عن شعور الغثيان من السفر
لا أود أن يضحك عليك أحد، وأن يقنعك بأن الفنادق الفاخرة وطيران درجة الأعمال هي سبب انبساطك في السفر.
خلال الشهر الماضي، اضطُرِرت للسفر داخليًا وخارجيًا أكثر من ست مرات. أعيش اليوم حالة من الغثيان تجاه ممرات الطائرة والفنادق. وقد يكون هذا الأمر غريبًا لشخص يدّعي حبه الصادق للسفر، إلا أن أي أمر كأي شيء، عندما يزداد عن حده يتحول إلى الحالة التي وصفتها.
حكى لي صديق عزيز ذات مرة أنه توظف كمديرٍ كبير في أحد المشاريع المرموقة، التي تكفّلت بتذاكر سفره وإقاماته شديدة الرفاهية، هذا التكفّل بالتأكيد لم يكن حبًا فيه، بقدر استيعاب أصحاب المشروع لقدر الكرف الذي سيواجهه، الذي كان معه يعمل ليل نهار استجابة لمتطلبات تنفيذ المشروع، حتى وصل إلى مرحلة – حسب وصفه – فقد فيها الإحساس بالوقت والمكان.
وقد حكى لي أمرًا وجدت فيه شيئاً من المبالغة في البداية، حتى جرّبته جزئيًا بنفسي، وهو أن الفنادق (الغالية على وجه الخصوص) والرحلات على درجة رجال الأعمال، أصبح لا طعم لها، بسبب انشغال البال والنفسية اللذان كانا منصبين على مهامه العملية.
لم يستطعم وجبات الطائرة المُعدّة بعناية له في كل رحلة، ولم يزر أيًا من مرافق الفنادق التي أقام فيها بطبيعة الحال، وبالنسبة إلى وجبات الإفطار فكانت لسد الجوع لا أكثر، حتى لا ينشغل بهموم بطنه بقية كل نهار. وبالنسبة إلى المدن التي زارها، فإن لقاءاته الاجتماعية كانت محدودة هي الأخرى، لدرجة أنه أصبح يُخبئ وجهات سفره عن دائرته الاجتماعية منعًا من إحراج نفسه وغيره.
بالنسبة إلى تجربتي، فقد لخبطت في أرقام الغرف عدة مرات الشهرين الماضية، مستذكرًا أرقام غرف الإقامات التي كانت قبلها في كل مرة. عدد الوجبات التي تناولتها – مع أن بعضها كان في مطاعم فاخرة فعلًا – أصبح متشابهًا في تأثيره النفسي عليا، وهذا بالذات أمرٌ حزين.
تختلط الوجبات بالمهام العملية، وبعضًا من الواجبات الاجتماعية المتّسمة بالمجاملة المرتبطة بالعمل، لدرجة لا تستطيع أن تركّز فيها في لقمتك التالية التي كانت بالنسبة إلي هي همّي الأكبر، ناهيك من بقايا الطاقة القليلة التي تحتفظ بها، الذي يجب أن تُخصص في النظر إلى من حولك في طاولة الطعام، والإمساك المستمر بزمام النقاشات.
كُنت أعرف يقينًا أن هذه الفترة مؤقتة، بسبب ظروف عملية استثنائية اضطرّتني لهذه السفريات، إلا إنني حاولت أن أكون متماسكًا لكيلا أدخل نفق كره السفر الذي لطالما كُنت مشجعًا عليه. ربما يقول قائل إننا أبالغ في كل هذا الوصف، إلا إنني أود أن أُلفت النظر إلى أن مناسبة السفريات نفسها لم تكن سعيدة في الواقع، فقد كانت حول معالجة مشكلات عويصة ومعقّدة، واليوم أكتب، وأنا أحمل شيئًا من راحة البال خارج تلك الأوقات.
لا أعرف إن جرّب القارئ الكريم هذا الإحساس من قبل؛ أن تكاد تكره شيئًا أو شخصًا كُنت تحبه أكثر من أشياء كثيرة أخرى. وإن لم يكن قد جرّبه القارئ الكريم من قبل، فإنه باختصار: إحساس تعيس، تتلخبط فيه المشاعر، تحاول معها أن توازن نفسك بالقوة؛ تُقنعها أنك لا تزال تحب ما تحبه، وتبرر ذلك بالغصيبة. بالنسبة إلي، كان الأمر منطبقًا بوضوح تجاه السفر ككل، وتجاه الشخص الذي أوقعنا في كل هذه المشكلات (التي حُلت بفضل الله).
ورغم كل ذلك، فإن من المفارقات المضحكة إنني إن قررت السفر مع أسرتي أو أصدقائي، فإنني بالتأكيد سأتجنب كل الرفاهيات التي ذكرتها، لأنها بالفعل أمرٌ مُكلف، وقد يفقدك روح البساطة خصوصًا إن لم تكن فاحش الثراء، وتستطيع أن تكبكب أموالك على شوية غرف ورحلات بثلاثة أضعاف سعر الرحلات الاقتصادية.
لا شيء يكتمل في هذه الحياة مع الأسف، الرحلات الفارهة غالبًا ما تتصاحب مع أمور تطلّع عينك. والوجبات الساحرة مرتبطة كثيرًا برفقة لا تتواءم مع سحر الطعام بالضرورة. وحتى يكتب الله لنا أن نصل للمعادلة الأسطورية: الرفاهية المُطلقة وراحة البال، سأطلب منك أن تستمتع بالقدر الأعلى من البساطة في حياتك العادية، وبالطبع لا أود أن يضحك عليك أحد، وأن يقنعك بأن الفنادق الفاخرة وطيران درجة الأعمال هي سبب انبساطك في السفر. بل راحة البال يا صديقي.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.