اللقاء الأخير
في وقتٍ ما في ٢٠١٨م، قام أحد الأحبة في تويتر بعمل «منشن» لي على قطعة، كان قد كتبها الأخ الكريم سلطان ثاني من سلطنة عُمان، وهنا جُزء منها:
في محطة للوقود اعتدت على ارتيادها لأسباب كثيرة غير التزود بالوقود، وغسيل السيارة، ومحل الحلاقة، والصيدلية، ومساحة لألعاب الأطفال، ومحل لبيع العصائر وآخر للمواد الغذائية، في محطة الوقود الواقعة على شارع الخير «بالمعبيلة» كان لقائي الأخير مع صديقي محمد، اتصل بي وأخبرني أنه سيُحضر لي كتاب…
قال لي وبكل ثقة، أن الكثير من قناعاتي ستتغير بعد قراءة الكتاب، وفعلًا كان التغيير كما أخبرني. كان التغيير الذي أحدثه الكتاب على المستوى العملي، أمّا التغيير الذي أحدثه اللقاء الأخير فقد كان درسًا من أعظم دروس الحياة، وللقاء الأخير طاقة على إحداث الكثير من التغيير خصوصًا حين نعرف أنه اللقاء الأخير إلا بعد فوات الأوان. وكان آخر عهدي بمحمد كتاب، الكتاب الذي احتفظت به لأشهر كذكرى قبل أن أتبين أن هناك من هو أحق به وأن له مكانه الصحيح الذي لا بد أن يعود إليه، وصار مروري على ذات المحطة لها طعم لم أعهده من قبل، طعم بين الحزن والرضى والاشتياق.. وهل بين الحالات الشعورية حدود؟! لا أظن ذلك، ولا حتى أنتي يا مسقط تؤمنين أن شعورًا ما قد يكون في معزل، بل إن الشعور كالألوان لا حصر لها ولا عد حتى وإن كانت لها درجات لونية تميز لونًا عن غيره، لكن ما بين اللون واللون مساحات من الظن والرأي، وكذلك المشاعر، فما بين الشعور والآخر مساحات تختلط فيها المشاعر ببعضها، تختلط فيها باللحظة والمكان، ولا تشبه اللحظة الأخرى كما لا يشبه المكان.. المكان، لذا يستحيل أن نصنف المشاعر أو أن نحدها في أنواع معدودة.
حكى لي أخي وصديقي هُناك هيثم الرحبي عن أمر المرحوم محمد النهدي والذي أهدى سُلطان الكتاب «كانوا شبابًا من خيرة شباب عُمان، وكان محمد أحدهم…» اختارتهم إرادة الله في حادث، لينتقلوا إلى رحمته الثلاثة ويبقى السائق.
استمرت القصة في ذهني، كيف لإنسان أن يترك ذكرى على من حوله بالحرص على إخبارهم أن يقرأوا كتاب؟.. كيف يكون لمثل هذا الحدث وجود في مكانٍ ما يبعد عن كاتبه آلاف الكيلومترات، لا يعلم عنه أو يسمع به شيء سوى بالصدفة؟.. تواصلت مع سُلطان، في محاولة مني للتأكد أن كانت هذه القصة حقيقية أم روائية (قبل أن أعرف حقيقتها)، اتفقنا مرارًا على اللقاء، حتى أكرمني الله وتفضّل عليَ بلقائه سريعًا في لوبي الفندق في زيارتي الأخيرة لمسقط.
«ما هي القصة؟» سألته.. ليُجيب «طلبت في تويتر اقتراحًا لكتاب سيُغير حياتي، واقترحت الآنسة فاطمة كتابك (ثورة الفن)، ليُعقّب محمد النهدي عليها بوعد بإهدائه الكتاب لي في أقرب فرصة» وهذا ما حصل في المحطة.
الكثيرين حول محمد تعرفوا على شخص يبحث مثلهم عن الأحلام، يسكن في مكانٍ ما في مدينة جدة. يدّعي صدقه وإيمانه فيما يقول. ولسببٍ ما، وصلهم ما أراد أن يقول، أو بالأصح وصلتهم الرسالة، حتى وإن لم يكتب الله لبعضهم أن يعيشوا معها ومع رسائلهم.
في طُلمة التساؤل كل يوم.. ظهر لي سُلطان مع قصته وجمال روحه. اعتذر عن عدم حضوره لورشة العمل التي قمت بها في مسقط، وعلّق «طلبت مني فاطمة (خطيبة المرحوم) قبل يومين من الورشة -إن حضرتها- بأن لا أذكر لك أي تفاصيل عن هذا الحادثة، ولا أن أقترب من سيرة كتابي القادم «حدثتني مسقط» وعن ذكري لقصة محمد ومع إهداءه لي كتابك. وبالمناسبة.. كانت قد حضرت لك.»
سألته عنها.. وعن إن كانت قد حضر جزء منها لأن محمد كان سيحرص على الحضور ويُعرفني بنفسه ويُسلم عليَ. استوعبت لحظتها، أنه من العبث أحيانًا أن نبحث عن إجابات لأسئلة لا يُفترض بها أن تُسأل. واكتفى بالرد عليَ أن حفل زواجه كان سيلحق يوم الحادث بشهر. إلا أن المشيئة كانت أسرع.
«هل تعلم أخي أحمد!.. لماذا اختار الله عز وجل أن يكون الإسلام من خلال رسالة من رسول؟.. لماذا كل الأديان في هذا العالم جاءت من رُسل؟ لأن حكمة الله اختارت أن يتلقى الإنسان رسالته إن كان مستعدًا لها، كل إنسان في هذا العالم يستقبل رسائله، ويملك رسائله الخاصة ليعيش من أجلها ويقدمها للآخرين.. كانت إحدى رسائل محمد أن يخبر الآخرين ويهديهم ما كتبت».
لا أعرف لماذا تأثرت للحد الذي كاد أن يجعلني أستأذنه، لأُنفِس عن نفسي بعيدًا عنه. فأنا بالكاد أعيش مع ظنوني وحياتي وتقلباتها.. نعم، أخبر الآخرين ما أود أن أخبرهم به، لكنني مثل الكثيرين في هذا العالم، لا أملك اليقين أحيانًا تجاه أمري ورسالتي.
«استمر..» وكأن أخي سُلطان يقرأ أفكاري.
يختار دومًا القارئ ماذا يريد أن يقرأ، ولا يستطيع أن يختار الكاتب من يقرأون له.. مع الأسف. انكبيت، على نفسي لدقائق بعد أن ذهب سُلطان، راجعت الكثير من الحسابات التي لم أكون مشغولًا في بحثها وسط الزحام. استمر عقلي في العمل ليومين. كيف لي أن أعرف أن هناك أشخاصًا يقرأون لإنسانٍ مقالاته وعبثه وكلماته، وليس بالضرورة أن يتفاعلون معه؟.. لماذا لا نملك القدرة على لقاء كل من أعطانا وقته وجزءً من روحه. لماذا اختارت هذه الحِرفة أن تكون وحيدة؟.. لأقول لنفسي أحيانًا: يا أخي لا أود أن أكون وحيدًا في معظم يومي.. إن كان لي الخيار.
يسعُل الكاتب من خلال كلماته، يُفضفض، يكون قاسيًا على نفسه وعلى الآخرين، ويبحث مثل التائه عن شيء لا يعرفه، يظل يكتب ويكتب، ويعتقد أنه اختار الكتابة، وهي في الحقيقة من اختارته. أؤمن أنها وسيلة لحل العُقد والتعبير عن الذات وإخبار الآخرين أنه معهم يواجه ما يواجهونه. تختفي نواياها وعبثها مع زحمة الحياة، وتعود لتوبخ صاحبها وتذكّره أنه سيعيش في شيء من الصراع لبقية حياته. فإما أن يكتب، وإما أن ينشغل بالتفكير عن ماذا سيكتب.
ستكون الكتابة هي الرسالة.. حتى يأخذ الله أمانته. وعسى أن تُبقي على شيء من تأثيرها على بناتي ومن حولهم. وحتى ذلك الوقت، سأقول لأخي محمد ومن مثله الذين لم ألتقي بهم.. شكرًا يا سيدي، أعدك بالصدق والاستمرار.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.