لا نحتاج للمزيد من المطاعم الغالية
حُدِّثت في ١٥ فبراير ٢٠٢٥م
أحد المطاعم (أو الأماكن) قرر أن يبدأ نشاطه مؤخرًا في مدينة جدة، يستهدف المحل فئة محددة من العملاء، وهم أبناء الطبقة المخملية، أو كما يفضّل المكان أن يسمّيهم «العملاء الحصريين». فكرة المكان باختصار أن يقوم العميل بتسجيل اسمه في قائمة تُشبه قائمة الانتظار، دون وعدٍ صريح بقبوله مباشرة، بغض النظر عن قدرته على دفع تكاليف اشتراكه السنوية، التي تتجاوز الخمسة عشر آلاف ريال، كخيار ضمن باقة من الخيارات.
بمجرد أن يتمم التسجيل، سوف يتم تصميم قائمة طعام خاصة به (وبالمشتركين الآخرين الذين يملكون احتمالية زيارة المكان معه). الوعد الصريح الذي يعطيه المطعم لعملائه هو: «الحصرية والامتياز» الذي لا يملكه جميع من حوله، بداية بقبوله أصلًا، وانتهاءً بتخصيص قائمة طعام غير مكررة الأصناف مع العملاء الآخرين.
فكرة المكان أشعرتني بشيء من الانزعاج، لعدة أسباب اجتماعية وعملية، ربما سيستوعبها القارئ الكريم في السطور القادمة.
١. الغلاء كطريق مختصر للمكانة: فكرة الحرص المعلن للحصول على تعامل خاص بهذا المستوى في رأيي هو النقيض لتهذيب الذات على الثقة بالنفس.
فبدلًا من أن يحاول الإنسان العادي البحث عن سيرة عملية واجتماعية، أو من خلال أعمال أو إنجازات تجعله مستحقًا للحب والتقدير والاحترام؛ وأخيرًا، الحصول على ثقة أكبر بالنفس، قد نجده يختصر الطريق بالتواجد في مكان شديد الغلاء، يستطيع إخبار الآخرين أنه من نادِ الحصريين، ولا يمكن للمتابع العادي أن يكون متواجدًا فيه.
٢. شراء المكانة يبيعها بسرعة: أعي تمامًا أن طبيعة الإنسان تقوده دومًا إلى رغبة الحصول على أقصى درجات الحب والتقدير والاحترام، وهذا حقٌ مشروع، إلا أن دفع مبالغ – مستدامة أو مؤقتة – لإثباتها هو الطريق الأقصر لها، وهي في الوقت نفسه الطريق الأسرع إلى زوالهم.
نشهد مثلًا في مدينة جدة ارتيادًا كبيرًا لأحد المطاعم المعروفة الغالية (قيمة الشخص تتجاوز الستمئة ريال) في شهر رمضان كل عام، ودون ذِكر اسمه الذي يعرفه معظّم سكّان جدة، فإن سمة المرتادين هي التواجد المستمر طوال أيام الشهر الفضيل وكأن هناك ميزانية مخصصة ضمن ميزانية ملابس العيد والبخاشيش قد حُدِّدت لهذا المكان للتواجد المنتظم وشبه اليومي فيه، هذا الحِرص يكشف الكثير عمّا يجب أن نخبئه من سلوكنا. عندما قررت أن أسأل التُجّار العريقين حولي (الذين تعبوا في تكوين ثرواتهم خلال سنين طويلة)، اكتشفت أن لا أحد منهم كان قد زار المطعم من قبل، أو على الأقل كانوا قد زاروه مرة أو مرتين طوال حياتهم. هذا الأمر أصابني بشيء من الحيرة، فلا يستطيع العميل العادي إتمام زيارات مستدامة لهذا المكان طيلة الشهر الفضيل التي قد تكلّفه أكثر من عشرة آلاف ريال سعودي. وسألت السؤال: إذاً، من هم المرتادين اليوميين؟ وهذه الإجابة قد تزيد من الحيرة إن استوعبنا أنهم قد يكونون أبناء التُجّار وليسوا التُجّار أنفسهم، أو هم سيدات أعمال وشباب لا يملكون مسؤوليات مادية كُبرى، أو فئة أخرى من الشباب فضّلوا صرف هذه المبالغ على ادخارها واستثمارها لمستقبل أفضل. والله أعلم.
قد يكون الدافع حول الزيارة اليومية، هو تسجيل الدخول لنادي الحصريين، وقد يكون أيضًا عدم استيعابٍ أصيل أن سعر المكان مرتفع حقًا على زيارة شبه يومية طوال شهر. وكلا الأمرين يشكل مشكلة أكبر من الأخرى.
عدد المطاعم والمقاهي التي أصبحت تُغلق من شدة المنافسة (بكل فئاتها) أكبر من التي تُفتح. هذا ليس رأياً شخصياً، بل أمرٌ ملحوظ لدى الكثيرين. في حديث لرجل الأعمال الأستاذ فيصل شاكر ذكر أن أحد أنجح المطاعم التي كانت قد أسستها شركتهم، لم تخرج من عنق الزجاجة بعد في معادلة الربحية، رغم كثافة الزوار النسبية. وهذا ما قد يزيد التحدي الكبير في البقاء في السوق بالنسبة لُملّاك المطاعم من زاوية أخرى.
٣. مع حالة التضخم الحالية في العالم، سنكتشف أن التحدي لدى المطاعم والمقاهي، ليس أن تقوم بإنشاء فروع أو أفكار جديدة لتقليل التكاليف، بقدرما هي محاولة الاستماتة للوصول إلى تجربة تغطي ثلاثة جوانب رئيسية لدى المطاعم: «الطعم، القيمة مقابل السعر، تجربة العميل». هذه الثلاث نقاط صعبة لدرجة لا نجد إلا القليلين من أصحاب المطاعم والمقاهي كانوا قد وصلوا إليها، وهي بطبيعة الحال قد تساعد العميل العادي في استدامة زيارته.
تناولت مثلًا طعام العشاء ليلة البارحة في أحد مطاعم البرجر التي تقدّم خيارين فقط: ١. برجر مصنوع من لحم الواجيو الفاخر، و٢. بطاطس مقلية. بسعر لم يتجاوز الخمسون ريالاً مع المشروب. كان المطعم شديد الاقتصاد في الديكور والخدمات الأخرى، استطاع أن يعطي العميل أفخر ما يمكن أن يعطيه في وجبة برجر، بسعر منخفض، وسرعة قصوى. هذه التركيبة، ستجعله ربما الخيار الأفضل بدلاً من مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية، ومطاعم البرجر المحلية الأخرى. وهنا الشطارة. سيستطيع العميل الغلبان، والمتوسط، والثري الحصول على نفس التجربة (وإن كانت سريعة نسبية) دون أن يضطر أحدهم إلى القيام بتضحية مالية كُبرى، ولأن المطعم كان شديد الاقتصاد في الأمور الجانبية، فإن احتمالية إغلاقه ستكون في أدنى مستوياتها، لأن المصاريف الثابتة مستقرة في حدّها الأدنى.
نحتاج مثل هذا المطعم عشرات النسخ في أكلات غير البرجر. ولا نحتاج المزيد من الخيارات الحصرية.
٤. تركيز بعض شباب وشابات الأعمال على فكرة «أن عملائي حصريين أو مميزين» فكرة مستهلكة في رأيي. فالحصريون يملكون بدلًا من الطبّاخ، طباخين في منزلهم، وانشغالهم الدائم يجعلهم مقرّبين للسفر المستمر أكثر من ميلهم إلى تجربة المطاعم الفارهة المحلية، وأيضًا، نمط حياتهم الذي لا يدور حول المطاعم والمقاهي بقدر ما يدور حول الكفاءة الحياتية.
أن تفتح مطعمًا فاخرًا أمرٌ سهل نسبيًا أن امتلكت الكثير من المال. لكن الوصول إلى تركيبة «الطعم، القيمة مقابل السعر، تجربة العميل» هي التحدي الحقيقي إن حاولنا الوصول لها في تغطية الطبقة المتوسطة، وهي ما نحتاج أن نبحث عنه أكثر من ميلنا إلى فئة الـ ١٪ من المجتمع.
سيقول قائل أنني قد خلطت أوراق مطاعم الوجبات السريعة مع المطاعم الفاخرة (Fine Dining Restaurants). ورغم صحصحتي لهذا الفارق، إلا إن رسالتي اليوم لا تود أن تخرج عن إقناع المستثمرين في هذا القطاع بالابتعاد عن فكرة الحصرية قليلًا، التي تغذّي - دون قصد - أسوأ ما في نفوسنا نحن العملاء، وأيضًا الفرص الضعيفة للبقاء على قيد الحياة في السوق. وثانية، استذكار أن نسبة الأعمار الصغيرة الطاغية في مجتمعنا قد تحتاج إلى خيارات عملية ممتازة، أكثر بكثير من فكرة الانغماس في نادي الحصرية غير المستدام. نادي الحصرية الذي يهدد ارتياح العملاء وارتياح المستثمرين.
والله من وراء القصد.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.