تخطى الى المحتوى

عن التقاعد المبكّر: مقالة للمكروفين في حياتهم

التقاعد المبكر فكرة ساحرة. تستمد سحرها لأنها غير متناولة في اليد.

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
عن التقاعد المبكّر: مقالة للمكروفين في حياتهم
Photo by Luca Bravo / Unsplash

كل عام وأنتم بخير.

أترك لكم تأملًا ساحرًا عن الفكرة التي لا تغادر ذهن أي شخص معاصر. التقاعد المبكّر، حلم يذهب ويعود إلى مخيّلتي. أجاريه أحيانًا وأخمده أحيانًا أكثر. أخبر نفسي دومًا أن «عدم التقاعد» يعني الاستمرار في تأدية الأعمال المهنية (أو التجارية في حالتي)، ولا عيب في هذا الأمر، خصوصًا لمن أكرمهم المولى بحظوظ ونِعم لا حصر لها كما أكرمني بها بوجود شركاء عزيزين، وأعمال تجارية صغيرة تنمو ببطء.

كما أن نعمة امتلاك الإنسان ليومه يومًا بيوم لا يمكن وصفها إلا «الثروة الأعظم» كما يحب أن يصفها الاقتصادي مورجان هوسل، وهي ما أدّعي امتلاكي الشيء الكبير منه.

التقاعد المبكر في مخيّلتي هو قارب النجاة لحياة مليئة بأوقات الفراغ التي تُستثمر في الكتابة. والكثير من أوقات الفراغ مع من أحبهم، واللذين على الأغلب سوف لن يكونوا متفرّغين لي. إحدى أخواتي تقاعدت هي وزوجها من العمل منذ سنوات. تفتقد في هذا التقاعد فراغ أبنائها المكروفين في حياتهم والمنشغلين عنهم. يسافرون كثيرًا، ويتمنون أن يسافر أبناءهم معهم كثيرًا، إلا إن سنة الحياة لا تسير كما نخطط لها بالضبط.

💡
التقاعد المبكر فكرة ساحرة. تستمد سحرها لأنها غير متناولة في اليد. ننسى مع الافتتان بها أن الحياة بطولها وعرضها قد تكون سلسلة من النِعم والجماليات في تحدياتها والتزاماته. ننسى معها أن الإنسان يشعر بقيمته ووقته وجهده لأنه غير متقاعد.

يعلّمنا النص التالي أن هناك أشكالًا أخرى من التقاعد، ربما تستحق الانتباه لها.


واحدة من أكثر الأوهام شيوعًا وحميمية في عصرنا هي فكرة «التقاعد المبكّر».
تكثر المواقع الإلكترونية التي تعد بمساعدتنا في تحقيق هذا الحلم - بما في ذلك إدارة شؤوننا المالية، وتحديد المكان الذي يمكن أن نعيش فيه، ومساعدتنا في تحديد مدى قربنا من الشاطئ - أو ربما من الجبل. ومع ذلك، فإن ما نفتقده غالبًا خلال هذه المناقشات المتوهجة حول التقاعد المبكر، هو العمل الاستثنائي الذي يتم إنجازه من خلال مصطلح «التقاعد» الذي يبدو غير سيء.
تمكنت هذه الكلمة من تحقيق إنجاز مذهل: فهي تخدر كل من يسمعها للحظات وتدفعه إلى نسيان الضغوط الأساسية للمجتمع والقيم التنافسية الراسخة. إنه يجعل حالات التقاعس عن العمل مرغوبة للغاية، التي يمكن أن تبدو ببساطة سيئة أو مبتذلة تمامًا.
إن الشخص في مقتبل العمر الذي يفقد أي اهتمام بالذهاب إلى المكتب، ولا يهتم بالترقية، ولا يحاول جمع المزيد من المال، يمكن وصفه عادةً بالكسول. ما لم يعلن أن ما يريده القيام هو «التقاعد المبكر»، وعند هذه النقطة يتحول في أعيننا إلى شخصية رائعة [أو مقبولة الطموح].
نحن نعلم الآن أن مثل هؤلاء الأشخاص توقفوا عن العمل ليس لأنهم غير أكفاء أو لأنهم طردوا، أو لأنهم بسطاء من ناحية عقلية. بل على الأرجح أنهم كانوا جيدين جدًا في وظائفهم؛ لقد تخلوا عن العمل بحرية لتركيز انتباههم على مجموعة من الأشياء المثيرة للاهتمام التي ترضيهم أكثر بكثير. واللافت أننا في الوقت الحاضر لا نطرح فكرة التقاعد إلا فيما يتعلق بالعمل.
وهذا أمر مؤسف للغاية، لأن هناك الكثير من الأشياء الأخرى التي قد يكون من المهم للغاية بالنسبة إلينا أن نتوقف عن القيام بها، ولكننا نشعر بأننا مضطرون إلى الاستمرار فيها لأننا نتعرض لضغوط عقابية من الآخرين لكي نتوافق عنها.
«التقاعد» هي الكلمة التي يجب أن نتعلم استخدامها في شرحنا عندما نترك مجموعة من الأنشطة التي تعد ضرورية دون فقدان حقنا في أن نصنف كلطفاء. قد نكون أكثر حرصًا على التقاعد، على سبيل المثال، من السهر لوقتٍ طويل ليلًا، أو أن نتقاعد عن مشاهدة الأفلام، أو عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أو لقضاء عطلة في الخارج. أُسقَط فكرة الإعلان عن «التقاعد المبكر» فيما يخص الحفلات مثلًا.
عادة، إذا رفض شخص ما كل دعوة اجتماعية وبقي في المنزل، فسيُنظر إليه على أنه وحيد ومنعزل، وربما غير مناسب للصحبة البشرية. لكن لنفترض أننا نستطيع أن نقول إننا «تقاعدنا» من الحياة الاجتماعية؛ سيكتسب قرارنا فوراً شيئًا من النبل والهيبة.
سيُنظر إلينا على أننا نتخلى عنها ليس لأننا لم نستطع تحمل الآخرين أو لأننا حمقى أو لأننا لا نحظى بالقبول من مجتمعنا؛ بل سيكون المعنى الضمني هو أننا ربما كنا قادرين تمامًا على إجراء محادثة بارعة في أثناء حفلة ما، ولكننا قررنا: أننا فعلنا ما يكفي من هذا النوع من الأشياء، وسنركز بدلاً من ذلك على تعميق صداقاتنا مع شخصين أو ثلاثة أشخاص فقط. أو قررنا بدلًا من ذلك تعلم لغة جديدة مثلًا.
تنطبق نفس فكرة التقاعد عند النظر في الأمور المادية والتنافسية. يمكننا أن نتقاعد مثلًا عن فكرة امتلاك سيارة رائعة أو منزل كبير، ونعلن معها أننا «نتقاعد من المجتمع الاستهلاكي». في حين أن مثل هذه الخطوة عادة ما يُنظر إليها كعلامة على الفشل، ومع إضافة كلمة «التقاعد» إليها الآن، يمكننا أن نشير ضمنيًا إلى أن اهتماماتنا قد أُعِيد توجيهها عن طيب خاطر وذكاء نحو أهداف جمالية أو روحية أكثر.
إن الفكرة الحالية للتقاعد لا تتخيل ما قد يتقاعد منه الفرد.
في الغالب، تتمثل الرؤية في أن يتوقف المرء عن العمل حتى يتمكن من ممارسة الأنشطة الترفيهية في الهواء الطلق - التنس، والبستنة، والإبحار - وربما الانتقال إلى مكان يتمتع بمناخ أكثر اعتدالا. ولكن يمكننا أن نكون أكثر طموحًا بشأن ما نحرر أنفسنا منه وما نطمح إلى القيام به بدلاً من ذلك: يمكننا أن نتقاعد للتواصل على نحو أعمق مع عقولنا، أو لتطوير إمكاناتنا الإبداعية، أو السيطرة على القلق، أو لاستكشاف هويتنا.
يمكن أن يحدث ذلك إذا توقفنا عن الاهتمام كثيرًا بما يعتقده الآخرون تجاهنا. الإشارة إلى التقاعد يمكن أن تخفف الضغط على الآخرين. عندما نتقاعد من العمل، لا يشعر الناس بأننا خذلناهم - ربما يقيم لنا زملاؤنا حفلة، ويهنئوننا ويقولون كم سيفتقدوننا. وبالمثل، من خلال إعلان اعتزالنا الحياة الاجتماعية أو العلاقات، فإننا نوضح أنه لا توجد كراهية شخصية مكبوتة تؤثر في قرارنا.
نحن فقط ندير أولوياتنا. ومن المثير للسخرية أن النصائح الحياتية الموجهة للشباب تركز إلى حد بعيد على ما يجب القيام به في الحياة المهنية. وفي مجتمع أكثر حكمة، فإن التركيز سوف ينصب أيضاً على التقاعد في أقرب وقت ممكن.
إن مجتمعاتنا حريصة جدًا على أن نعيش حياة مزدحمة وتنافسية ومعقدة. يجب أن نعرب عن شكرنا على الاقتراحات ذات النيات الحسنة، وبعد ذلك، في أقرب وقتٍ ممكنٍ ودون التسبب في أي إساءة لأي شخص، نعلن تقاعدنا المبكر باسم الحياة الأبسط والألطف التي نتوق إليها.

- من سلسلة «مدرسة الحياة»، كتاب حياة أبسط: دليل لمزيد من الصفاء والسهولة والوضوح (ص 148-151).

عن العمل وريادة الأعمال

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

في تعليق الشهادات على الجِدار

يعترف لي صديقي العزيز قبل أيام، أنه بعد قراءته لكتاب «وهم الإنجاز»، قام بإزالة كل الشهادات التي حصل عليها في حياته المهنية من الجدار خلف مكتبه. ويعتقد مازحًا إنني كُنت سببًا لكسر فرحته بها. صديقي هذا من خيرة الشباب الناجحين (وشديدي التهذيب)، وبعد أن اعترف، أخبرته بصدق

للأعضاء عام

بعض الأفكار لتحدّي النفس

أسهل طريق للتخلّص من شخص مزعج، أو شكّاء، أو سلبي في حياتنا هي مقاطعته. لكنه ليس الطريق الأصح.

بعض الأفكار لتحدّي النفس
للأعضاء عام

بكم تعلن؟

أدردش مع أحد أصدقائي العزيزين قبل يومين، وأخبره أن معظم الناس - من ملاحظتي لهم - يُحبون قوائم الاقتراحات بكل أشكالها: اقتراحات القراءة، والمطاعم، وأماكن الترفيه، وآخر الاكتشافات المنزوية. وكلما كانت الاقتراحات شخصية وبسيطة، كلما كانت استجابة القرّاء لها أعلى. أحد أصدقائي من دولة البحرين، صور زيارته هو

بكم تعلن؟