عندما يُفكر الرجل ويختلي بنفسه
لا يجذب ما يريد، بل ما هو عليه.
اصطبحت اليوم خلال الساعة والنصف التي خصصتها للقراءة الصباحية على النصوص التالية (ترجمتها إلى العربية) من كتاب As a man thinketh (كما يفكّر الرجل، 1902م) للكاتب جيمس آلين. فيها تأملات عجيبة ومفاهيم تستحق التمعّن.
عن تقلّبات النفس:
الإنسان عندما يبذل جهده بجدية لإصلاح عيوب شخصيته، ويحرز تقدمًا سريعًا وملحوظًا، فإنه يمر بتقلبات متوالية. فالنفس تجتذب ما تضمره سرًا وما تحبه وما تخشاه، وتصل إلى ذروة تطلعاتها العزيزة وتعود لتهبط إلى مستوى رغباتها غير المكبوتة، والظروف هي الوسيلة التي تتلقى بها النفس ما تستحقّه.
إن كل بذرة فكر تُزرع أو يُسمح لها أن تقع في العقل، وتترسخ فيه، تنتج بذورها، وتزدهر عاجلاً أو آجلاً إلى إلى أفعال، وتؤتي ثمارها الخاصة بها من الفرص والظروف. الأفكار الجيدة تثمر ثمارًا جيدة، والأفكار السيئة تثمر ثمارًا سيئة. إن عالم الظروف الخارجية يشكل نفسه مع عالم الفكر الداخلي، وكل من الظروف الخارجية السارة وغير السارة هي عوامل تصنع الخير النهائي للفرد. وباعتباره حاصد حصاده الخاص، يتعلم الإنسان بالمعاناة والنعيم على حد سواء.
وعن العدالة التي تفرض نفسها:
إن الإنسان لا يأتي إلى دار الفقراء أو السجن بطغيان القدر أو الظروف، بل عبر طريق الأفكار الوضيعة والرغبات الدنيئة. ولا يسقط الرجل نقي العقل فجأة في الجريمة بضغط أي قوة خارجية محضة؛ فالفكر الإجرامي كان قد ترعرع في القلب سرًا منذ زمن طويل، وساعة الفرصة كشفت عن قوته المتجمعة. فالظروف لا تصنع الإنسان، بل تكشفه لنفسه. ولا يمكن أن توجد ظروف مثل الانحدار إلى الرذيلة وما يصاحبها من آلام بصرف النظر عن الميول الشريرة، أو الصعود إلى الفضيلة وسعادتها الخالصة دون استمرار تنمية الفضيلة التطلعات؛ والإنسان. إذن، بما إن الإنسان سيد الفكر ومالكه، فهو من يصنع نفسه وهو من يصنع بيئته ومخرجاتها وصانعها.
حتى عند الولادة تأتي النفس إلى ذاتها، وفي كل خطوة من خطوات رحلتها على الأرض تجتذب تلك التوليفات من الظروف التي تكشف عن نفسها، والتي هي انعكاسات طهارتها، ونقائها، وقوتها، وضعفها. لا يجذب الإنسان ما يريد، بل ما هو عليه.
وحده الإنسان هو الذي يقيّد نفسه: الفكر والعمل هم سجّانين القدر... لا ينال الإنسان ما يتمنّاه ويصلّي من أجله، بل ما يناله بعدل إلهي. لا تتحقق أمنياته وصلواته وتُستجاب فقط عندما تتوافق مع أفكاره وأفعاله.
في ضوء هذه الحقيقة، ما معنى إذن «محاربة الظروف؟»
إن الإنسان يثور باستمرار على ما في الخارج، بينما هو طوال الوقت يغذي الإثارة والنشوء، بل ويحفظها في قلبه. قد يأخذ هذا شكل رذيلة بوعي أو ضعف من غير وعي.
ثلاثة أمثلة على الجهل:
إن الإنسان حريص على تحسين ظروفه، لكنه غير راغب في تحسين نفسه؛ لذلك يبقى مقيدًا.
إن الإنسان الذي لا يتوانى عن التضحية بالنفس لا يمكن أن يفشل أبدًا في تحقيق الهدف الذي وضع قلبه عليه. وهذا ينطبق على الأمور الأرضية كما ينطبق على الأمور السماوية. فحتى الإنسان الذي كان هدفه الوحيد هو الحصول على الثروة، يجب أن يكون مستعدًا لتقديم تضحيات شخصية كبيرة قبل أن يتمكن من تحقيق هدفه، فكم بالأحرى من يريد أن يحقق حياة قوية ومعتدلة؟
هذا رجل فقير فقراً مدقعاً. إنه حريص كل الحرص على أن يتحسن محيطه ووسائل راحته المنزلية التي يجب أن تتوفر له، ومع ذلك فإن كل الوقت الذي يتهرب فيه من عمله، ويعتبر أن له الحق في محاولة خداع صاحب العمل بحجة عدم كفاية أجره. إن مثل هذا الرجل لا يفهم أبسط أساسيات تلك المبادئ التي هي أساس الرخاء الحقيقي، وهو ليس فقط غير مؤهل تمامًا للنهوض من بؤسه، بل إنه في الواقع يجذب لنفسه بؤسًا أعمق من ذلك بإسهامه في أفكاره المتراخية والمخادعة وغير المسؤولة، وغير الرجولية.
ها هنا رجل غني. ضحية مرض مؤلم ومستمر نتج عن الشراهة. إنه على استعداد لبذل مبالغ كبيرة من المال للتخلص منه، لكنه لن يضحي بشهواته الشرهة. إنه يريد إرضاء ذوقه في المأكولات الغنية وغير الطبيعية وأن يتمتع بصحته أيضًا. إن مثل هذا الرجل غير مؤهل على الإطلاق للحصول على الصحة، لأنه لم يتعلم بعد المبادئ الأولى للحياة الصحية.
وها هو صاحب العمل الذي يعتمد تدابير ملتوية لتجنب دفع الأجر النظامي، وعلى أمل تحقيق أرباح أكبر، يخفض أجور العاملين لديه. مثل هذا الرجل غير مؤهل تمامًا للازدهار، وعندما يجد نفسه مفلسًا، سواء فيما يتعلق بالسمعة أو الغنى، فإنه يلوم الظروف، غير مدرك أنه هو المتسبب الوحيد في حالته.
لقد قدمت هذه الحالات الثلاث كمجرد توضيح لحقيقة أن الإنسان هو المتسبب في ظروفه (وإن كان ذلك دائمًا تقريبًا بدون وعي)، وأنه بينما يهدف إلى غاية حسنة، فإنه يحبط باستمرار تحقيقها بتشجيعه لأفكار ورغبات لا يمكن أن تتفق مع تلك الغاية. يمكن أن تتعدد هذه الحالات وتتنوع إلى ما لا نهاية تقريبًا، ولكن هذا ليس ضرورياً، إذ يمكن للقارئ، إذا ما قرر ذلك، أن يتتبع عمل قوانين الفكر في عقله وحياته، وإلى أن يتم ذلك، فإن الحقائق الخارجية المجردة لا يمكن أن تكون أساساً للاستدلال.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.