تخطى الى المحتوى

كيف هي الحياة عندما تصل إلى الثلاثين؟

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

(١)

أعيش هذه الأيام أول أيامي في سن الثلاثين، تحمل كلماتي التالية الكثير من التناقض وبعض من الوساوس والكثير من الإدعاء بأنني تعلمت.

إنشغلت والدتي لأكثر من إثني عشر ساعة مع صراع «طلق الولادة» مصاحباً لسكر الحمل قبل أن أخرج لهذه الحياة بشكل درامي في الرياض في ٢٢ نوڤمبر ١٩٨٦، كُنت أشعر بحبها لوجودي في الحياة في كل مرة تبتسم وتقول لي «أنت أكثر من تعبني في ولادتي بينكم أنتم الستة». وربما كان العزاء الآخر لقدومي (متأخراً وبالغلط كما تقول أختي) أنني وُلدتُ أخاً لأخي الكبير إياد مع وجود أربعة أخوات (إيمان وإلهام وإيناس وأروى)، وبطبيعة الحال أسموني أحمد (على ما أعتقد) على إسم طبيب الولادة المرحوم. أو ربما كانت أحد الأحلام التي تحسم أمر الأسماء لدينا في المجتمع.

كان أمراً مضحكاً قدومي كطفل سمين، مما جعل إحدى الممرضات تقول لوالدتي «مدام … إنتي تروحي البيت، خلاص هذا البيبي يمشي على طول». ومن حظي أنني في تلك الأيام أصبحتُ خالاً لوجدان إبنة أختي والحفيدة الأكبر لوالدَي وأنا لم أتجاوز الشهرين، والتي ولدت بعكس مواصفاتي الفيزيائية تماماً، مما استدعى عدم إظهاري بجانبها في المناسبات خوفاً من العين!

كانت حياتنا طبيعية إلى حدٍ كبير في «سكن وزارة المالية» في الرياض حتى وصلت إلى سن الخامسة ليحسم تقاعد والدي المبكر أمر هذه الحياة بالهجرة إلى مدينة جدة حيث تربيت بقية حياتي، كنت أخرج كل يوم بعد الغداء دون الاكتراث أو استيعاب درجة الحرارة، كان السكن يمتلئ بأطفال من عُمري، وكنت كل يوم أقابل أحد إخوتي إيناس وأروى وهم في مكان ما في أطراف السكن مع فتيات أُخريات يلعبون … زيارة سريعة للسوبر ماركت … زيارة سريعة أخرى لبيت أحد الأصدقاء … القليل من اللعب، لتأتي «ميري» خادمتنا المنزلية لتناديني إلى العشاء والنوم أخيراً.

كل تلك الوصلات اليومية لسبب ما انحرمت منها إبنتي سيرين عندما كُنت في نفس عمرها اليوم، آيباد … ثم المزيد من الآيباد … وربما القليل من الفعاليات خارج الجدران الأربعة.

انتهت ثلاثة أو أربعة قصص حب بالزواج في ذلك السكن، فمثلما كان لدي مجتمعي الصغير ومغامراتي الخاصة، كان للمراهقين والفئة الأكبر قليلاً مجتمعاتهم الخاصة. ناهيك عن الأجواء المصاحبة لذلك المكان كالنادي الثقافي والعزائم الدورية وشلل البلوت، والتي جعلت من والدتي الحجازية التي تعيش في مدينة صامتة تعلق دائمةً «أيام جميلة … عدت مثل الحلم»، وأقول اليوم، لم نكن نعيش في بلدي التي أعرفها!

(٢)

انتقلنا إلى جدة وعشت طفولتي المتبقية ومراهقتي وجامعتي التي انتقمت بها من أهلي حسب ما كانوا يعتقدوا في البداية، عندما حولت من طالب منتطم إلى منتسب في الجامعة ثم إلى العمل والحياة بشكلها التقليدي (والتي أيضاً انتقمت فيها من أهلي حسب ما يقول البعض، بعد أن تركت وظيفتي في البنك الأهلي والتي كُنت أتقاضى فيها راتباً يحلم به كل من في عمري، يتجاوز بقليل الـ ٦،٥٠٠ ريال وأنا لم أتجاوز الواحدة والعشرين) حتى بدأت في عملي الخاص منذ ذلك السن.

مررت على Full Stop للدعاية والإعلان، ثم Subway أصنع الساندويتشات ثم شركة أخرى والبنك الأهلي. كان لكل مرحلة عواقبها وأفخاخها ودروسها التي أزعم أنني تشربتها حتى وصلت اليوم لأكتب لكم مدعياً أنني أحد الكُتاب المهتمين في أمر الشباب والمستقبل … ومعنى الحياة.

كل مشاكلي كانت تدور وقتها حول طريقتي الخاصة في الملابس وشكلي الذي يغلب عليه شكل المراهق الأحمق، لتتغير اليوم وتصبح مشاكلي كلها متعلقة بالاقتصاد والكسب والثقافة والمعرفة وأمور أخرى أقل أهمية. والعنصر الأهم كان فيها رفقتي التي كونت شخصيتي وتكويني الذي وصلت عليه اليوم، ولا أعلم اليوم شيئاً يؤثر في نشأة الشاب مثل أصدقائه والمقربين من حوله.

أيام عديدة صُرفت في صُحبة البلوت والشيشة … وطبعاً السهر والكثير من “الفلة”التي غالباً ما كانت تؤثر على يوم عملي التالي بالتأخر وعدم التركيز وعلى حياتي كلها، ولا زلت حتى اليوم أبحث عن الكثير من التركيز والعمل. أهون كثيراً على نفسي أنني استبدلت تلك الليالي ببعض القراءة ورفقة بناتي، وطبعاً بعض الأصدقاء المختارين بعناية.

تأكدت في تلك الفترة أنني أملك موهبة لا بأس بها بتكوين أصدقاء جدد، وازداد هذا الأمر إتقاناً مع وجود مصالح مشتركة وأعمال تتطلب مني أن أكون ذلك الإنسان الاجتماعي الذي اختار مهنة الكتابة ليصفع نفسه بالوحدة أمام لوحة المفاتيح كل يوم لساعات. لا أعلم ما سيحمله المستقبل في ظل هذا التناقض الذي صنعته في الضياع بين نشأة تعودت على الحماس والسهر واللعب، وبين أعمال جدية يحاول أن يرسم بها الإنسان مستقبله مع ساعات طويلة أمام لوحة المفاتيح، على كل حال أجد أن حكمة الله اختارتني لهذه المهمة، ولا بأس بالنسبة لي على أيٍ حال طالما أنك ما زلت تقرأ هذه الكلمات يا عزيزي.

عموماً … تتغير طبيعتك الاجتماعية بعد أن تستوعب (عند الثلاثين على ما أعتقد) أنك لا تحتاج بالضرورة أن تُصاحب الجميع لكي تُثبت لنفسك اجتماعيتك، وإن كُنت من الأشخاص الذين يفضلون الانعزال، ستعود لتكتشف أنها على كل حال كانت نمط الحياة الأفضل لك منذ وقت طويل.

(٣)

يخاف الكثيرين من عمر الخمسين وآخرين من الستين والأغلب من الأربعين، وكنت أخاف من هذا اليوم عندما أصل إلى الثلاثين، ربما لأنني خسرت أهم بطاقة كنت ألعب بها أمام المجتمع والاخرين عندما أعرف نفسي بأني صاحب عمل خاص (وبعض النجاحات التي أتمنى أن لا تكون مزيفة) وأنا في بداية العشرين إلى أن انتقلت فجأة إلى الثلاثين. أو ربما لأنني استوعبت اليوم أن الحياة ليست متعلقة بي وحدي من الآن وحتى آخر يوم في حياتي! … أو ربما لأني أصبحت جدياً أُلاحظ أن الآخرين يعاملونني كرجل! بعد أن كُنت أُعد أحد أبنائهم أو إخوتهم الصغار، ولا مشكلة في الأمر الأخير سوى أنني افتقدت ذلك الإحساس بوجود من هو أكبر مني، لأصبح -أيضاً فجأة – الأخ الكبير لآخرين!

تستوعب أمر السن عندما تقول لك إحدى البنات أنها من مواليد ١٩٩٦، لتُصدم فجأة وتربط هذا التاريخ بادعائها أنها تبلغ العشرين! الكثير من الذكريات التي عشتها لا يستوعبها تماماً من لحقوك قليلاً في «موديل» الولادة، وعندما تشارك أهلك بالدفع عند أي خروج أو مشاريع ترفيهية تستوعب أنك بالفعل لم تصبح ذلك الإبن أو الأخ الصغير أو أي شيء آخر غير الرجل المسؤول.

أصبحت اليوم لا أحب أن أتحدث كثيراً عن عمري، ولم أُحب في يوم من الأيام الاحتفال بعيد ميلادي التي تذكرني بانتهاء سنة من عمري في هذه الحياة. ورغم ذلك أجد أنني سعيد رغم المخاوف التي عشتها، تماماً كغيري من الكثيرين الذين ينسجمون بطبيعة الحال مع أياً من المراحل العمرية التي يصلون لها، وربما سأعطي نفسي ذلك الحق بأن أدعي أن قلقي من الثلاثين كان مجرد وهم، فالحياة أصبحت أجمل، والقدرة على التعايش أصبحت أفضل.

استوعبت اليوم أن الأيام (يوم بيوم) … المتبقية ستشكل حياتنا كيفما نحب أن نصرفها فيها، أو كما قالت آن ديلاري “أيامك التي تصرف وقتك فيها، ستكون حياتك التي عشتها”.

(٤)

سأعترف لك بأن الزواج ربما يجعل منك إنساناً أكثر انتاجية حتى وإن لم تكن بغاية الاستقرار بطبيعة الحال، وتجعل لك الحياة الأسرية أكثر حباً للطموح، وسيزيد منك الأبناء حباً للمزيد من الحياة. ولكن الأهم من ذلك … أن تعرف ابتداءاً من هذا العمر كيف تقضي يومك، وكيف ستقضي يومك حتى تصل إلى الستين، وربما أنصحك بتأخير الزواج قليلاً إلى الثلاثين حتى تستوعب عيوبك وتناقضاتك وسخافاتك لتجنبها أهلك وكل من حولك، ومهما حاولت … لن تستطيع تغيير نشأتك وخياراتك التي عشتها، وبالنسبة للثلاثين أجدها كأفضل مرحلة عمرية تستطيع فيها (ربما) أن تعيش الحياة التي اخترتها لنفسك، متجنباً كل عيوب الماضي، فلا زلت بلغة الأرقام صغير السن، وبلغة الخبرة تملك البعض منها.

تعلمت أن الحياة لن تسير كما يجب إن لم يكن هناك من تستشيره في أمور عملك وحياتك، وكلما أوليت هذا الاهتمام للفضفضة والمعرفة، ستختصر على نفسك الطريق إلى الحياة التي فعلاً  تريد أن تنجح فيها لأنك اخترتها لنفسك. فلا تملك في النهاية إلا بعض الخيارات في مستقبلك، ومن الأفضل لك أن تكون خيارات جيدة.

كثرة السفر أثرت في تكويني مع هذا العمر، فقد أكرمني الإله بوالد يحب السفر -حتى رغم مروره في بعض السنوات في الماضي بتحديات مالية ليقوم بحسمها ببيع أصول أو مقتنيات مقتنعاً أن الحياة يجب أن يستمتع بها الإنسان رغم سوء الظروف-. يذكرك السفر دوماً أن الحياة أكبر مما تتخيل، وأفضل مما تعتقد، ويذكرك أحياناً أنك لا تعيش حياة طبيعية. كل سفرة مهما كانت قصيرة في حياتك ستضيف في عقلك الباطن الكثير من الأمور التي قد لا تستوعب أنها أصبحت تشكل جزءاً من شخصيتك، مع الكثير من الذكريات والكثير من الإجبار على الخروج من منطقة الراحة التي قد تحولك لـ”تنبل”يمشي على الأرض إن اعتدت عليها.

الحياة في الثلاثين تملأها روح الشباب والرجولة، والكثير من المراهقة أيضاً، فقد تستوعب مثلي أن الحياة مهما كانت جدية، فإنها جدية من أجل الحصول على المزيد من اللعب، ومهما كانت خانقة، فهي خانفة لكي تتنفس بشكل أفضل فيما بعد، بل ستستوعب أن كل السنوات التي مضت كانت مرحلة تسخين لما هو أكثر إثارة. تعلمت أن الجدية المطلقة تجلب نتائج جدية بالفعل، مصاحبة ببعض الملل، ولا يزال التوازن في كل أمر هو الأمثل كما أعتقد، فلسنا آلات، ولسنا ألعاب ڤيديو مهمتها في الحياة التسلية.

الحياة عندما تصل إلى الثلاثين … ستعطيك بعض الطمأنينة بأنه بالفعل لكل مشكلة حل، ومن حسن الحظ أن هذا الشعور سيستمر معك حتى الثمانين كما قال المرحوم عابد خزندار. يمكن لأي شخص أن يخبرك ما تريد سماعه في هذا العمر، ويمكن لك أن تصل إلى ما تحتاج إلى سماعه بالإنصات لقلبك، وأن تتقبل أن الحقيقة ليست مطلقة كما تظن في بعض أمورها، أعتقد أن الحقيقة ستظل تختفي طالما أنك مازلت على قد الحياة تستشعر أهمية البحث عنها، وربما ستصل إلى جزء منها لكن ستظل تختفي حتى تقنع نفسك أن ما تختاره هو حقيقتك فقط. الحياة حتى تصل إلى الثلاثين مميزة … وما سيتبعها أكثر تميزاً كما أعتقد.

سيكلوجيا الإنسانشؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

عن العيش كشخص عادي في المنتصف

أحد أصدقائي العزيزين والمسؤولين في شركة «المحتوى» في البودكاست أخبرني الجملة التالية: «أداؤك عادي، ولا تملك قبولًا كبيرًا كمستضيف». لم يقل أداؤك سيئ، ولم يقل أداؤك خارقاً للعادة، قال بما معناه: «أنت مستضيفٌ عادي». «العادي».. هو شكل معظم حياتي. وهو موضوعي اليوم. وُلدت أصغر إخوتي، ولكنني اعتدت

عن العيش كشخص عادي في المنتصف
للأعضاء عام

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟

مقالة ضيف

عندما فقدت ابني سألت نفسي: لماذا نحن هنا؟
للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟