الشهر: يناير 2022

  • شعرتين بيضة

    يحكي عمر طاهر في كتاب المواصلات:

    «سألت صديقي الذي يكبرني قليلًا إن كان قد صبغ شعر رأسه «ولا بيتهيألي». أعرف أنه سؤال محرج، ولم يحدث أن وجهته لأحد، ولكن ما بيننا كان يسمح لي بقليل من الوقاحة. قال صديقي إنه يحاول أن يضع كل شيء في مكانه بالضبط، فالشعر الأبيض الذي فرض كلمته لا يشبه ما يشعر به تجاه حقيقة سنوات عمره، وأنه يشعر بأزمة يومية أمام المرآة، فهناك شخص آخر لا يشبهه يطل منها، ثم أنهى كلامه قائلًا: «مش عارف على إيه الشعر الأبيض ده كله، أنا لسه ما عملتش حاجة».

    ويضيف..

    «صديقي ليس من النوع «العايق»، ولم يفعل ذلك كذئب بشري محتمل، وهو ليس نجمًا يخاف على جماهيريته، لذلك صدقته، قلت له: «كل سن وله حلاوته»، لم يعترض، ولكنه قال: «أنا بس ما كنتش عامل حسابي… اتاخدت غدر». أخمِّن أن صديقي الذي عبر منتصف الأربعينيات قد تعرض لأكثر من «خضة» أربكت حساباته، من نوعية أن يسمع من مراهق شحط في الشارع: «يا عمو»، أو صديق «يمنشنه» في صورة مشتركة على فيس بوك وقد كتب عليها: «العجمي من 25 سنة».

    ثم يتبعها بقصة ابن الجيران..

    «كان صلاح جاهين يحكي أنه منذ طفولته، كان كلما انتقل إلى بيت جديد يفتش عن «بنت الجيران» التي ستصبح ملهمته، وستجعله يعيش حالة «ابن الجيران»، إلى أن استقر في بيته الأحدث، ويحكي أنه في أول يوم وعند خروجه التقى بـ«بنت الجيران» أمام باب الأسانسير، فابتهج وقرر أن يفتح معها كلامًا، فألقى تحية الصباح، فردت: «صباح الخير يا أونكل»، يقول جاهين: «ساعتها أدركت أنني لم أعد «ابن الجيران»، بل أصبحت «الجيران نفسهم»».

    وأعلّق: أن الانتقال السريع من خانة «الكشف» لحالة «الغطاء» من نساء الأسرة كان له أثرًا غير محمود في نفسي بصراحة، إضافًة إلى انتقالي فجأة من «مستقبِل» إلى «مُتبرِّع» بالعيديات والذي تسبب لي بنوع من الإحباط أيضًا، ناهيك عن الاشتراك الرسمي في جميع أنواع الطلعات العائلية دون أي محاولات تذكير إنني أصغر ثاني حفيد وأصغر ابن لوالدَي.

    سبب لفت الانتباه اليوم يعود إلى أن أحد الأصدقاء قبل يومين في طلعة بر كان قد علّق على انزعاجي من صوت الموسيقى المرتفع، بقوله «هذا اللي إنت فيه يا أبو حميد من علامات تقدّم السن!»، رغم أن هناك شعرتين بيضاء بالعدد في مكانٍ ما في الذقن.

    شيءٌ آخر داخلي أقنعني أن التصالح مع هذه الفكرة أمرٌ حتمي، طبعًا مع استبعاد ذِكرى الآنسة الكريمة التي سألتني في إحدى معارض الكتاب «إن كانت يجب أن تناديني أحمد أم عمو أحمد» لأخبرها -ليس من باب التواضع- بل من باب الهروب بالاكتفاء بأحمد (حاف).

    ولا أود أنا الآخر أن أشعُر بالغدر.. وفي نفس الوقت لا أود أن أتصابى عوضًا عن تهكّمي على المتمشيخيين.

  • التراكم والصرف

    تأثير العملية التراكمية Compound Effect هو إضافة شيء على شيء موجود سابقًا يزيد عليه ولا ينُقِص منه، يكبر في الكم والقيمة مع الوقت.

    كل كتاب تقرأه لا يحذف من عقلك معلومات قديمة، بل يزيد عليها. كل مبلغ تستثمره لا يُنقِص من القديم، بل يزيد عليه في الكم والقيمة.

    الصرف هو التبخُّر دون مردود كبير. التغريد وشراء الأشياء الغالية ووقتٌ طويل على التواصل الاجتماعي نوع من أنواع الصرف دون مردود.

    كل مقالة تُكتب تُضاف على التي قبلها دون أن تحذفها، كل لوحة تُرسم لا تُلغي لوحة قبلها، وكل جهد في مكانه الصحيح لا يُزيل جهدًا آخر، بل يزيد عليه.

    أرى أن هناك أمور يجب أن نسأل نفسنا حولها إن كانت تراكم أم صرف.

    التركيز على التراكم يعني النمو. والتركيز على الصرف يعني الخسارة.

  • مقاطع «الريل» التي تُعلمنا كيف نعيش

    لاحظت انتشار مقاطع Reel غزيرة على انستجرام تُشجع على حِزمة سلوكيات يتبناها الإنسان في حياته اليومية مع الآخرين، من مضمونها:

    «أنهي العلاقات المسمومة مع الآخرين» أو «اعتزل ما يؤذيك».

    «ضع حدودًا في علاقتك مع القريبين»

    «لا تنتظر أن يقف معك أحد»

    «نجاحك ورضاك الشخصي عن نفسك هو الأولوية القصوى»

    وفي رأيي أن جزءً كبيرًا من هذا الكلام بديهي، ولكن، القوالب المضحكة ومقاطع الأغاني المتكررة والصاخبة المصاحبة لها تعطيها نوعًا من الدراما، وأخشى ما أخشاه أن يتحمس البعض ويقوم بالتفاعل معها على أرض الواقع ليضع فجأة حدودًا في علاقته مع والدته مثلًا أو يقطع علاقته بزوجته التي يعتقد أن علاقته بها أصبحت مسمومة، دون الحرص على محاولات الصيانة في العلاقة (البديهية أيضًا) معهم.

    أتمنى بكل صدق ألا نكون قد أصبحنا مجتمعات حساسة، تُحرّكنا الكلمات والموسيقى الرنانة ومقاطع لا تنفك بالاختفاء، أخشى من الاهتمام المُفرط بالذات، وتناسي أننا مجتمعات اجتماعية بالفطرة نحتاج لأهالينا وأصدقائنا كما يحتاجون لنا، ولا نستطيع بأي حال أن نعيش بمفردنا.

    كثرة المقاطع والمنشورات التي تحاول تعليمنا كيف نتعامل مع من حولنا تشعرني بالغرابة، وكأننا في المرحلة الابتدائية في هذه الحياة ونحتاج تذكير يومًا بعد يوم إننا يجب أن نُرضي ذواتنا أكثر من حرصنا على من حولنا. وخوفي الأكبر أن كثرة المقاطع تعني بلغة أخرى كثرة الطلب والمشاهدة عليها.

    تعامل مع ما يؤذيك يا أخي ببداهة؛ ابتعد ببطء إن لم تستطع التعامل معه، لكن ابتعد أكثر عن الدراما. ولنتذكر أن ما يؤذينا وما نحتاج أن نضع معه حدود هو شيء أو شخص شديد النُدرة، لأن ما يزعجنا فيه غالبًا سلوك متطرف وليس عاديًا. طبعًا بافتراض أن من يقوم بعمل هذه المقاطع ملائكة من الجنة وليسوا مسمومين أصلًا!

  • المرتّب

    قرأت:

    في تأخر الراتب: «الموضوع يتجاوز يقينك أن الأرزاق على الله، فقد أرسل الله لك رزقك، لكن جهة العمل قررت أن تختبر إيمانك.» ثم يتبعها الكاتب المصري الساخر عُمر طاهر في كتاب المواصلات..

    «تكافئ نفسك أن «المرتب نزل»، وتبدأ رحلة «الفرتكة»، التي تشبه مباريات الدوري المصري، تبدأ سريعة مشتعلة، ثم يهدأ الإيقاع، وتنقلب الرغبة في الفوز إلى الرغبة في عدم الهزيمة والخروج بتعادل مُرضٍ يحفظ ماء الوجه، ينقطع نَفَسك وأنت تكافح في انتظار صفارة الحكم، ثم يفاجئك بدقائق طويلة وقت ضائع «ما كنتش عامل حسابه»، وقت عصيب يمر طويلًا، بالضبط مثل فترة انتظار القبض».

    جلست قبل يومين جلستي السنوية المعتادة لوضع الخطة المالية لي ولأسرتي. حجم الدخل المتوقع ناقصًا المصاريف المتوقعة لكل شهر على حِدة، إضافة إلى خطة الاستثمار أو الادخار (مخترعًا مساحة لهم). واستوعبت أن موضوع البركة ليس له علاقة في الخطة، وأن موضوع اختفاء الرصيد المودع في STC Pay بسرعة قياسية والخاص بمصاريف البيت لا يوجد فيه أي خلل هو الآخر.

    خرجت بقرار جذري جديد.. أن الارتزاع في البيت ومحاولة تحقيق أهداف القراءة والكتابة لهذا العام هي أهداف نبيلة!

  • مأزق التوازن مع السفر

    أتأمل كثيرًا حال من لا يحبون السفر، وأحاول من مدة طويلة إقناع نفسي بأن الاختلاف هو السُنّة الثابتة بين الأفراد في هذا الأمر بالتحديد. اختلافي هنا لا يخرج عن كونه محبتي الطاغية للسفر (حتى لمدينة الرياض) أكثر من الحِرص على البقاء فترة طويلة في جدة، مقابل محبة فئة الأحباء الاخرين في استقرارهم التام في مدينتهم وتخفيض أي نوع من المفاجآت أو المخاطر مهما كانت صغيرة (أجد هذه الفئة الحبيبة بكثرة في المدينة المنورة مثلًا).

    كثرة السفر رغم ما تحمله من إثارة وجمال تكسر كل أنواع التوازن في الحياة، فالسفر هو السبب الرئيسي في اختلال الميزانية، وهو السبب الرئيسي أيضًا في اختلال توازن روتين وناموس حياة الإنسان العملي والعائلي وحتى الغذائي. ورغم اعتقادي أن الإنسان -أي إنسان- طموح يجب أن يتسلّح في حياته بروتين صلب يختاره لنفسه كي ينجز أعماله ويلتزم يخططه التي رسمها هو بنفسه لحياته، إلا أن السفر أكبر عائق لتحقيق هذا التوازن بصراحة. أقصد بالتحديد السفرات الخطافية القصيرة حتى وإن كانت لهدف العمل نفسه، واستبعد بشكل تام الإجازات الطويلة.

    نحن معرّضين لمأزق محاولة بالاحتفاظ بالتوازن دائمًا مع السفر. ولا يمكنني هنا سوى البحث عن حلّين رئيسية لا تخرج الإنسان عمّا يرسمه لنفسه ويومه يومًا بيوم؛ ١. محاولة استحضار أمر الميزانية والوقت وعدم التحمّس بفرط الحركة فيهم و٢. محاولة المحافظة على الطقوس اليومية (خصوصًا الصباحية منها). فبهم ينعدل اليوم وينعدل الحال رغم الاختلال، فإن حسُن صباحك، سيحسُن يومك.

    طبعًا فرط الحركة عكسه السكون والانضباط ومراقبة العقل وهو يفكر!

  • قيمة الوقت في طلبات الأونلاين

    سأقول اليوم سر أتمنى ألا يقرأه أحد الأفاضل العاملين في المتاجر الإلكترونية: أنا من فئة الأشخاص الذين لا يمانعون ارتفاع السعر قليلًا (أشدد على كلمة قليلًا) في منتجات التسوّق الإلكتروني، مقابل الوقت والجهد الذي سيوفروه لي في حياتي اليومية، أتحدث هنا من ناحية المبدأ.

    أصبحت أكثر من أي وقتٍ مضى أعيش داخل مواقع التسوّق الإلكترونية، ابتداءً من شراء الدجاج المجمّد وانتهاءً بشراء أغراض النادي الذي استبدلته هو الآخر بالرياضة المنزلية.

    الوقت المهدر في التبضّع من السوق والسوبر ماركت أحيانًا يُصبح على غرار تضييع المال أيضًا. فالحِرص هو الحِرص كسلوك.. على المال أو على الوقت، أتمنى ألا يهاجمني أحد أو يخبرني إنني على خطأ.

    شراء الوقت يكون أونلاين.. وشراء المال باستثمار العروض من خلال زيارات السوبرماركت أو السوق.

    وعندما تختار الوقت على المال أو العكس.. قد أشجع الانتباه على السلوك (السهل الممتنع) بعدم شراء أشياء لا نحتاجها، فهنا لا استفدنا من الوقت ولا من التوفير.

  • لا تُشغل الدماغ بما لا تود أن ينشغل به

    ربما لا تخرج إحدى مشاكلنا في هذا العصر عن كونها انشغال أدمغتنا الكبير في أمور لا نود (ولا يفترض بنا) الانشغال بها في الحقيقة. يصف كريج مكوين في كتابه Effortless حالة الدماغ عندما تعمل بأقصى طاقتها في التفكير في أمور لا تهمّنا:

    «عندما تكون أدمغتنا بكامل طاقتها، يصبح كل شيء أكثر صعوبة. [نتعب] والتعب يبطئنا. الافتراضات والعواطف الماضية تجعل المعلومات الجديدة أكثر صعوبة في المعالجة. الالهاءات التي لا حصر لها في الحياة اليومية تجعل من الصعب رؤية ما يهمنا بوضوح.

    لذا فإن الخطوة الأولى نحو جعل الأمور أكثر سهولة هي إزالة الفوضى في رؤوسنا وقلوبنا. من المحتمل أنك واجهت هذا من قبل. عندما تشعر بالراحة والسلام والتركيز. أنت حاضر تمامًا لحظتها. لديك وعي متزايد بما يهم هنا والآن. تشعر أنك قادر على اتخاذ الخطوات الصحيحة».

    كلمتي السر هنا في «رؤوسنا وقلوبنا». فالالهاءات تخرج عن كونها استجابة لما نراه فقط، بل ما نشعر به في قلبونا أيضًا. عندما تنشغل أدمغتنا وقلوبنا بشيء لا قيمة له، أو في شيء لا يُعطي مردودًا حقيقي لحياتنا نتحول إلى مستجيبين لما نراه أكثر من ميلنا للاستجابة لما هو أهم خلال اليوم.

    ربما نستحق الانتباه للفكرة التي تقول: أن العقل يجب أن يوجه فقط لما نريد أن نتعرّض له، وليس بما يلتصق به القلب ولا يُفيد.

    أدمغتنا وقلوبنا تشعر بالإرهاق، ومن الأجدى لها أن تُرهق كل لحظة فيما نختاره بوعي لها.

  • الأمور البسيطة صعبة

    نباهة القارئ الكريم تعي الفرق بين البساطة والسهولة. إلا إنني أود أن أستوقفه لاستعراض الفكرة التي تقول إن البسيط في العادة ليس سهلًا؛ وأرى جديًا أن البساطة هي النقيض للسهولة.

    تريد المزيد من الإنتاجية في حياتك؟ الأمر بسيط.. استيقظ مبكرًا، هل الاستيقاظ المبكر دائمًا سهل؟ لا.

    هل تريد موظفًا استثنائي؟ الأمر بسيط.. ادفع أكثر.

    وزن أقل؟ أقفل فمك.

    لماذا آبل الأفضل في العالم؟ لأنهم الأبسط في تصاميمهم.

    الكلام المؤثر؟ صعب.. لأنه بسيط، مثل أم كلثوم عندما تقول «ياما عيون شاغلوني، لكن ولا شَغَلوُني»، أو مثل وردة عندما تقول «إنت اللي بتسعد أوقاتي وتأثر على كل حياتي أجمل تأثير.. أرجوك ما تسيبنيش وحديا وإن غبت ولو حتى شوية.. كلمني كتير» الكلمات هنا شديدة الأُنس، لأن الغني والفقير والمثقف والمتثاقف يشعرون بإحساسها. براعة أم كلثوم ووردة (مع أصواتهن) هي في قدرتهم على الاختيار.

    وإن راقبت عن كثب، ستكتشف أن أغلب المؤثرين شديدي البساطة فيما يقدموه أو يقولوه لدرجة الاستغراب أحيانًا.

    التعقيد أبو الرفض، في حين أن البساطة هي أم القبول.

  • المقالة ٧٠٧: وما يحتاجه الإنسان معها!

    كل يوم أُخبر نفسي أن اليوم سيكون أسهل في إنجاز الألف كلمة التي يجب عليَ إنجازها، أنظر إلى شاشة الكمبيوتر استغفر ربي على الذنب الذي ارتكبته باختياري لهذه الحِرفة، وأحاول أن أتناسى أنها أصبحت أصعب من البارحة، وأصعب بكثير من اليوم الذي أخبرت نفسي إنني أكتب من أجل التسلية أو إنني كاتب مغمور لن يركز مع تخبيصي أحد!

    ولا زلت أكثر مما مضى أؤمن أن التركيز في الجهود أهم من التركيز على النتائج.

    لا يعلم كاتب هذه السطور أن جائزة الكاتب السعودي ستأتيه بعد أن تجاوز كتابة المقالة رقم «٦٠٠» وأربع كُتب، وبالطبع لم يكن هناك تخطيط لها.

    أقول لمن حولي إنني اخترت حِرفة الكتابة لأنها «الأرخص والأسهل» للتعبير المنتظم عن الأفكار والمشاعر، فليس هناك ألوان وفرش ولوحات، ولا أحتاج إلى عود أو كمان أو مطبخ وبهارات. كل ما أحتاجه هو جهاز الكمبيوتر والقليل من الهِمّة، أو كما أُصوِر لنفسي دائمًا! «ليس هناك ما يُكتب، أنت فقط تجلس على الآلة الكاتبة.. وتنزف» كما يقول هيمنجوي، أو كما استوعبت.

    ولهذا أحترم كثيرًا وأهيم في كل مخلصٍ لفنه ومنضبط في عمله رغم عدم وجود خريطة أو إرشادات في طريقه.

    لولا الكتابة لربما كُنت شخصًا آخر يغرق كل يوم في ظلام نفسه وعُتمة الأفكار.

    ولولا أن هناك أشخاص كريمين بوقتهم يقرؤون.. لاهتزت الأنا وضاعت مع اهتزازها عزة النفس وإحساسها بأن شيءً ما ينقص هذه الحياة.

    أود أن أعترف أن كل يوم تزداد الحِرفة صعوبة.. كل يوم.. وهذا شيء مزعج في الحقيقة.

    إلا أن شيءً ما يظهر لي ويعطيني صفعة تقودني إلى طريق آخر، أعتبره طريق الصراع بين الحب والغضب والاستغفار من الذنب.. ثم بعض الشتم والسِباب العشوائي كل صباح.

    إن قصّرت قليلًا أشعر بالذنب.. وإن كتبت كثيرًا أشعر بالذنب لأنني أملك عائلة وعمل يحتاج إلى انتباه. وإن استيقظت متأخرًا أشعر بالذنب.. وإن استيقظت مبكرًا جدًا أشعر بالذنب أيضًا لأنني لم أعط هذه النفس حقها من النوم.

    أود أن أعترف أن كل رسالة أو اتصال من إنسان عزيز يقابله نوع سخيف من التأنيب الذي يخبرني إنني قصّرت في الالتزام بعدد الكلمات المطلوب مني اليوم؛ فكيف أكافئ نفسي بالخروج لمقابلته؟

    لا تريد صفحة «الورد» أن تتركني وشأني. ولا يرغبون بناتي الأطفال بالاقتناع أن والدهم يحاول إخبار الآخرين بشيء صباح كل يوم، مثلهم زملائي في المكتب، عندما أضع علامة «عدم الإزعاج» على باب غرفتي، ليقتحموها ويسألوني عن شيء مهم حقًا: «تغديت؟»

    لتنقطع مع سيرة الشاورما كل حبال الأفكار أو تختفي تمامًا بِذِكر المطعم الهندي خلف مكتبنا الذي طلبوا منه.

    كل من حولي مذنبون لأنني أنا -من اختار الكتابة- لم أكتب!

    هذه الحِرفة ترتبط بالإحساس بالذنب وبس.

    كل شيء يؤثر ما شاء الله على هذه المهنة النبيلة. كل شاردة وواردة ترتبط بالكتابة، حتى القصص السخيفة والمواقف اليومية، واللحظات الغبية التي يقاطعها أصدقائي بسؤالهم المعتاد «إن شاء الله ناوي تكتب اللي حصل في مقالة؟» لأعِدهم إنني سأتناسى، وأنسى، لأن كل شيء فجأة يزاحم الكلمات!

    واليوم في مقالتي السبعمئة بعد السابعة، أهدي القارئ الكريم المزيد من الحب والتقدير.. وأجدد العهد معه بإخباره أن الكاتب وكتاباته لا شيء دونه. أدام الله ظِله.

    وبخصوص بناتي الذين أحبهم أكثر من نفسي، وزملائي الذين حققوا كل النتائج المبهرة.. أقول لهم إنني أمازحهم مُراح الحبيب لحبيبه، فهم مع بقية أهلي وأصدقائي عالمي الذي أنتمي له، ولا أنوي في أي وقت قريب أن أكون خارجه.

    وكان الله في عون الجميع.

  • لماذا يقرر الإنسان ألا يفكر؟

    نحن نعلم أن قدرة الإنسان (متجاهلين رغبة الإنسان) على البقاء وحيدًا مع نفسه أصبحت أكثر صعوبة من أي وقتٍ مضى. وعندما نقول إن فكرة البقاء وحيدًا وبشكلٍ مؤقت من أجل التفكير في شؤون الحياة تعد من أصعب الأمور (حتى من قبل مشتتات التواصل الاجتماعي) فهي ليست من باب المبالغة.

    ويعتقد «إم سكوت بيك» النفساني المخضرم بأن السبب الحقيقي الذي يجعل الإنسان «يقرر» عدم الجلوس مع نفسه لغرض التفكير لا يخرج عن كونه «أمر مؤلم».

    التفكير السطحي أو عدم التفكير من الأساس لأي مشكلة، أو موقف، أو قناعة، أو خطة تواجهنا تعني إحساسًا (مؤقت) أقل بالألم؛ لأن التفكير العميق يقودنا دائمًا إما للإحساس بالألم، أو لحلول مؤلمة لتحديات سنواجهها.

    عندما يقرر الإنسان ألا يفكر.. فهو يقرر ألا يشعر بالألم.

    عندما يؤجل أحدنا مواجهة الألم فهو يختار الحصول على ألم أكبر في المستقبل.

    ويعتقد «بيك» أن كفاءة الإنسان في هذه الحياة لا يمكن لها أن تتطور إلا إن خصص وقتًا مستقطع ومنتظم من يومه للتفكير.. فقط للتفكير. لأن الإدراك يصعب الوصول له مع خاصية البقاء في طور الاستجابة للأحداث اليومية.

    فلا يمكن للإنسان أن ينجز عملًا ذو قيمة إن كان مستجيبًا لما يُطلب منه من زملائه أو أسرته وأصدقائه. ولا يمكن أن تتحقق الكفاءة المالية مثلًا مع رب البيت إن لم يقرر الجلوس كل فترة لمراجعة حساباته وخطته وما يتوجب عليه القيام به من دخله وادخاره واستثماراته في الحاضر والمستقبل.

    نفس الشيء ينطبق على مستقبل الأبناء، والإجازة السنوية، وخطط التعديلات الخاصة بالبيت، وغيرها. كلما خُصص لها وقت مستقطع للتفكير، كلما كانت تحمل نتائجًا أجود وأقل في مفاجآتها.

    مجرد الجلوس للتفكير هو بلا شك عمل إبداعي ضروري للنمو. وقد يكون هو الوسيلة الوحيدة لتجنب أكبر قدر من المشاكل والتحديات، أو على الأقل الاستعداد لها.

    تخيل أيضًا الجلوس للتفكير حول مواجهة أو الحديث مع شخص ما في موضوع ما حساس! هل تعتقد أن التفكير قبل الشروع في الموضوع يستحق العناء؟

زر الذهاب إلى الأعلى