تخطى الى المحتوى

هنا الصمت العقابي

إذا كل شخص قابلناه «تجاهلنا تمامًا» وتصرف وكأننا غير موجودين، فسوف يغمرنا إحساس بالغضب ويأس عاجز، ولن نجد الراحة إلا في أشد أنواع التعذيب الجسدي

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
هنا الصمت العقابي
Photo by Giancarlo Corti / Unsplash

(١)

تجلس هيلين (وهو اسمها المستعار) بجانب والدها المريض في المستشفى الذي قرر عدم الحديث معها تمامًا، لأنه – حسبما اعتقدت – حزينٌ منها لسبب لم تستطع معرفته، رغم كل محاولات التحليل والفِهم. كانت كلما حاولت التحدّث معه، أدار وجهه إلى الجهة الأخرى. استمر والدها في ممارسة الصمت العقابي عليها طيلة فترة مرضه، وطوال فترات طويلة متباعدة في حياتهما. تشعر هيلين أن حزنها كان يخطف شيئًا من روحها في كل يوم تحاول فيه معرفة أسباب ضيق والدها منها، حتى أتى اليوم الذي مات فيه شيء من روحها، عندما توفي والدها دون أن يخبرها بشيء.

أتمشى مع صديقي العزيز قبل أكثر من عشر سنوات في «دبي مول» ويسألني: كيف لصداقتنا التي تشكّلت مؤخرًا بأن تتحول إلى علاقة أشبه ما تكون بين أخٍ وأخيه في زمن قياسي؟ هل لأن الأفكار والمبادئ والاهتمامات مشتركة؟ أم أن هناك شيئًا إلهيًا أعمق؟ كانت هذه التمشية واحدة ضمن عدة سفرات قمنا بها سوية، لم تكن علاقتنا سوى علاقة صداقة وأخوة حقيقية رغم فارق العمر الكبير نسبيًا لصالحه. أملك حتى اليوم عدة رسائل إلكترونية طويلة منه، مليئة بالتعبير الصادق عن المودة، وعن الاهتمام الذي استشعره هذا الصديق تجاهي، أذكر إن أحد تلك الرسائل كانت تحمل قائمة طويلة باقتراحات لأماكن عديدة في مدينة أوروبية كُنت سأزورها عمّا قريب. ما جعله يكتبها هو إلمامه واستيعابه الكامل أن هذه الأماكن هي بالضبط ما يسرق اهتمامه (واهتمامي)، ولذلك شاركها معي. تخطّت علاقتي القصيرة بهذا الصديق كل مراحل النمو بسرعة، لتنتهي بنفس السرعة، دون معرفتي – إلى اليوم - كيف وصلت إلى النهاية.

بعد عدة رسائل ومحاولات، استوعبت أن هذا الصديق لا يرغب في التجاوب، قرر أن يختفي ويتركني مع صمته بصمت. سألت كل الأصدقاء المشتركين عنه بعدها، لأكتشف أنه قرر أن يمارس الانسحاب نفسه مع بعضهم، وبعضهم الآخر تحفّظ على التعليق منتقلين إلى مواضيع أخرى خلال حديثي معهم. أقف اليوم ومنذ عشر سنوات مع تحليلات يتيمة ربما كانت هي سبب الانسحاب، ومعها، استقبالًا منه لحكم مؤبد بعقاب الصمت. لا أملك إجابات، ولا أملك فرصة إحياء لكل ما كان بيننا. استقبلت منه رسالة تعزية في وفاة والدي قبل خمس سنوات، وعندما قابلتها بانفعال وحماس مفعمين، قرر أن يقتضب ويعود إلى صمته ومخبئه.

(٢)

أعرف قريبة لي، كان كلما زعل منها زوجها لسبب أو لغير سبب واضح يبدأ سباته مع صمته العقابي لثلاث أسابيع، لا يقربها رغم كل محاولات الإغراء، يعيش معها، يأكل وينام بقربها، وكأنه جسد دون روح. يتنهد مع كل محاولة منها للاستفهام، ليتمسّك بصمته أكثر، حتى تنتهي الأسابيع الثلاثة، يعود إلى حياته، وكأن شيئًا لم يكن، دون أي تعبير أو إفصاح، ودون محاولات إضافية منها للتعرّف عمّا جرى، والتي ربما تزيد حياتها تعقيدًا في معرفة أسباب الزعل.

وهنا زوجة قطع زوجها الاتصال بها في بداية زواجهما. يحكي عنها كيبلينج ويليامز (الباحث النفسي الذي صرف أكثر من ستة وثلاثين عامًا في أبحاث عن الصمت العقابي): «تحملت السيدة أربعين عامًا من الصمت بدأ بخلاف بسيط، ولم ينته إلا بوفاة زوجها». أربعون عامًا من تناول وجبات الطعام بمفردها، ومشاهدة التلفزيون بمفردها —، أربعون عامًا من عدم وجودها. قال ويليامز: «عندما سألتها لماذا بقيت معه طوال تلك المدة، أجابت ببساطة: 'لأنه على الأقل وفر لي سقفًا أعيش تحته'».

كل أشكال الصمت العقابي تعني «النبذ»، يشرح ويليامز: «يمكن أن يتجلى النبذ أيضًا بطرق أقل حدة: مثل خروج شخص ما من الغرفة في منتصف محادثة، أو تجاهل صديق في المدرسة لك عندما تلوح له، أو قيام شخص ما بالرد على تعليقات الجميع في سلسلة رسائل باستثنائك. «النبذ الجزئي» قد يعني الرد بعبارات مقتضبة، مثل وضع نقطة في نهاية رسالة نصية مكونة من كلمة واحدة. ولكن في الحالات الخطيرة، يمكن أن يكون للنبذ عواقب وخيمة، حيث يصاب الضحايا بالقلق والانطواء والاكتئاب، أو حتى التفكير في إيذاء النفس».

أجد شخصيًا أن أحد الدوافع التي تجعل واحدًا من كل ثلاثة أشخاص يمارسون الصمت العقابي على أحبائهم، هو إيجاد الطريق الأقصر والأكثر تأثيرًات في الانتقام. فلا يستطيع الشخص المخذول أن يضمن فوزه في نقاشه القادم أو أخذ حقّه مع صديقه أو زوجته، ولا يستطيع أن يتأكد أن تعبيره عن الحزن سيكون مسموعًا بعمق، ولذلك يلجأ إلى الطريق الأكثر ضمانًا وتأثيرًا عبر الصمت. فهو يعطي فرصة للضحية أن تتلوى، وتفكِّر، وتتألم وحدها. ومع حسن النية، ربما يضمن عدم تَكْرَار تصرّف الضحية السيء مرة أخرى بعد بعض الوقت القاسي.

لا يميل أصحاب الشخصيات مفرطة القوة إلى ممارسة الصمت العقابي في العادة، لأن سرعة الاقتصاص وأخذ الحق دائمًا ما تكون مباشرة، كما أنه من غير العدل أن نقول إن واحدًا من كل ثلاثة أشخاص يعانون من ضعف بالغ في شخصيتهم، قادهم إلى الطريق الأسهل والأسرع والأكثر تدميرًا. لكن الممارس للصمت العقابي على الأغلب كان قد جرّب ويلات التجربة في حياته، واكتشف أنها أسرع الطرق تأديبًا، مع أنها الأكثر خطورة عليه، وعلى الضحية على المدى الطويل.

(٣)

يجلس صديقي العزيز رأفت (وهو اسم مستعار أيضًا) أمام والده وأحد كِبار العائلة في جلسة صُلح بادر بها الأخير، بعد سلسلة خِلافات طويلة دارت بينه وبين والده. كان رأفت طالبًا نجيبًا وشخصية محبوبة وذو شعبية كبيرة بين أقرانه عندما تعرّفت عليه عن كثب، تخرّج من إحدى الكلّيات الصعبة، وعمل في إحدى الجهات الكبيرة براتب مجزي، تزوج حبيبته التي حارب كل من حوله من أجلها. انتهت قصة زواجه بانفصال مأساوي قاده إلى مرحلة اكتئاب طويلة، أسهمت بجعله يترك وظيفته المرموقة مع وضع مأساوي كان يفترض به أن يكون مؤقتًا، وعودته إلى السكن مع عائلته. قرر أن يفتح عمله الخاص بعد أن تجاوز أمر ارتباطه غير الناجح، الذي سرعان ما أُغلِق لعدم توفقه، ليعود إلى غرفته وينغلق على نفسه، مستسلمًا إلى انعزاله المستجد. لم يعجب والده هذا النمط، ليبدأ بممارسة كل أنواع الضغوط السريعة ليقوم الابن على قدميه، إلا أن السقوط لم يكن نفسيًا فقط، بل صاحبه كل أشكال السقوط الحر والانعزال، والدمار الذاتي. دخل رأفت في حالات معقدة من الإدمان، ثم اقترب أكثر من أصدقاء جدد مختلفين عنه، ليقرر والده الانعزال عنه (والبعض يقول: أنه عزل ابنه في ملحق خاص المنزل). أذكر إنني اتصلت عليه عارضًا عليه وظيفة كانت تتناسب مع شهادته وخبراته، ولأنني لم أكن بالقرب منه تلك الفترة، ولا أعلم عن حاله وعن عيشه مرحلة من مراحل السقوط، فقد اعتذر لي عن قبول ترشيحه للوظيفة.

بعد وقوف كبير العائلة على الصُلح، اتفقت كل الأطراف في الجلسة على فتح صفحة جديدة. ذكّر كبير العائلة الوالد وابنه أن كليهما عزيزين على بعضهما البعض، وأن عليهما إنهاء الخِلاف، ليتصافحا ويسلم كل واحد فيهم على الآخر. خرج الأب من منزل كبير العائلة، واعتقد أن غليله لم يُشف. أعاد عزلة ابنه واعتزاله منه، واستمر وكأن لم يكن هناك شيء تم الاتفاق عليه في الجلسة، مقتنعًا بأن حقه المفقود يحتاج جهودًا أكبر من ابنه، المزيد من المحاولات والمزيد من التضحيات، فهو من ربّى، وتعب، ليس ليحصل على ابن هامل ومدمن، حتى وإن كان كل ذلك مؤقتًا، حتى وإن كانت كل السنوات التي قبلها لم تكن تعطي مؤشرات، وحتى إن كان لأي إنسان بعض الحق بأن يعيش مرحلة طويلة كانت أم قصيرة من السقوط المؤقت. قرر الأب أن الاستمرار في الصمت العقابي والانعزال (رغم الاتفاق) هو الحل لكي يتغير ابنه ويعود بسرعة إلى نسخته المثالية القديمة. إلا أن صديقي كان له رأي مختلف، رأى أنه يملك حلًّا سريعًا وقويًا لهذه الأزمة كي تنتهي بسرعة.

أن يأخذ حياته! 

وحيدًا وهو في عزلته، قبل أن يدخل عليه كل من هم خارج المعتزل ليروه وحده دون روحه.

عندما يمارس شخص غريب صمته العقابي أو انعزاله علينا، فإننا لن نكترث، أو ربما لن نلاحظ. لكن عندما يمارس علينا هذا الصمت من أعز الأعزاء، بأي شكل وبكل درجة، فإن شيئًا داخل أرواحنا يعيش ألمًا لا يحتمل، وأحيانًا شلل تام تجاه هذه الحياة، نقف حائرين نبحث عن أنفسنا في وسط ظلام الصمت.

أعلم اليوم إنني تجاوزت أصدقائي الصامتين، وأعلم غدًا أن أحدًا لو قرأ هذه الكلمات سيتجاوز عن أحبائه بصمت، أو سيواجههم دون صمت.

(٤)

«قد يكون التجاهل الصامت أكثر الطرق شيوعًا في قطع العلاقات مع الآخرين. يشير ويليام جيمس أن «قطع العلاقات» و«عدم ملاحظة الآخرين» أسوأ مما أسماه «أقسى العقوبات». ويقول: «إذا لم يلتفت أحد لنا عندما دخلنا، ولم يرد أحد عندما تحدثنا، ولم يهتم أحد بما نفعله، بل إذا كل شخص قابلناه «تجاهلنا تمامًا» وتصرف وكأننا غير موجودين، فسوف يغمرنا إحساس بالغضب ويأس عاجز، ولن نجد الراحة إلا في أشد أنواع التعذيب الجسدي؛ لأنها ستجعلنا نشعر أنه مهما كانت محنتنا سيئة، فإننا لم ننحدر إلى درجة أننا لا نستحق أي اهتمام على الإطلاق». اعترف أحد الأباء لوليامز في إحدى زيارته بعد تطبيق الصمت العقابي على ابنه، عن حاله بقوله: «أدى (الصمت العقابي) إلى تحول ابني من طفل سعيد وحيوي إلى شخص ضعيف الشخصية، وكنت أعلم أنني السبب في ذلك». يعتبر ويليامز أن الصمت العقابي يشبه في تأثيره البالغ «ألم فقد إنسان عزيز» ويقول شارحًا: «هي إثارة مشاعر تعتبر من بين أشد أنواع الألم العاطفي الممكنة، تُشبه الحزن على فقدان عميق، قليلة هي أحداث الحياة التي تُشعرنا بألم أشد من الشعور بأن الآخرين، وخاصة من نحبهم، لا يريدون أي علاقة بنا. ربما لا توجد وسيلة أوضح للتعبير عن هذا من أن يعاملنا الآخرون كأننا غير مرئيين — كأننا لا نوجد أصلاً». كما يرى أيضًا: أن «العقاب بالصمت، ليس مجرد تصرف بسيط أو خلاف عابر في العلاقات، بل هو سلوك يدمر نفسيًا ويهاجم احتياجات الإنسان للانتماء والقيمة والسيطرة والمعنى، ويخلق جروحًا نفسية قد تدوم وقتًا أطول، ويكون وقعها أشد من الكثير من أشكال الانتقاد أو الصراع المباشر».

وعن البدائل المقترحة الطويلة التي يقترحها ويليامز لهذا السلوك، فإنه يمكن تلخيصها إلى أن المواجهة والتعبير الصادق والمباشر – حتى وإن كان بالغ الصعوبة – هو الطريق الأسلم والأصح لكل الأطراف.

حتى وإن كان الكلام أسهل من الفعل، فإنه من الأجدى أن نسلك الطرق الأسلم، وإن طالت. ونبتعد عن القسوة، وإن كانت تحمل وهمًا من الراحة.


مراجع:

What You’re Saying When You Give Someone the Silent Treatment by DARYL AUSTIN, MAR 26, 2021

Williams, K. D. (2007). Ostracism: The power of silence.

 

 

سيكلوجيا الإنسان

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

عن دخول دورة مياه النساء بالخطأ!

رفعت الآنسة جوالها، ثم أعادته إلى جيبها.. واستدارت. وانصدمت.

عن دخول دورة مياه النساء بالخطأ!
للأعضاء عام

لماذا تركت البودكاست؟

أهيم وأُفتن في جهود الكُتاب وإنتاجاتهم الأدبية والبحثية والملحمية، أكثر من قدرة مقدّمي البودكاست على السكوت والإنصات دون كحّات.

لماذا تركت البودكاست؟
للأعضاء عام

عن الالتزامات الاجتماعية

نحن مجتمعات أكرمنا الله فيها بألا حُزن وحدنا، إلا إن أصرّينا، ولا تكتمل أفراحنا دون من حولنا.

عن الالتزامات الاجتماعية