل أن يسأل أحدهم طبيب باطنة عن دواء جلدية شديد الأعراض الجانبية، ومثل ما يُشجع أحيانًا أخصائي المختبرات أو أطباء الأنف والأذن والحنجرة بالظهور بين الحين والآخر على الواتساب ليخبرونا عن فوائد الزنجبيل والليمون والعسل على الريق لصحة المعدة.
تقاطع التخصصات لا يعني أن الناصح بالضرورة شخصٌ كُفء للنصيحة.
نعلم أن مجرد البحث عن النصيحة أو المشورة أمرٌ مهم في حياتنا، لكنه لا يقل أهمية عن التأكد من التخصص الدقيق والنوعي لمقدم النصيحة.
في عالم الطب النفسي مثلًا، هناك تخصصات دقيقة لمعالجة الإدمان، أو الفقد، أو المشاكل الزوجية، أو الصدمات النفسية، أو الأمراض المزمنة وغيرها. وقد يكون طلب النصيحة من صاحب التخصص الدقيق يأتي بفعالية أكبر مما نعتقد.
وهنا ربما أشجع قبل طلب النصيحة على البحث قدر الإمكان عن المكان الأكثر دقة للحصول على النصيحة النوعية.
كأن نبتعد مثلاً عن كُتاب الخواطر في بحثنا عن نصيحة مع شريكنا الرومنسي.
أو أن نبتعد عن الكهربائي لاختيار أفضل أنواع الإطارات.
أو أن نبتعد عن مدرب النادي ليعطينا نصيحة تغذية لمريضي السكر.
كان الله في عون الجميع.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.