تخطى الى المحتوى

هل الموت مؤلم؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

ذات مرة تساءل يوسف: «تُرى.. هل الموت مؤلم؟»

كان هذا التساؤل هو الأخير الذي سأله الصحفي يوسف في رواية «صانع الظلام» التي كتبها الكاتب المصري الفذ تامر إبراهيم. ستمئة صفحة مُثقلة بالأحداث والتساؤلات والتشويق، لكن لم يستوقفني شيء فيها مثل ما استوقفتني إجابة هذا التساؤل الصعب والسهل…

«.. عمله في صفحة الحوادث منحه هذا السؤال ليقضي به ليلة من ليالي وحدته، يفكر في الأمر ويتساءل: هل الموت مؤلم؟

هناك من يقولون إنه ليس كذلك.. يقولون إن الطعنات لا تؤلم حقٍّا، بل ما تنزفه من دماء بعدها هو ما يقتلك.. إن الرصاصة لو أصابتك فلن تشعر بها.. إما سترحل وإما ستستيقظ لاحقًا في أحد المستشفيات لتجد من يخبرك بأنهم أخرجوا الرصاصة من جسدك وانتهى الأمر.

هناك من يقولون إن الموت غرقًا لا يؤلم.. حين تمتلئ رئتاك بالمياه وتفقد القدرة على التنفس فلن تشعر إلا بوعيك ينسحب منك ببطء كأنك تخلد إلى نوم لن تستيقظ منه أبدًا.. هكذا وبكل بساطة.. الأمر ذاته يحدث لمن يموتون في الحرائق والذين يخنقهم الدخان قبل أن تشوي النيران أجسادهم.. كل ما يحدث لهم هو أنهم يخلدون إلى النوم لا أكثر.

من تنقلب بهم السيارة لا يشعرون بشيء، ومن يهوون من أعلى يفارقون أجسادهم قبل أن يصطدموا بالأرض، ومن يُصعقون لا يجدون الوقت الكافي للتألم.. بل إن هناك من يقولون إن الموت بالسرطان ذاته لا يؤلم مع كل المسكنات التي يسكبونها في دمائك قبل أن تحتضر.

هناك من يقولون إنه لا يوجد موت مؤلم، لكنه -وأيًّا كانت طريقته- مؤسف حقًّا، والشيء الوحيد الذي قد يؤلم فيه هو مقدار الحُزن الذي يتركه في نفوس من سيفتقدونك حين تموت!».

يجرب بطل القصة يوسف طعنات من قلم.. تشعره بالألم لاحقًا، بألم شديد لا يُحتمل، يشعر مع هذه الطعنات بمجموعة مختلفة وكبيرة من الآلام، وربما يغير رأيه تجاه هذا التساؤل، فهو مؤلم لدرجة لا تُحتمل.. وربما مؤلم للدرجة التي تصيب الإنسان بنوعٍ من عدم الإحساس بعدها، فتبدوا قمة الألم.. ليست ألمًا، إنما فقدٌ للإحساس، أمام شعور اقتراب الموت.

تمامًا كما كان يُقال في حالة ربات البيوت المتزوجات من جنود حرب.. «يحارب الرجال في الحرب، وتحارب النساء بعدها».. تحارب النساء ألم الفقد، حتى تعتاد عليه. كبقية سُنن الكون في هذه الحياة، لكن الفرق هنا أن النساء تستمر في الحرب، والرجال ينتقلون إلى عالمٍ آخر.

—-

أغبط كُتاب الروايات المرعبة في الحقيقة، أغبط تامر إبراهيم وستيفن كينج وغيرهم، فمع كل كلمة ينثروها يزداد ابتعادهم عن الخوف خطوة، يعلمون أن العوالم والتساؤلات التي خلقوها لأنفسهم من خلال كتاباتهم تساهم في كبح الكثير من العُقد والمخاوف والأمراض الداخلية التي لا تستحق أن نعطيها قدرها. تتحول هذه المخاوف بقدرة قادر لمجرد كلمات، تُعيِّش القارئ ربما في جو مظلم، لتذكره أن الحياة جميلة بعدها، وقد تساهم في إعطائه الصبر على المخاوف التي لم يتساءل عنها من قبل.

تعلمنا مثل هذه الفنون مثلًا أنه لا ألم في هذه الدنيا مثل ألم الفقد. فقد عزيز أو فقد شيء عزيز نملكه.. كالصحة أو القدرة على التحمل أو حتى سيارة أو كلب. تجعلنا نستوعب أن التعايش والاقتناع بوجود الفقد في هذه الحياة، هو الخطوة الأولى للمضي قدمًا. فلا حياة دائمة، ولا نعمة مستمرة.. ولكن لا نزال نملك تلك القدرة الربانية الكريمة في الصبر والتحمل، والأهم منها.. القدرة على النسيان.

كُتب واختيارات للقراءة

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

اختيارات متفرقة ٢، ديسمبر ٢٠٢٣م

ربما سيعي القارئ العزيز أن الاختيارات المتفرقة تأتيه من ناحيتي عندما يتزامن توقيتها مع السفر، ولحرصي إلى عدم الانقطاع وضيق الوقت لكتابة مقالات طويلة، فإنني ربما أُرشِّح له بعض الاختيارات التي أجدها بالفعل تستحق المشاهدة أو القراءة، وها هي اقتراحين: * لقاء مارك مانسون مع علي عبدال (عن كيفية

للأعضاء عام

اختيارات متفرّقة، ديسمبر ٢٠٢٣م

أحاول أن أستثمر وقتي في الطائرة استثمارًا جيدة، لمحاربة الانتظار، وأيضًا، لوجود فرصة للانغماس في قراءات ومشاهدات أو استماعا متعمّقًا. ومن حسن الحظ أن رحلتي الأخيرة كانت خياراتها موفقة جدًا. أشارككم إياها: * للشباب المنضمين حديثًا لسوق العمل؛ مقالة مطولة للأخ والصديق فؤاد الفرحان، بعنوان:

للأعضاء عام

القراءة مع الكارديو

أصبحت أنتظر ساعة التريُّض على جهاز «الدراجة» أو «الإليبتيكال» كل يوم، لأنها في الحقيقة هي الساعة التي أضع فيها أمامي الآيباد وأقرأ بعمق، والسماعات – العازلة للصوت – موجودة على أُذني. أعيش وقتها إحدى أعمق ساعاتي خلال النهار، وأنا منغمس مع الأحداث والكلمات التي أمامي. أقرأ على الآيباد من خلال