لا نحتاج للمزيد من المطاعم الغالية
خضت في نقاش مؤخرًا مع إحدى الآنسات حول مفهوم جديد لأحد المطاعم التي قررت أن تبدأ نشاطها مؤخرًا في مدينة جدة. المطعم (أو المكان) الذي لا أفُضِّل ذكر اسمه، يستهدف فئة محددة من العملاء، وهم أبناء الطبقة المخملية، أو كما يفضّل المكان أن يسمّيهم «العملاء الحصريين». فكرة المكان باختصار أن يقوم العميل المرتقب بتسجيل اسمه في القائمة، دون وعدٍ صريح بقبوله مباشرة، بغض النظر عن رغبته أو قدرته على دفع تكاليف اشتراكه السنوية، التي تتجاوز الخمسة عشر آلاف ريال، كخيار ضمن باقة من الخيارات.
بمجرد أن يتمم التسجيل، وعند القبول به، سوف يتم تصميم قائمة طعام خاصة به (وبالمشتركين الآخرين الذين يملكون احتمالية زيارة المكان معه). الوعد الصريح الذي يعطيه المطعم لعملائه هو: الحصرية والامتياز الذي لا يملكه جميع من حوله، بداية بقبوله أصلًا، وانتهاءً بتخصيص قائمة طعام غير مكررة الأصناف مع العملاء الآخرين.
فكرة المكان أشعرتني بشيء من الانزعاج، لعدة أسباب اجتماعية وعملية، ربما سيستوعبها القارئ الكريم في السطور القادمة.
١. من الناحية النفسية، ومن ناحية المبدأ: فكرة الحرص المعلن للحصول على تعامل خاص بهذا المستوى، في رأيي هو النقيض لتهذيب الذات على الثقة بالنفس. فبدلًا من أن يحاول الإنسان العادي البحث عن سيرة عملية واجتماعية، أو من خلال أعمال أو إنجازات تجعله مستحقًا للحب والتقدير والاحترام.. وأخيرًا، الحصول على ثقة أكبر بالنفس، قد نجده يختصر الطريق بالوجود في مكان شديد الغلاء، يستطيع إخبار الآخرين أنه من نادِ الحصريين، ولا يمكن للمتابع العادي أن يكون متواجدًا فيه.
٢. في البحث عن المكانة: أعي تمامًا أن طبيعة الإنسان تقوده دومًا إلى رغبة الحصول على أقصى درجات الحب والتقدير والاحترام، وهذا حقٌ مشروع، إلا أن دفع مبالغ – مستدامة أو مؤقتة – لإثباتها هو الطريق الأقصر لها ربما، إلا إنها في الوقت نفسه الطريق الأسرع إلى زوالهم. نشهد مثلًا في مدينة جدة ارتيادًا كبيرًا لأحد المطاعم المعروفة الغالية (قيمة الشخص تتجاوز الستمئة ريال) في شهر رمضان كل عام. ودون ذِكر اسمه، ربما سيعرفه معظم قرّاء هذه المقالة من سكان جدة. مشكلتي بالتأكيد ليست في المطعم نفسه ورقي خدمته وأطباقه، بل في سلوك بعض المرتادين له، الذي يتّسم بالزيارات اليومية التي لا تنتهي طوال الشهر الفضيل.
وعندما قررت أن أسأل أصحاب رؤوس الأموال (Old Money) والتجّار الكِبار من حولي (الذين تعبوا في تكوين ثرواتهم خلال سنين طويلة)، اكتشفت أن لا أحد منهم كان قد زار المطعم من قبل، أو على الأقل كانوا قد زاروه مرة أو مرتين طوال حياتهم. هذا الاكتشاف أصابني بشيء من الحيرة، فلا يستطيع العميل العادي إتمام زيارات مستدامة لهذا المكان طيلة الشهر الفضيل التي قد تكلّفه أكثر من عشرة آلاف ريال سعودي. إذاً، من هم المرتادين اليوميين؟ وهذه الإجابة قد تزيد من الحيرة إن استوعبنا أنهم قد يكونون أبناء من ذكرناهم الذين يسعون للانضمام إلى نادي المكانة والحصرية، أو سيدات أعمال وشباب لا يملكون مسؤوليات مادية كُبرى، أو فئة أخرى من الشباب فضّلوا صرف هذه المبالغ على ادخارها واستثمارها لمستقبل أفضل. والله أعلم.
قد يكون الدافع حول الزيارة اليومية، هو تسجيل الدخول لنادي الحصريين، وقد يكون أيضًا عدم استيعابٍ أصيل أن سعر المكان مرتفع حقًا على زيارة شبه يومية طوال شهر. وكلا الأمرين يشكل مشكلة أكبر من الأخرى.
عدد المطاعم والمقاهي التي أصبحت تُغلق من شدة المنافسة (بكل فئاتها) أكبر من التي تُفتح. هذا ليس رأياً شخصياً، بل أمرٌ ملحوظ لدى العملاء العاديين أمثالي، ولدا الكثير من مستثمري المطاعم الفاخرة بالتحديد. وفي حديث لرجل الأعمال الأستاذ فيصل شاكر ذكر أن أحد أنجح المطاعم التي كانت قد أسستها شركتهم، لم تخرج من عنق الزجاجة بعد، بل إنها مطاعم ليست رابحة بلغة الأرقام، رغم كثافة الزوار النسبية. وهذا ما قد يزيد التحدي الكبير في البقاء في السوق.
٣. مع حالة التضخم الحالية التي أصابت كل العالم بعد الجائحة، سنكتشف أن التحدي لدى المطاعم والمقاهي، ليس أن تقوم بإنشاء فروع أو أفكار جديدة، بقدر محاولة الاستماتة للوصول إلى تجربة تغطي ثلاثة جوانب: «الطعم، القيمة مقابل السعر، تجربة العميل». هذه الثلاث نقاط صعبة لدرجة لا نجد إلا القليلين من أصحاب المطاعم والمقاهي كانوا قد وصلوا إليها، وهي بطبيعة الحال قد تساعد العميل العادي في استدامة زيارته. تناولت مثلًا طعام العشاء ليلة البارحة في أحد مطاعم البرجر التي تقدّم خيارين فقط: ١. برجر مصنوع من لحم الواجيو الفاخر، و٢. بطاطس مقلية. بسعر لم يتجاوز الخمسون ريالاً مع المشروب. كان المطعم شديد الاقتصاد في الديكور والخدمات الأخرى، استطاع أن يعطي العميل أفخر ما يمكن أن يعطيه في وجبة برجر، بسعر منخفض، وسرعة قصوى. هذه التركيبة، ستجعله ربما الخيار الأفضل بدلاً من مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية، ومطاعم البرجر المحلية الأخرى. وهنا الشطارة. سيستطيع العميل الغلبان، والمتوسط، والثري الحصول على نفس التجربة (وإن كانت سريعة نسبية) دون أن يضطر أحدهم إلى القيام بتضحية مالية كُبرى، ولأن المطعم كان شديد الاقتصاد في الأمور الجانبية، فإن احتمالية إغلاقه ستكون في أدنى مستوياتها، لأن المصاريف الثابتة مستقرة في حدّها الأدنى.
نحتاج مثل هذا المطعم عشرات النسخ في أكلات غير البرجر. ولا نحتاج المزيد من الخيارات الحصرية.
٤. تركيز بعض شباب وشابات الأعمال على فكرة «أنا عملائي حصريين أو مميزين» فكرة مستهلكة في رأيي، إن قررنا التركيز عليها عند كل مشروع مطعم أو مقهى جديد. فالحصريين يملكون بدلًا من الطبّاخ، طباخين في منزلهم، وانشغالهم الدائم يجعلهم مقرّبين للسفر المستمر أكثر من ميلهم إلى تجربة المطاعم الفارهة المحلية، وأيضًا، نمط حياتهم الذي لا يدور حول المطاعم والمقاهي بقدر ما يدور حول الكفاءة الحياتية.
أن تفتح مطعمًا فاخرًا أمرٌ سهل نسبيًا أن امتلكت الكثير من المال. لكن الوصول إلى تركيبة «الطعم، القيمة مقابل السعر، تجربة العميل» هي التحدي الحقيقي إن حاولنا الوصول لها في تغطية الطبقة المتوسطة، وهي ما نحتاج أن نبحث عنه أكثر من ميلنا إلى فئة الـ ١٪ من المجتمع.
سيقول قائل أنني قد خلطت أوراق مطاعم الوجبات السريعة مع المطاعم الفاخرة (Fine Dining Restaurants). ورغم صحصحتي لهذا الفارق، إلا إن رسالتي اليوم لا تود أن تخرج عن إقناع المستثمرين في هذا القطاع بالابتعاد عن فكرة الحصرية قليلًا، التي تغذّي - دون قصد - أسوأ ما في نفوسنا نحن العملاء، وأيضًا الفرص الضعيفة للبقاء على قيد الحياة في السوق. وثانية، استذكار أن نسبة الأعمار الصغيرة الطاغية في مجتمعنا قد تحتاج إلى خيارات عملية ممتازة، أكثر بكثير من فكرة الانغماس في نادي الحصرية غير المستدام. نادي الحصرية الذي يهدد ارتياح العملاء وارتياح المستثمرين.
والله من وراء القصد.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.