تخطى الى المحتوى

مقالة ضيف: ثقافة الحبحب العثري وأثرها على أجيالنا

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

هذه مقالة ضيف، بقلم أخي الكاتب: عبدالرحمن مرشود.


«العثري» في المعجم هو «ما سقته السماء من نخل أو زرع». 

وهي كلمة ما زالت مستعملة في أغلب عاميات الجزيرة العربية كما أعرف.

البطيخ من أشهر الثمار الذي يلتصق وصف (العثري) بها في العادة عندما يراد الإشارة إلى كونها نابتة عن ماء المطر دون جهد في سقايتها.

خطر لي أن أقدم مقالي بالتعريف عن هذا النوع من (الحبحب) كما يسمى في الحجاز، أو (الجح) كما يسمى في نجد، عندما عزمت على التطرق إلى تمييز الكاتب الكندي (مالكوم جلادويل) في كتابه (المتميزون) عن نوعين من ثقافة العمل، هما ثقافة (حقل القمح) وثقافة (حقل الأرز).

والفارق بينهما كما يقول جلادويل متعلق بكون الأرز يتطلب العمل الدائب غير المنقطع طوال العام من قِبَل المزارع، لاستغلال مساحة صغيرة من الأرض، في فسحة ضيقة من الزمن تشكل عمر المحصول في كل مرة. بينما لا يتطلب حقل القمح سوى النشاط في فترات قصيرة، تمتد بين البدء بالحراثة والانتهاء بالحصاد، ثم الراحة طوال فصل الشتاء في انتظار الموسم التالي. يزعم جلادويل أن جزءا من التفوق العملي لدى شعوب شرق آسيا ونشاطهم في الكدح دون ملل عائد إلى مورثاتهم الثقافية المكتسبة من زراعة الأرز منذ مئات السنين!

لو حاولنا مجاراة جلادويل في البحث عن جذور النمط المعبر عن ثقافة العمل لدينا، لما وجدنا ما يعبر عنها أكثر من (حقل البطيخ العثري)، حيث لا يخطر ببال المزارع أن يقوم بشيء أصلا قبل أن يسعفه المطر، ولا يقوم بشيء بعد ذلك سوى إلقاء البذور والانتظار لفترة قصيرة من الزمن قبل جمع الثمار الممتلئة بماء السماء.

إن نظرة حولك قد تكفي لإيجاد أمثلة لهذا النمط بنفسك، حيث ينتظر الكثير منا فرصته (العثرية) التي ربما لا تأتي، ونادرا ما يسعى بنفسه لخلقها بطريقة زراعة القمح فضلا عن زراعة الأرز. ولكن الخبر الجيد رغم تفشي هذا النمط بيننا هو أن إمكانية تقليصه بل والتخلص منه متاحة دائما.

تتحدث (كارول دويك) في كتابها (العقليات) عن نمطين من التفكير، هما عقلية الثبات وعقلية النمو، حيث يتصرف ذوو عقلية الثبات وفق تصورهم بأن الأشياء إما أن تأتي كهبة طبيعية أو أنها لا تأتي أبدا، في حين أن عقلية النمو يسلك أصحابها وفق تصورهم لإمكانية تطوير القدرات بالتعلم والتمهن. 

ينشأ هذان النمطان من التفكير عادة في سنوات التعليم الأولى للإنسان، حيث يكثر حاملو عقلية الثبات في البيئات التي تحتفي بقدرات الطفل ومواهبه الطبيعية وتقدم له الثناء عليها وتحمله على الاعتزاز بها بشكل رئيسي. بينما تشيع عقلية النمو في البيئات التي تطري على مجهود الطفل وجديته في التحسن، ناظرة بشكل رئيسي إلى ما أنجزه بهمته في التعلم وليس بسبب ذكائه الفطري.

من المؤسف أن بيئاتنا في الجملة تحث على تكريس عقلية الثبات، فالآباء والمعلمون غالبا ما يلفتهم في الناشئة تلك المنة المتمثلة في مواهب الطفل الفطرية، وهذا ليس خطأ لو أنه اقترن بالتحفيز على النمو والاحتفاء بالجهد بالدرجة الأولى، ولكن قلّ ما يحدث هذا فعليا. فربما لأننا نمثل بشكل عام ثقافة (البطيخ العثري) فإننا ننقل ذلك إلى أطفالنا حين نصنفهم “عمليا” عند تنشئتهم إلى نوعين (أذكياء يستطيعون فعل ذلك)، و(ليسوا أذكياء كفاية لفعل ذلك). 

يتأثر الأطفال بهذه الأحكام فما يجدونه سهلا في بداية حياتهم ويتلقون الثناء على امتلاك الموهبة فيه يستمرون في أدائه لبقية عمرهم، وما وجدوه شاقا عليهم أهملوه ولم يكلفوا أنفسهم تطوير مهاراتهم فيه.

ثبت إحصائيا أن من كانوا يتلقون في طفولتهم الثناء بشكل محوري على قدراتهم الفطرية ينتهي بهم الحال عندما يكبرون إلى مستويات أقل من النجاح إذا ما قورنوا بأولئك الذين كانوا يتلقون الثناء على مجهودهم وما تعودوا أن يحققوه بالجد والكدح.

من المفيد أن نقدم للطفل الإطراء على ذكائه، ولكن من المهم أن يوجه ذلك من باب خلق الامتنان لوجود تلك الهبة وليس الاعتزاز به. أما الذي ينبغي أن نخلق فيه الاعتزاز لتمتعه به بالدرجة الأولى فهو ما يصل إليه بمجهوده وعمله، فأمام كل عبارة تحفيزية مضمونها (من الجيد أنك ذكي) ينبغي أن يتلقى الطفل عبارات أكثر يكون مضمونها (أنت تبلي حسنا، هذا عظيم).

ولكن كي يصل هذا بصدق إلى أطفالنا علينا أن نقتنع به نحن أولا. المواهب الفطرية أشبه بالثروة الموروثة المفترض أن نمتن لوجودها لا أن نفتخر بها، أما القدرات التي تم صقلها بالتدريب والتعلم فهي ثروات مكتسبة تستحق الاعتزاز دون مواربة.

ربما هذا ما فهمته  ثقافات (حقول الأرز) ولم تفهمه بشكل كافٍ ثقافات تعودت ترقب السماء انتظارا لمواسم (الفقع) والحبحب العثري.

سيكلوجيا الإنسانمقالات عن سلوك الفنانين

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع