تخطى الى المحتوى

عن أهمية علاقتنا بالحلّاقين ومصففي الشعر

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
5 دقائق قراءة
عن أهمية علاقتنا بالحلّاقين ومصففي الشعر
Photo by Omar Lopez / Unsplash

في إحدى السفرات للخارج، ظهر مني سلوك غاضب على غير عادتي بسببٍ تافه لا أذكره، في الوقت الذي تتبع شخصيتي سِمة تتسم بالبرود وعدم الاكتراث للتفاصيل كما يقول بعض المقرّبين. لتعلِّق إحدى أخواتي باقتراح تناول الغداء في أسرع وقت «أحمد جاع، خلونا نتغدا!»، في إشارة بأن السلوك الغاضب كان سببه تأخر الغداء عليَ.

الإحساس بالجوع الذي أشعرني بالتوتر، يحاكيه بشكلٍ معاكس الشعور بالفرفشة الذي تعطيه زيارة صالون الحلاقة، المشترك بين الإحساسين عدم استيعابنا نحن الرجال بشكل دقيق عمّا يتلاعب بمزاجنا سلبًا أو إيجابًا. فإن جربت وتحدثت مع أي رجل خلال الساعة التي تلي خروجه من الصالون، ستجد أن مزاجه العام أصبح جيدًا، ومن النادر أن يُكون غاضبًا من شيء مع إطلالته الجديدة التي ستُغنيه مؤقتًا عن سفاسف الأمور.

وكإجراء علاجي: جرب واقترح على أي رجل مُتعب أو مُرهق نفسيًا بأن يقوم بزيارة حلّاقه المعتاد، ثم راقبه عن كثب بعدها، قد تلاحظ تبدُّل نفسيته رغم عدم استيعابه لهذا الأمر.

إزالة الشعر الزائد من جوانب الرأس لا يهذِّب شكل الرجل فقط، بقدر ما يعطيه إحساسًا عام بأنه أزال شيئًا أكبر معه. تشذيب اللحية أو حلقها لا يُصغِر الرجل بضعة أعوام فحسب، بل يعطيه إحساسًا بأنه قد امتلك وجهًا جديدًا يواجه به هذه الحياة، وقد يُعطيه ثقة مفرطة أمام المرآة تجعله يتمنى لحظتها مقابلة «سكارليت جوهانسون» أو «تشارليز ثيرون»، وفي بعض الحالات قد يتمنى لو استطاع رؤية إحدى نساء المراهقة لحظتها، الذين ضحوا بوسامته وتركوه اليوم نادمين.

نقلل من أهمية تأثير هذه الخيالات البسيطة على حياة الرجال، ففي الحقيقة يعيش معظمهم حياة رومنسية متكاملة.. داخل عقلهم فقط، وهذا ما يجعل الكثيرين منهم يقللون من تعابيرهم المرهفة أمام نسائهم، ربما لأنهم تشبّعوا بها وعاشوا معظمها مع أنفسهم، ولأن «الأنا» تمنعهم من الاقتراب من أيٍ من الأحاسيس المعبِّرة خشية التهكّم (فين الكلام الحلو دا من زمان؟) أو الاعتراض المبطّن (قلي ايش تبغا ونخلص)، خصوصًا بعد فترات طويلة من الارتباط.

يعتقد بعض الرجال أن ارتباطهم بالمهام الصعبة في الحياة (الفواتير والأقساط والمستقبل والقرارات المصيرية) يجب أن تبعدهم كل يوم عن امكانية إظهار اهتمامهم بالأمور شديدة البساطة وشديدة التأثير كشكلهم، خصوصًا عند تقدّمهم نسبيًا في السن.

الكلام المعسول؟ الحلاقة الجديدة؟ كيف لهذه الأمور أن تزاحم حلم بيت العُمر ودُفعات المدارس وقرار شراء سيارة سائق جديدة بعشرات الآلاف؟

قد يتردد الرجل مرتين قبل أن يسأل أي شخص أمامه «ما رأيك بالحلاقة؟» فهو إما سيواجه مجاملة سريعة متبوعة بموضوع آخر «نعيمًا عالحلاقة.. وجهك بان.. اتغديت؟»، وإما سيكتفي بأي رد لا يتناسب طرديًا مع ما كان في عقله من شخصيات وأحداث منذ لحظات، والتي اشتعلت برومنسيتها على يد الحلاق؛ عكس حالة النساء حينما يستثمرون بعض الوقت يعلّقون أو يناقشون فيها شكل صديقتهم التي غيرت لون أو قصة شعرها.

«فعلتها استعدادًا للحرب» يخبر جوزيه مورينهو المدرب الكروي الخمسيني الشهير صحفيًا سأله عن سبب حلاقة شعره على «الواحد» بداية أحد المواسم الكُرة مع نادي «تشيلسي الإنجليزي». وقد يكون هذا الأمر محاكاة لصنف آخر من الرجال الذين لا يودون التفكير بشكلهم إطلاقًا، فيتجهون إلى أسهل قَصّة شعر والتي لا تتطلب أي جهد أو تفكير، مع حلق كامل للحية أو إبقاء للشنب فقط. هم يريدون كرِجال تحويل فكرة أهمية الهندام والشكل الخارجي من مراتب عالية إلى أقصى أواخر مصفوفة الأولويات، كنوع من الاسترجال.

راقب سلوك أو صور رجال العائلة من بداية العشرين إلى الستين، ستكتشف أن حجم الاعتناء بالهندام والشكل اختلف تمامًا مع كل عقد، فكل الأمور الأخرى أصبحت أكثر أهمية من شكل العوارض أو السكسوكة وتسريحات الشعر، ليقف الشنب وحده مع بداية الكهولة معبرًا عن أسهل ما يتمناه الرجل في شكله، وإن كان هناك شعور بعدم الاقتناع، قد يتجه البعض للصبغة في محاولة لمنافسة الزمن وإخبار الذات بأن السوق مازال يتّسع لهم.

هناك من يؤمن أن وسامة الرجل «بونص» إضافي في حياته، مثلما يكون ثراء المرأة المادي «أمرٌ إيجابي ليس الأهم» في حياتها. وهذا ما قد يجعل دور الحلّاق (وأسعار الخدمات التي يُقدّمها الحلاقين) لا تمثِّل شيئًا بسبب انخفاضها إن قارنّاها مع ما تقدمه صوالين النساء.

عن علاقة المرأة بمصففي الشعر:

تتعدى علاقة المرأة كونها علاقة أنثوية تحاول من خلالها إبراز جمالها مع مصففي الشعر.

«شعر البنت بيكون أحياناً زي المراية اللى بتعكس علاقتها بنفسها.. يعنى لما تكون متضايقة من نفسها.. أو كارهاها.. شعرها يقصف أو يقشر.. لما تكون غضبانة.. محبطة.. مكتئبة.. شعرها يدبل وينكمش ويفقد بريقه.. ولما تبقى منشرحة ومقبلة على الحياة.. شعرها يطاوعها ويلين فى إيديها ويكتسى بلمعان الأمل..

البنت لما تحب نفسها.. بتهتم بشعرها.. وتراعيه.. وكأنه طفلها المدلل.. ولما تتأزم علاقتها بيه.. وتبدأ تهمله.. وتعامله كأنها رافضة وجوده.. اعرف فوراً إنها رافضة وجودها هي شخصياً» يصف الدكتور النفساني محمد طه علاقة الأنثى بشعرها في كتابه «لا بطعم الفلامنكو».

«كتير من البنات لما تمر بفترة اكتئاب أو صدمة عاطفية، تروح عند الكوافير تقص شعرها.. وكأنها بتحاول تتخلص من سواد الاكتئاب وكثافته، بالتخلص من بعض كثافة شعرها.. زى ما تكون بتغير مودها ومزاجها عن طريق تغيير شكلها.. وده ساعات بينفع فعلاً.. علشان احنا حالتنا النفسية بتتغير أحياناً من الخارج للداخل.. والكوافير هنا بيعمل اللى مايعرفش يعمله ألف طبيب نفسي».

وقد يتعارض كثيرًا تعليق الدكتور طه مع الحالة التقليدية في مجتمعاتنا الخليجية عندما تحاول المرأة أخذ موافقة مباشر من شريكها في تغيير لون أو قص شعرها. فهي بلغتها تود أن تُصبح إنسانة جديدة، وهو في منطقه (إن لم يُعط التصريح) يخاف من التغيير! هو فقط لا يريد أي مفاجآت، وهي تريد أن تشعر بأنوثتها.. وأحيانًا تريد أن تقلب حياتها رأسًا على عقب بتغيير شيء بسيط ممثلًا في شعرها، بينما لا يرى هو نفس الأهمية لهذا القرار، وقد تكون هذه الحالة من الحالات التي تُشعل الفتيل بينهم، فهو في وادٍ وهي في وادٍ آخر تجاه هذا القرار الذي يفترض به أن يخصها وحدها.

القص عندها مثل حالة الرجل.. تعني لها التخلّص من همٍ ما. واللون خاص بها، تود أن تستشعر البدايات الجديدة، كفترة ما بعد الولادة، وصباحية الزواج.. وأحيانًا صفحة جديدة بعد طلاق غير مأسوف عليه.

طول الشعر عند المرأة اختلف تاريخيًا كمقياس للجمال وأهميته في حياتها.. ففي مجتمعات المرأة غير الحُرّة كان «تمشيط» الشعر الطويل بشكلٍ منتظم لدى الجاريات مع الإبقاء على طوله رمزًا للعزوة والتسلية ومحاولة صارمة لتغيير الانطباع بأن شعرهن غير قذِر!

وفي القرني التاسع والثامن عشر، كان الشعر الطويل رمزًا خالصًا للجمال لدى الطبقة الارستقراطية، نذكر هنا (سيسي) امبراطورة النمسا والمجر والتي لم تنسجم في نمط حياتها مع البلاط الامبراطوري، والتي عُرفت بجمالها الخلّاب وحرصها على الاعتناء اليومي بشعرها الطويل كإحدى محاولات حرب إحساسها المتوتر في علاقتها مع زوجها ( الذي أحبها أكثر مما أحبته) الامبراطور فرانز جوزيف والذي اشتُهِر عنه سياسته الصارخة ضد الطبقات الدونية وإيمانه المُطلق برِفعة وكفاءة الارستقراطيين لإدارة شؤون الدولة والحياة.

أما اليوم فإننا قد نواجه صعوبة في إيجاد أميرة أو ابنة للطبقة الارستقراطية تحرص على تربية شعرها لمستوى يتعدى طوله منتصف الظهر، ربما لأن نمط الحياة الجديدة قد شجعهم على الفكرة التي تقول بأن الطول الأنسب للشعر هو الذي لا تحتاج فيه المرأة إلى ربطة شعر خلال يومها، «فالعملية» أهم من إبراز الجمال بطول الشعر، وبالطبع الاستشوار أسهل من التمشيط الذي يأخذ وقتًا طويل.

في ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٠م، اليوم الذي لحق وفاة والدي -رحمه الله- وجدت نفسي أبحث عن أي شيء سريع يخفف الشعور بفقدان طعم الحياة مع وفاة العزيز.. وجدت نفسي فجأة بعد الوصول من الولايات المتحدة بيوم على كرسي «شاهين»؛ الحلّاق الذي نزوره أنا ووالدي كل فترة منذ أكثر من عشرين سنة. يسألني حن حاله، وأخبره بأنه قد انتقل لرحمة الله.. يسكت للحظات، يعزيني مع قليل من الاستغراب وخوفه من عدم القدرة على التعبير، ليبدأ صامتًا بعدها بالحلاقة.

ولم يكن يعلم شاهين يومها، أنه قد لعب دور الطبيب النفسي!

الخلاصة لا تود أن تخرج عن تشجيع القارئ والقارئة الكريمة بتوطيد علاقتهم مع الحلاقين ومصففي الشعر.. ربما نحتاجهم أكثر مما نعتقد، بل تأكدت إنني أحتاجهم بأسعارهم المقبولة في بلداننا بعد أن كُنت أصرِف ما يقارب ٣٠ دولارًا عند كل زيارة (سيئة الجودة) عندما عشت في فلوريدا، وهو رقم كبير في عالم الحلاقين.

على كل حال، أصبح موعد شاهين على جدولي كل ثلاثة عشر يوم.

سيكلوجيا الإنسانشؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

عن العيش كشخص عادي في المنتصف

أحد أصدقائي العزيزين والمسؤولين في شركة «المحتوى» في البودكاست أخبرني الجملة التالية: «أداؤك عادي، ولا تملك قبولًا كبيرًا كمستضيف». لم يقل أداؤك سيئ، ولم يقل أداؤك خارقاً للعادة، قال بما معناه: «أنت مستضيفٌ عادي». «العادي».. هو شكل معظم حياتي. وهو موضوعي اليوم. وُلدت أصغر إخوتي، ولكنني اعتدت

عن العيش كشخص عادي في المنتصف
للأعضاء عام

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟

مقالة ضيف

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟
للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟