تخطى الى المحتوى

مارسيل بروست والحُب

إن من المحزن أن نرى كيف يمكن للرجل الذكي الذي يُحِب أن يصبح غبيًا أمام امرأة قد لا تملك أي صفة تميزها سوى أنها لا تحبه.

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
مارسيل بروست والحُب
صورة التقطها المصور Otto Wegener عام ١٨٩٢م.

كان مارسيل بروست قد عانى طيلة حياته من حساسية جسدية وحسّية مفرطة، حسب وصف آلان دو بوتون في كتابه الجميل «كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك». هذا الكتاب الذي قرأته ووجدته شيقًا جدًا، رغم تقييماته شديدة الانخفاض على Goodreads.

ولعل أشهر اقتباس له عن الحب هو:

«إن من المحزن أن نرى كيف يمكن للرجل الذكي أن يصبح غبياً أمام امرأة قد لا تملك أي صفة تميزها سوى أنها لا تحبه، أو أنها أقل منه ذكاءً بكثير. الحب هو الذي يمنحها هذه السلطة؛ فبمجرد أن يقع الرجل في شرك الرغبة، يصبح ذكاؤه مجرد أداة لخدمة أوهامه، بينما تظل هي مسيطرة لا لشيء إلا لأنها أقل منه انفعالاً».

كان لهذا الكاتب تأرجحات متناقضة؛ فقد كان عاطلاً عن العمل طيلة حياته، التي تكفّل والده -الطبيب المعروف وقتها- بالصرف عليها، في حين أن والدته «ماما الصغيرة» (كما يُحِب أن يُسمّيها) كانت قد عاملته معاملة طفل يبلغ من العمر أربع سنوات، حتى توفيت ١٩٠٥م، وعاش هو إلى عمر الواحد والخمسين وتوفي في ١٨ نوفمبر ١٩٢٢م. ورغم ادعاء إلمامه العميق بمشاعر الحب وخباياه، لم يستطع استكمال رحلة علاقته مع «آلبرتين» صديقته التي كان يتقلب في آرائه تجاهها بين مشاعر حب حقيقية، وبين ما وجده فيها من امرأة عادية.

«كانت آلبرتين بالنسبة لي ليست مجرد امرأة، بل كانت عبارة عن "سلسلة من الألغاز". إننا حين نحب، لا نحب كائناً ثابتاً، بل نحب سلسلة من اللحظات الهاربة. كنت أريد أن أمتلك حياتها، أن أعرف أين تذهب نظراتها حين لا أكون أمامها، وبمَ تفكر حين تصمت. لكنني أدركت أن امتلاك جسد الشخص هو أقل أنواع الامتلاك قيمة؛ فالمكان الحقيقي الذي تعيش فيه آلبرتين هو خيالها، وهو مكان لن أستطيع الدخول إليه أبداً».

لم يتجرأ بروست لأن يكون جزءاً من خيالها وطموحاتها ومستقبلها، وكان من الملفت لمن يتعرّف على شيء من حياته أن يكتشف -رغم إقباله عليها- أنه كان مفعماً بالانهزامية!

«إن ذكائي لم يتحرك يوماً بدافع الرغبة في المعرفة المجردة، بل تحرك بدافع الغيرة من آلبرتين. كنت أحتاج أن أفهم كل إيماءة وكل كلمة تقولها لكي أطمئن. إن الألم الذي سببته لي آلبرتين كان هو المختبر الذي تعلمت فيه أسرار النفس البشرية. لولا معاناة الحب معها، لبقيتُ رجلاً سطحياً يمر على الأشياء دون أن يراها. لقد علمتني آلبرتين أن الحقيقة لا تُمنح لنا في لحظات السعادة، بل تُنتزع انتزاعاً في لحظات الشك والأسى».

ويقول عنها بعد أن تأكد من استقرار مشاعره:

«كم هو مذهل ومخيف أن نكتشف أن الشخص الذي كان يملأ كل ثانية من حياتنا، والذي كان يسبب لنا أرقاً لا ينتهي، يمكن أن يتحول مع مرور الزمن إلى مجرد "اسم". إن النسيان هو القوة الوحيدة التي تتفوق على الحب. بدأت أكتشف أنني لم أكن أبكي على آلبرتين الحقيقية، بل كنت أبكي على جزء من نفسي ضاع معها. إننا في النهاية نحب "فكرتنا" عن الآخرين، وحين تذبل الفكرة، يختفي الشخص وكأنه لم يكن موجوداً».
«لقد قضيتُ سنوات من عمري أعاني من أجل امرأة لم تكن حتى من ذوقي، امرأة لم أكن لألتفت إليها لو رأيتها في ظروف عادية. ولكن هذا هو سحر الحب المسموم؛ إنه يختار لنا الأشخاص الذين يملكون القدرة على تعذيبنا، لا أولئك الذين يملكون القدرة على إلحاقنا بالسعادة. لقد كانت آلبرتين هي "المرض" الذي كان جسدي وروحي يحتاجان إليه لكي ينموا».

كان بروست رغم حساسيته إنساناً اجتماعياً صاخباً، مدمناً على الحفلات والدعوات، وعُرِف عنه صرفه الباذخ على الآخرين أكثر من اكتراثه للصرف على حياته ونفسه؛ فقد كان يعطي دوماً بقشيشاً ضعف ثمن فاتورة الوجبات التي كان يدعو أصدقاءه إليها، والتي كانت هي الأخرى في أفخر مطاعم باريس، ويكون فيها ملحاً على أصدقائه أن يطلبوا أغلى الأطباق.

هذا الصخب جعل شيئاً من الغرابة يتشكّل في شخصيته؛ فهو إن لم يكن في حفلة رسمية، أو جالساً يتناول وجبته برفقة الأصدقاء، فهو طريح الفراش، يعاني دوماً من مرض أصابه، أو كسلٍ تبنّاه ولا يغادره إلا نادراً. لم يكن كثير الاكتراث للجوانب التي يمكن لها أن تجلب المتعة في حياته، والتي كانت بعيدة عن وجود من يحبّهم حوله؛ فقد كان -مثلاً- لم يزر متحف اللوفر الشهير لأكثر من إحدى عشرة سنة في فترة من حياته كما صرّح. وعندما نكتشف آراءه الصريحة عن علاقته بالصخب المصاحب للأصدقاء الذين يحبهم، ربمانتخلّص من بعض الإرباك؛ ونفهم لمَ قرر أن يتصادق لفترات مع الموتى أكثر من الأحياء.

«في الصداقة، نحن ملزمون بالاستماع والرد والابتسام، وهو مجهود يستهلك الروح. أما في القراءة، فنحن نتواصل مع أذكى العقول في التاريخ دون الحاجة للتظاهر بأي شيء. الكتاب صديق مخلص لا يغضب إذا أغلقته، ولا يطالبك بالمديح إذا لم يعجبك. الصداقة تمنحنا شعوراً كاذباً بالدفء، بينما القراءة (وهي نوع من الصداقة في العزلة) تمنحنا الحقيقة دون تكاليف اجتماعية».
«إن الصداقة هي ضلالة تجعلنا نعتقد أننا نتواصل مع الآخرين، بينما نحن في الحقيقة نهرب من أنفسنا. عندما نجلس مع الأصدقاء، فنحن نضحي بـ «الأنا» العميقة التي تسكننا، تلك الأنا التي لا يمكن التعبير عنها إلا في العزلة أو من خلال الفن، لكي نتبادل كلمات تافهة ومجاملات اجتماعية. الصداقة تجعلنا نتخلى عن التفكير الجدي لنتبنى لغة «القطيع» التي تهدف إلى إرضاء الجميع دون قول أي شيء حقيقي».

ولعله أعطى نفسه الحق بالتعامل مع الأصدقاء الذين يحبهم تعامله مع الأدوية والعلاجات التي تهدف إلى تسكين الآلام بدلاً من شفائها.

«إننا نحب أصدقاءنا لأننا لا نعرفهم بما يكفي. بمجرد أن نقترب، نبدأ في رؤية العيوب، الغيرة المستترة، والرغبة في التفوق. الصداقة تقوم على نوع من «العقد غير المكتوب» للتغاضي عن الحقيقة. وإذا قرر أحد الأصدقاء أن يكون صادقاً تماماً، فستنتهي الصداقة فوراً. لذا، نحن نعيش في كذبة لطيفة تسمى الصداقة لكي نتحمل مرارة الحياة، ولكن يجب ألا ننسى أبداً أنها مجرد مسكن مؤلم، وليست العلاج».

ويعلّق آلان دو بوتون على تأملات بروست نحو الأصدقاء: «لا يطلب منك بروست أن تترك أصدقاءك، بل يطلب منك ألا تتوقع منهم الكثير. هو يرى أن «الحقيقة» تسكن في داخلك أنت، وفي عملك، وفي تأملاتك وحدك، أما الصداقة فهي مجرد "استراحة محارب" يجب ألا نأخذها بجدية مفرطة لدرجة أن ننسى غرضنا الأساسي في الحياة».

أكثر من أحبهم بروست بصدق؛ كان متشكلاً في شخص واحد: والدته. حينما ربط كل ما عاشه وسيعيشه بها حتى وفاته، وقد قال بعد موتها:

«لقد أصبحت حياتي منذ الآن بلا غاية، بلا حماية، وبلا أفق. كانت هي الشخص الوحيد الذي حين أقول له "أنا أتألم"، يشعر بالألم في جسده هو. بموتها، لم أفقد أماً فحسب، بل فقدتُ "المشاهد" الوحيد الذي كنت أعيش من أجل إرضائه. كل نجاح أحققه الآن هو نجاح ناقص، لأنها ليست هنا لتراني، وكل فكرة أكتبها هي صرخة في وادٍ سحيق، لأن الأذن التي كانت تفهم نبرة صوتي قبل أن أتكلم قد صمتت للأبد».
«منذ أن رحلت، بدأت ملامحي تتغير لتشبه ملامحها بشكل غريب. حين أنظر إلى المرآة، أرى عينيها تنظران إليّ من خلال وجهي، وأرى تعبيرات فمها ترتسم على شفتي. وكأن الطبيعة أرادت أن تخفف عني لوعة الفقد، فجعلتني أصبح «هي». إننا لا نفقد آباءنا تماماً، بل نصبح هم، نحمل أوجاعهم، وطريقتهم في الابتسام، وحتى مخاوفهم. أنا الآن أحمل أمي في داخلي، وأعيش ما تبقى من عمري لكي أكون وفياً للذكرى التي تركتها فيّ».

ويحاول تعزيتنا نحن من نملك شيئاً من الامتياز ومن يعيشون في كنف أم محبّة:

«لا تنتظر حتى يفوت الأوان لكي تفهم أن التفاصيل التافهة التي تقضيها مع أمك هي الحياة الحقيقية. إن فنجان شاي تشربه معها، أو حديثاً عادياً عن طقس اليوم، هو أثمن من كل الإنجازات الخارجية».

المصادر

آلان دو بوتون، كتاب "كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك" (How Proust Can Change Your Life).

مارسيل بروست، رواية "جانب سوان" (Swann's Way) - مصدر مشهد قبلة الأم وتحليل الأشواق الأولى.

مارسيل بروست، رواية "في ظلال الفتيات المزهرات" (Within a Budding Grove) - مصدر بداية التعرف على آلبرتين.

مارسيل بروست، رواية "السجينة" (The Captive) - مصدر فلسفة امتلاك المحبوب والغيرة.

مارسيل بروست، رواية "الزمن المستعاد" (Time Regained) - مصدر فلسفة الفن والذاكرة والنسيان.

مارسيل بروست، كتاب "رسائل مارسيل بروست" (Selected Letters) - مصدر الاقتباسات المتعلقة بوفاة والدته واعتذاراته لها.

مارسيل بروست، مقال "عن القراءة" (On Reading / Sur la lecture) - مصدر فلسفته في تفضيل الكتب على الأصدقاء.

جورج بينتر (George Painter)، كتاب "مارسيل بروست: سيرة حياة" (Marcel Proust: A Biography).

أرشيف المصور أوتو فيغنر (Otto Wegener Archive) - مصدر توثيق الصورة الشخصية الملتقطة عام 1892.

سيكلوجيا الإنسانشؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.


المنشورات ذات الصلة

للأعضاء عام

قِدر الضغط مرة أخرى وتمسّكنا بالأشياء العزيزة

عندما لا نُمانع تِكرار أخطاءنا.

قِدر الضغط مرة أخرى وتمسّكنا بالأشياء العزيزة
للأعضاء عام

كيف تجعلنا الأهداف أكثر قوة؟

إن أحد أضعف النُفوس، هي التي تدرك ضعفها وتؤمن بحقيقة أن القوة لا يمكن أن تتطور إلا بالجهد والممارسة.

كيف تجعلنا الأهداف أكثر قوة؟
للأعضاء عام

أحتاج رجولك للفتّوش

عن بعض المفارقات الثقافية

أحتاج رجولك للفتّوش