تخطى الى المحتوى

عندما نخلط بين هويّتنا وعملنا

اليوم قد تكون مهندسًا في شركة، وغدًا ربما تكون طباخًا في جهة أخرى، وقد يكون من المضحك أن تعطي نفسك لقب المهندس الشيف فلان الفلاني

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
عندما نخلط بين هويّتنا وعملنا
Photo by Or Hakim / Unsplash

قرأت الاقتباس التالي:

«عندما نخلط بين هويتنا وما نعمل فيه، ربما لا عجب أننا نجمع العديد من المهام في قوائمنا، فهذا الأمر يساعدنا على الشعور بالارتباط بشيء ما. ولكن إذا كان التقييد يعني التَّقَيُّد، فهل نريد حقًا تقييد أنفسنا وتضييق هويتنا في أمرٍ ما؟.
قد يقول أحدنا أنا عدّاء، على سبيل المثال، ولكن بعد ذلك نخجل من أنفسنا عندما لا نتمكن من الركض كل يوم. نحن نرتكب خطأ تصنيف أنفسنا وحصرها داخل ألقاب، في حين أننا في الواقع مجموعة من الأفعال. نحن لسنا عدّائين، بل بالأحرى أشخاصًا يركضون؛ أنا لستُ كاتبًا؛ إنما إنسانٌ يكتُب.
الشخص الذي لا يكتُب لا ينبغي أن يكون إحساسه مرتبطًا بما يفعله كل يوم. نحنُ لسنا الأشياء التي نفعلها».

يذكّرني هذا الاقتباس على لسان مادلين دور، بقصة جاري العزيز الذي التقيته عام ٢٠١١م عندما انتقلت حديثًا إلى منزلي، فقد عرّف باسمه، وثم ذكر أنه يعمل في شركة كذا، واستأذن لثوانٍ من أجل أن يجلب بطاقة أعماله من السيارة. كان هذا الجار خلوقًا ومهذبًا جدًا، ولم يكن سياق اللقاء السريع يستدعي لأي أحدٍ منّا معرفة عمل الآخر، ولكن عندما تأملت تلك اللحظات اليوم، أعتقدت أنه مثل الكثيرين، كان قد وقع في فخ مكانته التي انحصرت داخل اسم شركته، وعلامتها التجارية. أنا لا أتحدث عن شخص متحمّس للتو باشر عمله الجديد، أتحدث عن رجل ذو خبرة (ربما كان في بدايات الثلاثينيات وقتها)، يملك حسًّا عاليًا تجاه الآداب العامة، إلا أن لحظات ذلك الموقف – حسبما أرى اليوم -كانت قد خانته في التعبير.

أحاول دومًا ألا أقع في نفس هذا الفخ. أستبدل كلمة «كاتب» بـ «أحب أن أكتب» عندما أتحدث عن أي شيء متعلّق بنشاطاتي الكتابية. هي ليست محاولات استعراضية للتواضع في الحقيقة، أكثر مما هي محاولات جدية لعدم إبراز أي شيء من الكِبر والله. وبصراحة أحاول تذكير نفسي بأن السمة التي يجب أن أتسلّح بها هي التعلّم المستمر، وهذا بطبيعة الحال أمرٌ يتعارض مع تلبيس اللقب للذات بشكلٍ متقدِّم أثناء التعريف. على كل حال، نملك جميعًا حزمة من المقامات، والسياقات التي يجب أن تكون متلائمة مع أحاديثنا وتواصلنا الإنساني، فأنا في قصة جاري العزيز، وددت أن أتعرف عليه كشخص بعيدًا عن تخصصه أو وظيفته، التي وللأمانة التامة لجأت إليه ليخدمني فيها بعدها بسنوات، وقد كان الأمر بمحض الصدفة طبعًا.

اليوم قد تكون مهندسًا في شركة، وغدًا ربما تكون طباخًا في جهة أخرى، وقد يكون من المضحك أن تعطي نفسك لقب المهندس الشيف فلان الفلاني، وبالطبع سيكون الأمر غاية في السخرية إن عرّف الآخرين عنك بنفس الطريقة.

التقيُّد بالسياق، والمكان، والإنسانية أجدى من التقيُّد بالمنصب! والله أعلم.

لاحظت هذه السمة كثيرًا في الأمريكيين عندما عشت لعامين في مدينة ميامي وعندما زرت أكثر من سبع ولايات مختلفة، الجميع هناك لا يسأل عن منصبك أو عملك إلا في مراحل متقدمة من التعارف، ولا يكترث الكثيرين إلى وضعك المادي، ولكن يهتمون بقدرٍ أكبر بجنسيتك بدافع الفضول، وذلك لطبيعتهم الاجتماعية التي لم أرَ مثلها عند أيٍ من شعوب الأرض (وأرجوا ألا يفهم القارئ اللبيب إنني في موضع تقديس لهذه الدولة وسياساتها، بل كل ما أحاول توصيفه لا يخرج عن إعجابي الشديد بطبيعتهم الودودة الاستثنائية).

ولاحظت أيضًا أن الإنسان عندما لا يحاول تقديم أي محاولات إبهار اجتماعية، يُصبح وقع مهنته التي يفتخر بها أو منصبه أكثر تأثيرًا (وربما جذبًا للفرص) إن قاد مجرى الحديث إليها. وحتى تلك اللحظة، أقترح أن نستمتع بالرفقة والتعارف، أكثر من التعريف والإبهار، والتقييد الذي يحشرنا في أماكنٍ ضيقة، أكثر من أن يُحررّنا على المدى الطويل.

كان الله في عون الجميع. 

عن العمل وريادة الأعمالشؤون اجتماعية

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا تطلب دون أن تعطي سببًا لطلبك

هذا السلوك خطوة ممتازة لدرجة أعلى في الذكاء الاجتماعي.

لا تطلب دون أن تعطي سببًا لطلبك
للأعضاء عام

لماذا لا تحب النساء خدمات العملاء من النساء؟ (التحليل)

الجزء الثاني

لماذا لا تحب النساء خدمات العملاء من النساء؟ (التحليل)
للأعضاء عام

عن السعي والتباطؤ

لا أعرف أحدًا افتخر بنيل أمانيه في وقتها وبالطريقة التي توقّعها.

عن السعي والتباطؤ